النص:
—-
أنت دولة يا سعد! قصة قصيرة بقلم: حاميد اليوسفي
كل الناس يتحدثون عني هذه الأيام.. لكن لا أحد يعرف من أين جئت، وكيف كبرت بسرعة.
قلبي أبيض وطيب. كل ما تسمعون عني من الكلام الساقط مجرد باطل لتلويث صورتي، والحط من كرامتي..
والدي مثلكم مواطن بسيط من القاع الشعبي.. كان يعمل بيديه لنأكل.. يقول لنا دائما:
ـ يا أولاد.. البطنة تُذهب الفطنة.. الطعام ليس كل شيء في الحياة.. يمكن أن نأكل القليل، ونعيش بكرامة.. اللقمة الحلال تُشبع البطن الجوعان.. ولو هبطت إلى مستوى الخبز والشاي، فإنها تصنع الكرامة..
علمنا حب بعضنا البعض.. علمنا أن نقف بجانب بعضنا.. كان دائما يقول:
ـ عمر الدم ما يصير مية.. العائلة هي الحضن الدافئ الذي تلجؤون إليه إذا ضاقت بكم الحياة..
زرع فينا الحب وأخلاق الكبار، ثم رحل في صمت.. لم يترك لأمي لا قسيمة تقاعد، ولا رصيدا في البنك.. بيت صغير، ودكان في السوق تعود ملكيته للأحباس..
حل الأخ الأكبر محله.. قال:
ـ أنا أخوكم وأبوكم.. لا شيء سيتغير
سرنا على نفس الدرب.. بدأت أكبر.. حصلت على الباك، ثم الإجازة بميزة حسن جدا.. كنت أطمع في الماستر، وبعدها الدكتوراه.. جاءني أخي الأكبر.. خرجنا في جولة.. قال:
ـ اسمع يا سعد.. الحياة تعقدت.. صرنا ثمانية أنفس.. الأفواه تحتاج إلى طعام لتعيش.. دخل الصنعة يتراجع.. الحمل ثقُل علي.. أحتاج إلى مساعدتك.. أقترح أن تبحث عن عمل، وتتابع دراستك بشكل مستقل إن شئت.. لو كان أبوك حيا لقال لك نفس الكلام.. فكر في الأمر!
لم أنم ليلتها.. كنت آكل وأشرب وأنام من غير أن أفكر كيف؟ أحمد تحمل ما لا يُطاق.. أحمد كان دولة داخل الأسرة عليه أن يعمل، ويُعيل أسرته الصغيرة، ويُعيلنا نحن الاربعة.. يؤدي عنا مصاريف الغذاء واللباس والتمدرس والتطبيب. ويسأل في المساء عندما يعود إلى البيت، كيف مر يومنا في المدرسة؟ أمي وأختي تعلمتا الخياطة والطرز..
كنا خمسة قبل أن يتزوج أحمد وينجب طفلين، فأصبحنا ثمانية..
اجتزت امتحان مدرسة المعلمين، ونجحت بتفوق.. قضيت سنتين في مركز التكوين.. عندما نشرت الوزارة تعيينات الخريجين الجدد، طوحت بي بعض الأيادي الخفية إلى أعلى نقطة في جبال الأطلس..
أمي أقامت حفلا صغيرا لجاراتها.. حضرته حليمة بنت جارنا سي العربي، الطفلة التي أحببت في صغري.. كانت أمي دائما تهمس في أذني:
ـ اقرأ يا سعد، وانجح بسرعة، وعندما تكبر سأخطبها لك..
كتبت لها عشرات الرسائل، لكن لم أبعث بأي منها.. عثر أحمد أخي الأكبر على واحدة.. واخذني معه في جولة خارج الحي، وشرح لي بأنه لا زالت أمامي مسؤوليات جسام، وأن الحب سيصرفني ويشغلني عن الدراسة.. قطعت له وعدا بأن أكف عن هذه الحماقات.. أحرقت الرسائل، وأحرقت معها قلبي.. لم تسمح لنا الظروف أن نحب مثل بقية المراهقين والمراهقات..
ذهبت في بداية الموسم إلى الجبل.. كان أخي الأكبر يقترض لي من أصدقائه مبلغا من المال أعيش به حتى تصرف لي الوزارة أجرتي..
بدأت أدرك كم هي صعبة الحياة، مثلها مثل طريق الجبل.. توقفت الحافلة عند الكيلومتر 90 . قال مساعد السائق:
ـ انزل وانتظر، قد يأتي فلاح من هناك، ويأخذك معه إلى القرية، سمعت أنها تبعد بعشرة كيلومترات، والطريق وعرة لا تمر منها سيارات..
انتظرت ثلاث ساعات في الخلاء.. أخيرا ظهر لي مواطن يركب بغلا.. المصيبة أنه لا يتكلم العربية، وأنا لا أتكلم الأمازيغية.. تواصلنا بلغة الإشارة.. أظن أنه فهم بأني المعلم الجديد.. أخذ عني المتاع، وحمله على البغل، وسرت خلفه.. سأفهم فيما بعد بأن الرجل كان يأتي كل يوم لانتظار المعلم الذي عينته الوزارة لنقله إلى القرية.. التضاريس وعرة.. قلبي يخفق بشدة.. لم أألف صعود العقبات بهذا الشكل.. تجلّدت.. أبي علمني ألا أشكو من الصعاب.. الرجل يلتفت إلي بين الفينة والأخرى.. ننظر أحيانا إلى بعضنا، ولا نتكلم.. عندما وصلنا منعرجا خطيرا في الأعلى، نزل من على ظهر البغل، وطلب مني أن أركب، وأغمض عيني.. قاد البغل، وسار أمامي.. نظرت خلسة إلى الأسفل، شعرت برأسي يدور.. تعجبت كيف يعيش الناس في هذا العالم الذي يدور فيه الرأس عندما تصعد، أو تنزل منحدرا بهذا الشكل.. لا شيء سهل في الحياة.. حمدت الله أني كنت أعيش في المدينة، وأسير في طريق مستو، لا أشعر فيه بصداع ولا بدوخة..
هبطنا منحدرا آخر، فلاحت لنا القرية من بعيد.. وصلنا قبل غروب الشمس بقليل.. كم مر من الوقت؟ الوقت هنا غير مهم.. المهم أن تصل إلى المكان الذي تريد قبل أن يحل الظلام.. عند المدخل قدم الأطفال يجرون نحونا.. الشياطين حدسوا من بعيد بأني المعلم الجديد.. استقبلوني بالابتسام والضحك، وبعضهم مد يده لي.. تكلموا مع الرجل بالأمازيغية..
طلبت التسليم من أهل المكان.. كان والدي دائما يفعل ذلك عندما يدخل مكانا لم تطأه قدماه من قبل.. ربما كان يعتقد بأن الأمكنة تسكنها أرواح الناس الذين رحلوا إلى العالم الآخر.. وضعت متاعي في غرفة مظلمة بجانب القسم.. طلب الرجل الذي اصطحبني من أحد الأطفال أن يترجم لي ما سيقوله:
ـ مرحبا بك.. اعتبر نفسك بين أهلك.. اترك متاعك في الغرفة.. لا تخف، لا لصوص لدينا هنا.. سأعود بعد قليل لآخذك قصد تناول العشاء معي في البيت..
كانت ليلة رهيبة.. لأول مرة أبيت وحيدا في مكان غريب، بعيدا عن أمي وإخوتي، وبين ناس لا أتكلم لغتهم، ولا يتكلمون لغتي..
نمت في غرفة عند الرجل الذي قادني إلى القرية.. أيقظني صياح الديكة مع الفجر.. بقيت تحت الغطاء أنتظر أن ينهض مضيفي.. في الصباح بعد تناول وجبة الفطور، أمر ابنته بأن تنظف الغرفة التي سأسكن فيها، أما أنا فقد دخلت إلى القسم، ونظفته رفقة الأطفال.. مسحنا النوافذ بقطع مُبللة من الثياب، وغسلنا الطاولات والكراسي، وأخرجناها إلى ساحة صغيرة أمام باب القسم لتنشفها الشمس.. جففنا القاعة.. لحسن الحظ المدرسة لا تبعد عن الوادي إلا ببضعة أمتار.. الوادي تحيط به أحجار بيضاء تلمع، تتوسط أشجارا باسقة.. سأعرف فيما بعد بأنها أشجار الجوز.. في النصف الثاني من اليوم طلبت من الأطفال أن يلتحقوا بالدراسة..
بدأت العمل.. وبدأت الحياة الجديدة..
عندما أنتهي من العمل داخل الفصل في المساء، أوقد شمعة في الغرفة، وأشعل المذياع، وأهيئ براد شاي، وأتناول كسرة خبز مع قليل من زيت الزيتون.. أراجع دفاتر التلاميذ وأصححها، وأهيء درس الغد.. ما تبقى من الوقت أقضيه إما في المطالعة، أو التفكير في أمي وإخوتي.. كل وقت يمر بي أتذكر ماذا كنت أفعل؟ وأين؟ ومع من قبل أن أنتقل إلى هذا المكان المقدس الذي سترتبط به حياتي وحياة أكثر من ثمانية أنفس؟!..
أمي كانت تجلس في وسط المنزل في المساء.. تهيئ القهوة بالحليب، وتضع الصينية أمام أحمد ابنها البكر.. كنا ننتظر بشغف أن يُفرغ أحمد القهوة في الكؤوس، ويوزعها علينا.. والأم تقطع كسر الخبز الساخنة، وتضع فيها الزبدة التي تذوب بسرعة، وتترك مذاقا لذيذا مع القهوة بالحليب والعطور التقليدية..
بعد خمسة أشهر توصلت بأجرتي.. مبلغ كبير لم يقع مثله في يدي من قبل.. اعدت القروض التي استلفتها، وقدمت ثلث ما تبقى لأمي ومثله لأحمد واحتفظت بالثلث.. خرجت مع أخي الأصغر اشتريت له بذلة، وحذاء رياضيا، وقدمت لأختي فاطمة مبلغا لتشتري جلبابا، أو كسوة جديدة.. ذاب المبلغ الكبير في رمشة عين..
الأيام تمر بسرعة.. تحولت إلى دولة داخل الأسرة.. أخذت مكان أحمد أخي الأكبر.. أصبح علي أن أطعم، وأكسي، وأهتم بصحة أفراد الأسرة والأقارب والمعارف.. أقرأ الرسائل، ودعاوي المحاكم لأهل القرية، وأقدم لهم الاستشارات القانونية بالمجان..
تخلف مرة تلميذ نجيب كان يدرس عندي بالقسم.. زرته في البيت لأسأل عنه.. كان يوم عطلة.. وجدته مريضا.. أخذته للطبيب.. المستوصف بالمركز يبعد بعشرين كيلومترا عن القرية.. لحسن الحظ استلفت بغلا من أحد السكان، واضطررت أن أؤدي عنه مصارف الوصفة الطبية وطعام الغذاء.. أشتري لبعض التلاميذ المعوزين الدفاتر والأقلام واللُّعب أيضا.. في منتصف الشهر أصبح ربنا خلقتنا.. أتحايل على الطعام.. مثل المتصوفة.. أعمل بنصيحة والدي على أن البطنة تُذهب الفطنة، فلا أتناول إلا ما يسُدّ الرمق..
عندما أعود إلى المدينة أرى الأغبياء من أبناء شعبي يحتلون المناصب العليا، ويعبثون بالمال العام، قلت:
ـ لا يا سعد! هذا ليس عدلا!
ـ أنت أولى منهم..
ـ انت تُعلم الأطفال، وتصنع منهم رجال الغد..
ـ أنت لا تملك غير القليل، ورغم ذلك تقتسمه مع المحتاجين من أقاربك ومعارفك..
ـ أنت غدا سيصبح لك زوجة وأبناء.. العائلة ستكبر، وستكبر معها المسؤولية..
ـ أنت الدعم الاجتماعي والاقتصادي..
ـ أنت الدعم الصحي..
ـ أنت الدعم النفسي ..
ـ أنت تحل للدولة أكثر المشاكل تعقيدا..
ـ أنت ضمير المجتمع..
ـ أنت أولى بأن تُكرّم، وأن تُخصص لك الدولة أجرا يوازي ما تقوم به..
ـ أنت الدولة يا سعد؟!..
مراكش 15 نونبر 2023
القراءة:
—-
من الاحتجاج إلى الاقناع الأنيق
اليوسفي قاص مغربي، دائم التأهب لمتابعة الأحداث والتعليق عليها، من منطلق قناعاته التقدمية، بعد الابتعاد عما أسميه “الغطس السياسي”. ومردُّ هذا النعت يعود إلى العادة السيئة المتمثلة في تسرع بعض السياسيين في تحاليلهم المهزوزة، وانحسارهم في سطح المجريات، دون امتلاك رؤية ثاقبة للوصول إلى عمق الأمور. ولذلك يرتمون في الماء دون تعقل. هذا التهور سببه الرئيسي نوع من الإحساس بانتفاخ الذات، وكأنهم تحولوا إلى “كارتيلات” سياسية قادرة على فهم وتحليل كل الأحداث عالميا.
اليوسفي قاص مبدع، يستطيع قراءة الواقع السياسي والاجتماعي من منظور قصصي فني. وهي مسألة غير يسيرة، لأنها تتطلب قدرة حقيقية على الترميز والتحويل الفني لأمواج المجتمع المتلاطمة، وقد تكون أحيانا هوجاء ومحطمة للصخور.
عامل آخر جعله يحلل ويتابع معركة نساء ورجال التربية والتكوين من أجل حقوقهم المشروعة، يتمثل في تجربته النقابية، وانخراطه النضالي الصادق لعقود في الدفاع عن المدرسة العمومية وعن كرامة المدرسين والمدرسات.
من حدث الإضراب إلى النص القصصي:
ينتمي الإضراب إلى ما يصطلح عليه بالاستعجال، شأنه شأن الكوارث الطبيعية، أو الحرب، أو حملة قمع شاسعة، أو اضطراب سياسي كبير..
الاستعجال يختلف عن السير العادي للحياة اليومية، لأنه يُدخل الناس في إيقاع جديد موسوم بمشاكل جديدة وبمعاناة تحمل آثارا أعمق.. ولذلك فالكتاب والروائيون والقصاصون والمسرحيون والسينمائيون.. يتعاملون مع الاستعجال بنوع من الثبات والنمذجة، لتجاوز ما يجعله قابلا للتحول السريع على مستوى مكونات الخطاب الفني القصصي أو الروائي أو المسرحي، لكي يتحول إلى أدب يخترق الزمن ويتميز بالإبداعية ويمتلك القدرة على الصمود في وجه النسيان.
الأدب الفلسطيني شعرا أو رواية يرصد الحالات الكيانية الإنسانية التي يمكن القبض عليها، ويحولها إلى صمام أمان ضد الصهيونية بما هي وجه للكراهية والجشع الامبريالي. وهو بذلك يرسم معالم الحرية الإنسانية جمعاء، ويقيها من الوحشية مهما بدت أسبابها وذرائعها مغرية.
بالانتقال من الكوني إلى المحلي، كتب اليوسفي على أهل التربية والتكوين من خلال شخصية “سعد”، وهو بذلك سعى لخلق شخصية تخييلية تتميز بالنمذجة: شخصية ترمز إلى كل من يعمل في حقل التربية ويكد من أجل وطن قوي وشعب سعيد. وبذلك تحول النص القصصي “أنت دولة يا سعد” إلى نص دائم يخلد لحظة صمود، ليس فقط من أجل الدفاع عن حقوق الشغيلة التعليمية، بل أيضا من أجل صنع مغرب يتقدم بفضل التضحية والبدل والعطاء.
شخصية سعد في النص:
تتميز النصوص الإبداعية عن بعضها، حسب ما يمنحها قوة الإبداع والتعبير. وقد يكون عنصر الزمان أو المكان أو الحدث أو الشخصية..
يطول الحديث في هذا الصدد، غير أن حالتنا هذه تبين بشكل جلي أن شخصية “سعد” لعبت دور قطب الرحى داخل نسيج النص. ولذلك نجد أن النص غزل سداه انطلاقا من لحظة البداية بالتعرف على “سعد” والتآلف معه، ليكتشف القارئ مكامن هذه الشخصية في ذاته ووجوده.
هذا الدور الانطولوجي يجعلنا ننفذ تدريجيا إلى شخصية “سعد”، عن طريق تتبع نشأته وأسباب ترسخ قيم القناعة والإيثار والتضحية في نفسه، وكيف أصبحت العائلة بالنسبة له حجر الزاوية في رؤيته للحياة.
شعرية “البساطة” غلفت دلالات البداية في النص، ولا أدل على ذلك من الجمل القصيرة والبليغة التي تتجه مباشرة إلى عمق نفسية المتلقي: “قلبي أبيض” ـ “والدي مواطن بسيط من القاع الشعبي”.. “يعمل بيديه لنأكل” ـ ” اللقمة الحلال تشبع البطن الجوعان.. ولو هبطت إلى مستوى الخبز والشاي، فإنها تصنع الكرامة”.
هذه الصور السريعة تخلق سياقا دلاليا تقابليا، يحتمل وجود قيم أخرى لا تُذكر مباشرة في النص، لكن المتلقي يستشفها عن طريق لعبة الإلغاء القصدي من العملية التواصلية. فالقلب الأبيض يقابل سواد القلب عند الجهة المجهولة. وكذلك حين يقول “والدي مواطن بسيط من القاع الشعبي” فهذا يتعارض مطلقا مع كائنات اجتماعية تحتل المراتب العليا، ويتميز سلوكها بغلبة القهر والسيطرة والجشع.
لن يكشف القاص عن هؤلاء إلا عند اقتراب النص من بلوغ قصده، أي اكتمال دور “سعد” في حمله ثقل العائلة ومسؤولية المتعلم، وكذلك هم البلد. عندها يفصح السارد عن الطرف المخفي في عملية التضاد: “عندما أعود إلى المدينة أرى الأغبياء من أبناء شعبي يحتلون المناصب العليا ويعبثون بالمال العام”.
شعرية التفاصيل والرفع من شأن المعلم:
يلجأ اليوسفي إلى انسيابية بديعة في الحكي، فينقل القارئ من مستوى المتأمل لنص مكتوب إلى مستغرق في حياته الخاصة.
لذلك يتحول النص إلى شرك بديع يأسر اللب عند الاستغراق في ملامسة تضاعيف الحكي. وهي عملية ليست بالسهلة مطلقا، لأن ديدنها الصدق والرؤية الثاقبة التي تصل بك إلى أعماق ذاكرة المتلقي لتنطق الصامت والمنسي وأحيانا المسكوت عنه.
المسار الحكائي الذي قطعته شخصية “سعد” ليس فيه “ما خفي أعظم” ـ كما يقال ـ وهو يختلف كنموذج إنساني عن أولئك الذين يجثمون على رقاب الفقراء، ويغتنون بفضل إتقانهم “فن” اقتناص الفرص على حساب ما يُنمي سبل إسعاد الشعب بسد احتياجاته الكريمة.
“سعد” ليس لديه إلا روح التضامن التي أُغدقت عليه ما أن قرر أن يتحول إلى معلم/ فاعل تنموي في وسط قروي جبلي يفتقر إلى أشياء كثيرة، لكنه يتميز بالغنى الروحي الذي يطبع حياة البسطاء من المغاربة ـ بالغين ـ وليس المخاربة ـ بالخاء ـ الذين حجبهم النص، وأسقطهم من فضائه الحكائي.
الدولة كمعطى ذاتي في النص:
الدولة حسب منظري علم الاجتماع السياسي هي أجهزة تنتج وتعيد إنتاج نمط اقتصادي وسياسي ومجتمعي.. تطورت الدولة من مفهوم الدركي الذي لا يتدخل في المنافسة إلى الرعاية الاجتماعية. فهي تتدخل عبر التخطيط وتحمي اقتصادها، فضلا عن الأمن الداخلي والخارجي.. فماذا لو تخلت عن أدوارها هذه وانصاعت لتعاليم الليبرالية المتوحشة التي تقهر البلاد والعباد؟ هذا السياق هو ما أدى ببعض المتنفذين إلى شن حملة على المدرسة العمومية والمعلم، بهدف تشويه صورتهما النمطية في الأذهان، وتحويل الاستثمار في الموارد البشرية إلى بئر يمتص تجار الأزمات ماءها.
هكذا جاء ـ من العدم ـ من اعتلى منصة إعلامية، ليفتي في شؤون المعلم، ويبشره بأن دوره ستنهيه الدولة في القريب العاجل إذا ما لجأ إلى حق الإضراب لصون حقوقه وكرامته!! وما أصدق ما قاله الخالد د. محمد عابد الجابري: ( إن كثيرا من رجال الدولة “صانعي القرار”، إما متخوفون من رجل التعليم أو يحتقرونه…)
اليوسفي قام في النص بإسقاط لعملية أدوار الدولة على “سعد” بحيث أنضج ملامحه كشخصية فنية عن طريق إعلان مبادئه وقيمه الأخلاقية وجعلها متمركزة على ثقافة العطاء وليس الأخذ. هو أيضا يقدس المكان الذي آواه كمربي، كما يقدر عائلته، وقد ساعد تلميذه حين مرض، واختار إيقاف تعليمه العالي، ليتحمل مسؤولية العائلة ودعم أخاه البكر “أحمد”.. بل أجل زواجه، وتكوين أسرته الصغيرة، لدعم عائلته الكبيرة.
وفي لحظة معينة سينبه السارد شخصية سعد إلى أنه يعوض دور الدولة في المسؤوليات المتعلقة بالرعاية الاجتماعية. ولذلك وظف ضمير المخاطب إجلالا له ولأشباهه من أستاذات وأساتذة هذه الأرض المعطاء.
من جهة أخرى استعمل “أثر الصدمة” Effet de choc ليحول المخاطب إلى جمع يمرر عبره خطابا واضحا، يمسح كل ما تعج به الساحة الإعلامية من مغالطات تروج بهدف افتعال الحواجز التي تمنع الرؤية، وتشوش نظرة التعاطف الذي يكنه الشعب للمعلم.
وقد جاء أثر الصدمة على شكل نفي قاطع موجه حصرا للشخصية المحورية: “لا يا سعد”.
بعد ذلك انتقل إلى المفاضلة بين “سعد” وضمير الغائب “هم”: أنت أولى منهم. وقد سبق الإشارة إلى أن ضمير الغائب يحتمل مؤشرات سلبية قائمة على تغييب المنتفعين والمتاجرين بأرزاق الفقراء من الفضاء التواصلي الإيجابي للنص.
عندها يعدد السارد الأدوار التي يقوم بها “سعد” متّبعا إيقاعا تصاعديا، يفضي في الأخير إلى إعلانه تجسيدا للدولة.
بهذا الصدد يمكن الإشارة إلى أن الدليل “دولة” في العنوان لم يحمل “ال” التعريف، غير أنه في نهاية النص اتصلت به، وهي تفيد مطلق المعنى.
شخصية “سعد” تحولت إلى رمز أيقوني ثابت المعنى، ومتعال، يجسد عظمة المربي، وينزهه عن مختلف الدسائس التي تُحاك ضده من طرف دعاة الجهل والتجهيل.
اليوسفي لجأ في هذا النص إلى سمفونية قصصية ترفع الهمم، وتدعو للانخراط الإيجابي في صنع أجيال المستقبل. هذه السمفونية اختطّت بفنية عالية، أزالت عنها خشونة الخطاب النقابي الصرف، وألبستها جلبابا قصصيا بديعا.. وما أشبه هذه القصة باليد التي ستقتلع الأعشاب السامة لتزهر ألف زهرة.
مهدية 18 نونبر 2023