أنا الطفلة المختبئة خلف تجاعيدي، لازلت احب الحلوى ، واللعب بالتراب،لازلت قادرة على حمل نملة دون أي خوف ..
لكن الجميع مصرون على وضع المرايا في كل مكان، المرايا التي لا تعكس سوى الشكل الخارجي..ولا يمكنها فتح صندوق أرواحنا المحلقة..
أحاول أن أخطو خطوات ثابتة نحو نعيم ذاتي بعد كل هذا العمر أنا لم أتاخر ،كنت فقط منهمكة في سقي بعض البذور الآن وقد كبرت واشتد عودها ،سأعود أدراجي نحو الطفل الذي بداخلي فقد أهملته لعقود من الزمن..
كان يومها ليس كباقي الأيام، ودعت إبني (آخر العنقود) كان يضع ما تبقى من ذكرياتنا داخل حقيبة سوداء ، لينطلق نحو المستقبل، ويبدأ سعيه الطويل و تسقط منه أول ورقة من تلك الطفولته البريئة..
لم أستطع إيصاله نحو الباب ،اكتفيت بعناقه وأنا جالسة على الكرسي ،كان يبكي بحرقة وهو يقول :”كيف سأتركك يا أمي وحيدة بعد كل هذا العمر ،من سيهتم بك؟!
إنها الحياة بني، ولا مفر من وداع
سأتدبر أمري! لا تقلق..
كانت هذه آخر مرة يفتح ذلك الباب للأحبة،عشت ألمي لليال طويلة ، كنت فقط مثل المراقب أحدهم يقدم لي الطعام ، ويرفعه من أمامي ثم يغادر المكان ..تعبت من هذا الموت المفعم بالحياة، لماذا علينا أن نموت قبل خروج الروح ؟ لماذا علينا أن ننتظره بأسى ؟ لماذا لدينا تلك النزعة لإنهاء الحياة…خلعت ثوب الأحزان، وقرر أن أعيش مثل تلك السلحفاة النشيطة جدا،لولا أحجار الماضي التي تكومت فوق ضهرها..
خرجت من غرفة النوم متجهة نحو غرفة المعيشة.. قدماي ثقيلتان، أرفع واحدة وأجر الأخرى خلفها، هذا المشوار هو الأبعد منذ أن اتممت عقدي التاسع..
أحلم كل صباح أن أصل إلى الكرسي الهزاز دون أي مطبات؛ فغالبا ما أصطدم بحافة السجادة وأقع على الأرض ثم أعود أدراجي نحو السرير لألملم آلامي لكن محاولاتي لن تكون لها نهاية
هذه المرة كانت عزيمتي أكبر، كنت مشتاقة للجلوس فوق الكرسي وأستلقي بظهري المقوس، لأراقب تلك اللوحة المعلقة على الجدار ، إنها تذكرني بشبابي، ملامح الفتاة البريئة المفعمة بالحياة..
ما زلت أخطو نحو هدفي، ساقاي ترتعدان من التعب، وعصاي تحاول لعب دور القدم الثالثة لكن دون فائدة، غالبا ما ألقيها جانبا فهي تشعرني أنني أصبحت عجوزا، وأنا أرفض هذا الشعور،
“ممارسة الحياة ببطء تجعل من الأشياء أكثر قيمة..
ماذا لو ركضت نحو الكرسي في ثانيتين؟
هل سأشتاق له كما أفعل الآن؟ أمضيت عمرا طويلا في الركض خلف كل شيء، وها أنا ذي أحاول أن أستوعب دروس الحياة بالعرض البطىء…
أخيرا وصلت؛ ربما وقعت الكثير من الأحداث، وأنا أحاول الوصول، جارتي عادت هي وأطفالها من المدرسة، ساعي البريد أنهى عمله للتو، الشمس تحاول التسلل نحو الكرسي من خلال النافذة، إنه المكان الوحيد الذي أستطيع من خلاله معرفة كمْ مرت من أحداث أثناء عبوري لذلك الممر الطويل..
أين كان عقلي عندما قررت السكن في هذا المنزل الكبير؟
أظن أنني لا أحتاج إلى منزل، أريد فقط نافذة وكرسي هزاز وبعض الأصوات لتذكرني بأني على قيد الحياة…
لقد انتصرت مرة أخرى على قدميَّ الثقيلتان، لكن الوقت يمر بسرعة لحظة الوصول ، ولا ندري إن كان هذا الشغف تقتله طول المسافات أم يقتله الوصول..
ها أنا أراقب الغروب ، إنه يوحي بالنهاية ، لكنها مجرد وهم تصنعه أعيننا ، لأن رؤيتها قصيرة المدى، الشمس لا تنتهي أبدا ،أرضنا هي التي تودع الشمس..
عندما يختفي آخر خيط من خيوط الشمس الذهبية ، تبدأ الذكريات بالهطول كمطر أيلول المفاجئ ، أعود أدراجي نحو غرفتي، أستند على الحائط كما يفعل الطفل وهو يحاول المشي لأول مرة ، أفتح ألبوم الصور إنه كتابي المقدس الوحيد الذي يدب في أعماقي إكسير الحياة ،أقبله قبل بدء الرحلة ، أبتسم أحيانا ، واقطب جبيني أحيانا أخرى ، تنزل دمعة ؛ تصيب وجه زوجي داخل الصورة، إنه يحملني فوق ضهره ،أمسحها بمنديلي المطرز ، كما كنت أفعل دائما عندما تضيق به الحياة ..
أستلقي على السرير ، أراقب سقف الغرفة ، انه موعد ظهور أطياف الغابرين، ” أمي،أبي جدي، جدتي ، زوجي ،صديقتي” إنهم غاضبون لأنني لم أنتقل الى عالمهم بعد ،هم يعلمون أنني كنت فتاة شقية لا أستسلم بسهولة..
الليل لم يخلق إلا لعصر الذاكرة، وتفتت الروح، أنا هنا في ظلمات ثلاث ، ظلمة الأرض،ظلمة الروح وظلمة الآتي..
ألوح بيدي الثقيلتان ولا ألمس سوى السراب..كل يوم يمر أشعر أنني أغرق داخل جسدي ، وأعجن آداميتي بماء الصبر ، وانتظر متى سيسقط عالمي في قبضة يدي..