-يا صباح النور، يا صباح الخير، كيف حالك اليوم؟
لا أفقه شيئا، فقط أتفحَّص حركة الشفاه، كأننّي به يلقي التحيَّة مع هذه الابتسامة الفاترة ، أنظر متسمِّرا ثم أهمُّ بالردّ” مساء…” تتغيّر ملامح وجهه، يظهر أنني ارتكبت حماقة، ربما يكون قد قال كلاما آخر، أظنّه يسأل عن حالي لا ضيم في الإجابة، ” أنا بخير الحمد لله على كل حال” ، يرفع حاجبيه مستغربا فيزيد إرباكي، إذا سأصمت، لن أجيب مجددا .
تعقبه حسناء رقيقة، تبتسم لي كلما تراني، تنبس ببعض الكلمات لكنني سأصمد أمام إلحاحها. كي لا يستهزئ بي أحدهم ثم يدعي أنه يمازحني كما يفعلون كل زيارة.
تدخل عجوز سمراء كالحة الوجه تدفع الطاولة النقّالة أمامها، عليها بعض الشراب و الطعام، زقزقت عصافير بطني فرحا للوجبة، لكنها لم تتفوّه بكلمة.
عدّلت جلستي واتّكأت إلى الوسادة مستعدّا للعشاء، حدّقت في الطبق، كوب حليب ساخن وقطعة خبز مطلية بالزبدة والمعجون، اكتأبت لهذا العشاء، ظننته دسما بطبق فول مدمّس و هريسة حارة الأنفاس مع حساء ساخن يرمّ العظم الوهن، دفعت الطاولة ونظرت إلى حسنائي الجميلة شزرا ، _ أين وجبتي المفضلة، ألم تعِديني بها منذ المساء؟
رفعت حاجبيها استغرابا من تصرّفي واستدعت شخصا آخر يرتدي نفس الرداء الأبيض الناصع، فأسرع بإقناعي بتناول الوجبة الأولى قبل دخول غرفة الكشف.
عدت متوسّدا ذراعي حزينا، تترقرق دمعاتي لذكرى أمي و دلالها. اقتربت الجميلة مني تحاول مغازلتي بمسح جبيني و مداعبة كتفي، ” هيّا يا حاج يكفيك دلالا في المساء أعدك بإحضار طبق الفول والهريسة، لازلنا الآن نستقبل صباح يوم جديد لم نتعدّ السابعة، هيا كي لانغضب الدكتور ”
أنستني رائحة عطرها الشذيّ ألَمَ الجوع كسحر ساحر لئيم، فطلبت يدها مباشرة واعدا إياها بكل ثروتي و أنا خجل ارتجف كصبي مراهق، تتزايد دقات قلبي نبضا أو رقصا أو جنونا و العرق يتصبب على غير العادة.
لم تمانع الطمّاعة، لا تعلم أنني لم أكوّنْ نفسي بعدُ بل لازلت أحصل على مصروفي مما يجود به عليَّ والدي كل صباح قبل الدوام ، يظهر أنها سهلة المراس .
تناولت كأس الحليب من يدها وقضمت خبزي الشهي قضمة قضمة حتى أخذت منديلا و مسحت فمي، هممت بتقبيلها فانتهرني ، شخص غريب داهم المكان لحظتها ، صائحا ” أبي، أبي اتركها إنها الممرضة” . لم أفقه ما يقول وأين كان يختفي والده في تلك الغرفة الصغيرة لكنني طلبت منه أن يشتري لي خاتما ذهبيا وسوارا أنيقا و يدعو والديّ وبقية أفراد الأسرة لحضور حفل زفافي، طلبت منه كذلك كساء أبيض جديدا وعطرا فوّاحا وحذاء لمّاعا… كان الأحمق يطأطئ رأسه موافقا فرحا بالدعوة، أضفت خجلا لا تنس قطعة المرطبات و الشربات…..
غادرت جميلتي مقهقهة، لم تستح مني كما فعلت سابقاتها..
اقترب مني ذاك الشاب و قال كلاما كثيرا لم أفهم شيئا منه … أمسك يدي قبلها حد الإشباع، ثم غسلها بدمع ساخن، تحسست ملوحته فأشفقت عليه.
كان حزينا، اقتعد كرسيا إلى جانبي و أخذ ينظر إلى السقف، كأنه يجاهد دموعه، حتى جاء غيره ليجلسني على كرسيّ متحرّك، قاومت بشدة، لكن ساعده جليسي حتى أحكموا توثيقي. وغادرت الغرفة متألما.
لم أعد إليها إلا ممدّدا، غطّوا وجهي بخرقة بيضاء و حام حولي الجميع يبكون في زفّتي دون مباركة. حزّ في نفسي
كيدهم لي لماذا حرموني فرحتي مع الحسناء ؟ .. لماذا لم تحضر بعد؟ جالت كل الخواطر السوداء بأذهانهم كنت ألتقطها مشفرة، و لسان حالي يقول دوام الحال من المحال.
، أقرأ انتظاراتهم و تخميناتهم قبل العزاء. و أنا لا هم ّ لي غير الكسوة البيضاء و حوريتي الغيداء.
كان الكل يبكي يردّد، اللهم حسن الختام..