بدأ واجبي في نقطة الحراسة في الساعة الثانية بعد منتصف ليلة عصيبة، جلستُ وحيداً بين أكياس الرّمل الممزقة. وضعت بندقيتي بجانبي وتركت عقلي يتحرر لحظة من الزمن، من كل هذا الركام من الاحداث المخيفة التي لا تترك مجالاً للتفكر او الاستغراق. يتجول في ظلام الليل وسحر هدوءه. أغمضتُ عينيّ فسمعت صوت أمّي الشجي حد البكاء، ارتفع صداه في ظلمة الليل، فأخذني في رحلة جميلة نحو الماضي. عندما كنت صغيراً وأرى العالم من حولي جميلاً، جالساً بجانبها منصتاً اليها وهي تغني لأخي الصغير في حضنها كي ينام. مضى من الليل شطره وانا خافض رأسي بين اقدامي لم أدرِ متى اجهشت بالبكاء، يرتفع صوت بكائي حد الاختناق كلّما تأملت وجوه رفاقي الذين مزقتهم شظايا الانفجارات ودفنوا تحت أنقاض الخنادق. لم أستطع التخلّص من صوت احمد وهو ينطق كلماته المبتورة ببطء قبل أنْ يلفظ آخر أنفاسه، يريد أنْ يوصيني رغم جراحه النازفة ورغم الألم الذي يجعل جسده يرتجف كأنه جناح طائر مكسور. احتضنته وأخذتني الرّجفة قبل أنْ أسحبه الى داخل الخندق متمنياً أنْ لا يموت. لكنّه ودّعني حينما نطق آخر كلماته (سوف أموت قبل أنْ تولد ابنتي.. كم تمنيت أنْ أراها وأضمّها الى صدري).
أنقذني محمد من انفجار قريب. سحبني بقوة الى داخل الخندق. ارتمى فوقي تاركاً الشظايا تخترق جسده. وعندما رفعت وجهه المغبر كي أصرخ لماذا أنت ولم أكن أنا، وجدته قد مات. أزحتهُ عني ونظرت اليه. كانت عيونه مفتوحة تحدق في فراغ معتم وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة لن أستطيع نسيانها.
زحفت بين البنادق المتناثرة واقتربت من حسن، لا اعرف لماذا أردت أنْ أكون قريباً منه، ربما تمنيت أنْ أسمع منه كلمة تزرع الطمأنينة في نفسي، فهو الوحيد من رفاقي الثلاثة من كان يملك القدرة في أنْ يزرع الطمأنينة داخل نفوسنا الضعيفة، بصوته المبحوح عندما ينشد لنا أبياتاً من أشعاره التي يؤلفها في أصعب المواقف. والتي تخرج من أعماق نفسه بعفوية لا يمتلكها أحد غيره. كان يلوح الي ويناديني بصوت ضعيف يريدني أنْ أصل اليه بأسرع ما يمكن. لم يكن بعيداً عني. لكنني شعرت انّ المسافة أخذتْ تمتد كأنني أسبح في بحر عميق متلاطم الأمواج. لم تكن لحظات من الزمن تلك التي تفصلني عنه. كانت أمواجاً من العدم. تضرب في وجهي وتحجز نفسي في ركن مظلم. الخوف والرعب جعلاني كالمجنون. أسمع صوتي المرتجف يرتفع وأنا أزحف مقترباً منه. عندما وصلت اليه وجدته جثة قد مزقتها الشظايا. أمسكته بكلتا يدي وحركته بقوة صارخا بوجهه (لا، لا تتركني…لا، لا تتركني) ثم ارتميت بجانبه ولم أعد أشعر بشيء من حولي.
صدى خطوات الجندي الذي يستلم الواجب من بعدي أيقظتني من كل تلك الذكريات التي تلاشت مع الرياح الباردة. نهضت بعد أنْ مسحت دموعي. علقتُ بندقيتي على كتفي وتركته وحيداً يواجه مصيره في نقطة الحراسة.