في حين غفلة من العالم ..صوت أقوى من الرعد يُدَوِّي، كأنما السماء انشقت، وكأن الأرض مُدَّت وألقت مافيها وتخلت ..زلزال يرج الأرض رجًّا ويدكها دكًّا ، وفي لحظة ..كل شىء انهار ..تحطم ..تفتت وصار ركامًا ..والدنيا صارت ظلمات فوق ظلمات، كأنها يوم الصاخة.
حاولوا الفرار بكل ماأوتوا من قوة باقية وسرعة مع ثقل قدميهم وأنفاسهم الحائرة، حتى ساد صمت لوقت ليس بقليل..سكون رهيب يطوي هذا المكان الضيق الذي قبعوا فيه محشورين ..هؤلاء الأخوة الثلاثة ولدين وبنت، لم يتوصلوا إلى أخيهم وأختهم الأخرى ووالدتهم التي ليس لديها غيرهم بعدما استشهد أبوهم في إحدى الغارات الضارية التي أغارها العدو الصهيوني على غزة في 2014 وتولت أمهم رعاية الأبناء الخمسة .
ظلوا هكذا في سكون في هذا المكان الظليم حتى وجدهما شخصان معفَّرَيْن بتراب الهدد ، فأخذا بيديهما ليذهبا إلى مكان ربما يكون أكثر أمانًا، فاتبعاهما حتى وصلا إلى مكان عبارة عن مبنى من عدة طوابق ..أدخلاهما الدور الأرضي ..نظفاهما بقليل من قطرات مياه، وألبساهما أردية بيضاء وتركاهما في غرفة معًا، كان بجوارهما بعض من رفاق المدرسة وآخرين من جيرانهما، تبادلواالسلام وأطراف حديث صامت، فعيونهم تتحدث ودموعهم هي المعبِّر والمتكلم.
لكن مالبثوا أن فكروا في أمهم وإخوتهم ، فجاء أشخاص أخذاهما، وتسللوا في بهيم الليل بهدوء وجرأة، وخرجوا من المكان باحثين عن آخرين.
مشوا في طرق وعرة، يتخللها بين الحين والحين أصوات الطائرات والصواريخ والقذائف الماطرة حولهم والنيران المشتعلة في كل مكان، وضباب الدخان الحاجب للرؤية.. وفي طريقهم وجدوا أنهم يسيرون على أرض دامية قد رويت بدماء الشهداء الذين أريقت على أرض فلسطين، أرض الأنبياء، وكم من أنبياء قتلوا من أبناء عمومتهم ، وكم من دماء شربتها هذه الأرض منذ مئات السنين ومازالت تصرخ وتستجير :”هل من مزيد! “.
مروا على أشلاء البيوت التي كانت بالأمس تحيا وتعيش.. وأشلاء أناس.. هنا يد منزوعة.. هنا رأس مقطوعة.. هنا ساق مبتورة.. وهنا جزء من جزء وأصابع من يد.. ثغر مبتسم، وآخر مفزوع.. جمعوهم فربما يصلون إلى مكان يسترهم هم والأجزاء والأشلاء وبقايا الدم.
أثناء سيرهم، رأوا أمهما على الجانب الآخر من الطريق تجري من هنا إلى هناك.. ناديا عليها.. صوت المدافع والصواريخ طغت على أصواتهما فلم تسمع لهم نداًء، وفجأة.. سقطت قذيفة بالقرب من أمهما قذفتها على الجانب الآخر.. وجداها بجوارهما.. لم يصدقا أنها معهما.. احتضنوا بعضهم البعض، وأخذا بيدها مكملين طريقهم.
وصلوا أخيرًا إلى مكان لم يتوقعوا وجوده.. كأنه بستان لم يزل فيه زروع وأشجار من نخيل وأعناب ورمان تتدلى منه الثمار فأخذوا بعضًا منها، حتى وجدوا مبنى لم يزل مضيئًا، وقد كانت الأنوار قد انطفأت في منطقتهم المنكوبة.. المنهارة.
كان الباب واسعًا مفتوحًا، على مدخله أشخاص ذوو وجوه مليحة نضرة.. استقبلوهم بحفاوة وترحاب وأدخلوهم. بسرعة.. وجدوا بداخله مالا عين رأت ولا إذن سمعت ولاخطر على قلب بشر، وكأنه قصر ملكي.. قعدوا على أرائك متكئين، فرحين بما آتاهم الله، ثم سألا أمهما : “ترى!! أين أخوتنا الآن؟.. قالت لهما :”لاتقلقا عليهم.. نحن هنا وهم باقون هناك.. وسنلتقي يومًا ما، ولكن النضال لم يزل مستمرًا ، ولابد أن يبقى أحدنا هناك.. لابد أن يبقى من يناضل، ويقاوم.. فنحن رحلنا، وسيبقى من يبقى، مناضلين.. مجاهدين؛ حتى تبقى فلسطين.. وكلنا فداء.. كلنا فداء.