في خضم ما يحدث في العالم لا بأس من الرجوع إلى رواية “زغب الخوخ” ولو عبر هذه الفقرات.
.حتى أن لسانا يشبهه همس في أذنه:
– إنك تريد أن تثير هيجان هذه الألسن لتسحب بطونها ناحيتك فتلتوي على خوختك الآمنة.
عندما أصر ولم يسحب لسانه دفعته تلك البطون بالقوة، ولم تتوقف عند هذا الحد، بل راحت تتحدث فيما بينها، فاتفقت على أن هذا اللّسان العربي الخبيث الذي تمكن فأسرى ليلا، قد يكون يخبئ شيئا خطيرا يمكن أن يلوث كل الخوخ في هذا الشرق الذي توسط واستعصى علينا، اتفقت أن تلاحقه في كل مكان.. أتعبها بعض الشيء، فقد قيل بأنه يختبئ وراء ألف وجه، ويتحدث بألف لسان، وقد شاع أيضا أن هذا من يخلص العالم من المكائد والشرور، حتى شاع بين البؤساء أن هناك نشدا من الصالحين يؤكد صحة هذه الإشاعة، إشاعة أحبّها الضعفاء والمهزومون والمقهورون في العالم العربي.
لكن تلك البطون التي تحالفت وشكلت أمما متحدة خافت أن يفتك منها زغب الخوخ الفائض بالماء والسكر، الطيع منه والمكره، والساذج الذي طفح بخيراته دون إرادة، وذاك العاجز عن استخراج خيراته من تحت وسادة رأسه، وكذلك أولئك الأغبياء المنتبهون جدّا إلى وعود القرية الصغيرة، خصوصا حرية الخوخ المسلوخ وحبوب منع التفكير، قرية أبو جهل التي يعرفها العرب، المنصة التي كان يعرض عليها أجدادهم جواريهم..
فعلا فقد تأكد أن من يشبه أبا جهل يسكن في بيت أبيض جميل، وتأكد أنه ينزح لإعادة بيت كان قد فقده منذ الأزل، وقد سحر الناس بلغته المشرشرة المنحدرة من حجرة غاشمة، حتى عرب قريش كفروا بلغة الله حين التوت هذه الحيّة حول جسد الجزيرة العربية.
ذهب بخياله إلى هذا المعنى، ثم جاء رويدا إلى واقعه المفروض وأخذ ينسحب تدريجيا من المكان، وهو يسير بطريقة خلفية إلى الوراء رأى العرب صرعى، وكالبركان يخرج من أفواههم سائل غازي سحري بلون اليابسة العربية ووجوهم فاحمة بالرذيلة.
رفع رأسه فرأى سماء غاضبة ملبدة بسحاب محنط لا يبشر بالمطر، وحشودا عربية تهرول بين أودية الدماء لا تدري أين تتجه، وأكثرهم يجرون لإدراك حفل دموي تحييه كوكبة من النجوم الزرقاء والخطوط الحمراء في تحالف جاهر بالمكيدة.
في فيحاء تكاد تشتعل من وهج النار صلى استسقاء للمطر كلما شعر بالعطش، لكن السماء لا تستجيب له، ربما كان عليه أن يغوص فيها غوصا تاريخيا قبل الصلاة، وكم هو مثير للأعصاب إذا جمع بين الشهوة والخشوع، ولأن له جهازا جنسيا يطغى على جميع الأجهزة، بدا كأي راغب يريد أن يصير آدم ليبني كيانه من جديد، فضل أن يُبقي عقله في جمجمة رأسه، وأن يرش روحه كل مرة بماء بارد فلا يترك من كيانه إلاّ نفسا منتصبة، تتأمل شواطئ الماء وشواطئ الشهوة كشكل من أشكال التمويه، ليرى أغصانا متدلية بخوخ مسلوخ يقطر من زغبه ماء حلو بنكهة العسل، تظاهر بأنه من جموع العرب المتلذّذين، وأنه يغض بصره عن شلّالات النفط المنهوبة، وإلّا كيف يرضي دول التحالف يا عين قلبي؟
السماء أمطرت غبارا أسود حزنا على الأبرياء الذين ماتوا وهم لا يفهمون ما يحدث، وقد كانوا من قبل يستطعمون الْحُب كما ينبغي، يعرفون الفجر كما يعرفون أبواب بيوتهم، وكم كانوا يحرصون أن يشهدوا أول قرن لشمس الحياة الجميلة كلما غمزت لتوقظ الكادحين والعصافير.. هكذا تفرح بهم قطرات الندى كلما استيقظوا باكرا، وهكذا كلما تستثيرهم إلى الحياة إذا تدحرجت على أكمام الورد الذي أباح رحيقه للنحل المخلص بالشفاء.
المتصارعون على الآدمية الغاشمة شرّدوا العصافير والفراشات، وأضافوا نصف ليلهم إلى نهارهم.. حجزوا المساء لأطفالهم، والياسمين وكل العشب الأخضر.. أرادوا الصباح لهم وحدهم.
يفعلون ذلك ولا يأبهون بمن انتخبوهم ومنحوهم السلطة ساخنة، أولئك الذين كانت تتقاذفهم الحملات السياسة هنا وهناك، يركلهم الجوع والعراء في صباح ومساء المدينة الطيبة، المساكن التي اتخذت من الإسمنت والقش والقصب قواقع لتحميهم من الأفاعي والزواحف الهائمة، ينامون في العراء ورغم ذلك لا يخافون من الموت كما يخافه هؤلاء المتصارعون، يتحسسون الموت حتى من الخربشة البسيطة فوق السطوح وتحت أسرّتهم وموائد أكلهم وشرابهم، هكذا لا ينامون نوما هانئا كلما تقوقعوا داخل قصورهم العالية، واستلقوا على أفرشتهم الحريرية، لأن قلوبهم تقطر بالسواد وتنبض بالفزع، يتنفسون الأكسجين الأحمر لأن عيونهم تتهيأ الذين ماتوا تحت جرّافاتهم المتوحشة، وهياكل الأبرياء كالأشباح تحوم في غرفهم لا تفارق أخيلتهم، عيونهم لا تهدأ من الترقب، وكلابهم في الحديقة الواسعة لا تسكت عن نباحها ولا تهدأ من حراكها.
ومع كل صباح يتفنّنون في قتلهم، لأنهم رغم النار والرصاص والسياط والماء الساخن خلدوا في نومهم، ولم يروا في أحلامهم سوى الورد والفراش، ناموا بلا حرص ولا كلاب ولا سهام تحصن محيطهم، هكذا ناموا على فراش رقيق وكثير من الرمل، لا يغطي أجسادهم إلا لحاف يتخلله كثير من الهواء البارد.. مطمئنون وراء باب مشقق يشدّه سلك واه.
يتوسدون أرغفة يابسة للصباح القادم، والصباح حلو مع قهوة سوداء، وأمام مدخنة تأكل آخر قطعة خشب تراهم يتزاحمون لاقتناص دفء البصيص الأخير، ثم يسارعون إلى أغطيتهم قبل أن تبرد أجسادهم النحيلة، هكذا يتسابقون وهم يلعبون ويمرحون، رغم أن الموت ينتظرهم على عتبة الباب المشقق.
وككل اجتياح المؤمنون متفرقون فرادى، يصلون صلاة الإستشهاء، يتمنون أن تتلبد الأرض بلحم رقيق يكسوه زغب كزغب الخوخ الطازج اللذيذ، متأهبة ألسنتهم دائما للعزف والمتعة، ويُحذرون الذين يقولون “لا” ألّا يرموا بأنفسهم إلى التهلكة.