على الرصيف الخالي من المارة يختار مسيره كل مساء وحيدا يلوك عزلته الصامتة في نظر الآخرين، فهم لم يكونوا على علم بما كان يدور في خلده كل مساء ، يترك أوراقه وكتبه في قبو اتخذه معبدا يلتهم فيه ما استطاع من كتب إلى جوار علبة سردين لاتزال رائحتها تنبعث من جوفها ذلك المساء ، .. يتجه نحو ساحة خارج المدينة خالية من الأبنية، لكنها لم تكن خالية من الحياة ، يجلس في نفس المكان الذي اعتاد عليه ، يرسل الطرف نحو المغيب ، يتأمل شفقا يسيل نضاره ، يحمل في كفه حفنة من تراب ينثرها فتطير بحباتها الرياح بعيدا في الهواء ، قطرات ماء يتندى بها المساء أصابت جلده المتيبس، فقال : هي هذه ، الماء ، الهواء ، التراب ، لم يتبق غير النار ليكتمل النصاب !.
افتر ثغره كأنه تذكر شيئا مما قرأه عن الطباع أو عن الأبراج ، ضحكة فيها شيء من الهزء دوى صداها في الأرجاء ، ثم غادر المكان ، الليل يلبس الوجود عباءته السوداء ، من وسط العتمة نقطة ضوء صغيرة جاءت مسرعة من السماء ، بدأت تلاحق خطواته الآخذة في التسارع نحو الرصيف ، انعطف يسارا ليحشر نفسه وسط المارة لكن الضوء ما لبث أن انداح ووقف أمامه فمنعه المسير، تجمد في مكانه ينظر إلى الضوء الغريب .. ، ارتفعت النقطة للأعلى كأنها تفسح له المجال للعبور لكنه ظل متجمدا لا يقوى على الحراك ، صوت يجلجل من عمق النقطة يقول : أنت ، أرأيت كيف أنك أردت الانعطاف إلى الرصيف المقابل ؟ أتعتقد أن الإنسان يستطيع أن يعيش في عزلة ؟ أتراك سعيد وأنت تحاور كتبك وأصحابها؟
الرجل وهو يتراجع القهقرى : من أنت ؟
الضوء : أنا الهيولى ، أنا الماء والنار والتراب والهواء ، كنت أتجول في هذا المكان فسمعتك تتحدث وحدك منعزلا عن الناس فرأيت أن أعلمك أن السعادة خارج أسوار المجتمع وهم تذروه الرياح كما ذرت حفنة التراب من بين يديك .
الرجل وقد استجمع شيئا من رباطة جأشه : لكنني أجد راحتي بين الكتب مسافرا في عوالمها بعد ان وجدت أن الشر طبع في نفس الإنسان
الضوء: الشر موجود مع الإنسان مذ البدء ، فبعد تشكل حفنة التراب إنسانا والخطيئة تلاحقه بفعل الشرور لكن بذرة الخير موجودة أيضا في حفنتك
الرجل مستغربا: في حفنتي ، أتقصد أن الخير والشر معا يلتقيان في مكان واحد .
الضوء : نعم ، أنت قارئ نهم وتعرف ما أقصد، فالكون كله بني على الأزواج ، حتى الجسد أنت مثلا روح وبدن ، وهذا الليل وغدا نهار، وهذا القمروتلك الشمس غدا تطلع من مشرقها ، وأنت ذكر وهناك أنثى
الرجل بنبرة : أرجوك لا تذكر الأنثى في حضرتي ، فهي سبب الشقاء
الضوء ضاحكا وقد تموجت هالته : حتى أنت ، كلكم تعتبرونها مصدر شقاء في حين أنها سبب للسعادة ، لابد أنك تأثرت بأفكار فلاسفتك الذين رفضوا النساء
الرجل : لا أبدا مجرد موقف لاغير يمكنني أن أغيره مع الأيام ، لكنني أحب أن أسير على الرصيف الأيمن
الضوء: لك ذلك ، لكن لاتنسى أنك قد تنعطف نحو الرصيف الأيسرفي يوم ما ، وحينها لن تجد نقطة الضوء التي تعيدك إلى رصيفك الأيمن .
الرجل: سأفكر في الأمر مليا أيها الضوء
تراجع الضوء هاربا إلى الأعلى وأخذ يصغر حتى صار نقطة اختفت في الظلام ، سار الرجل بخطى ثابتة وهو يشق طريقه بغير تفكير نحو الرصيف الأيسر حاشرا نفسه بين المارة ليشعر لأول مرة بدفء غريب كان يفتقده بين برودة الكتب والقبو الصغير الذي اتخذه معبدا أنساه مذاقا آخر للحياة لم يقرأ عنها بين الأوراق.