
تقديم:
تعد رواية الرفيق وثيقة ثقافية وتاريخية تتناول الأنماط السلوكية والقيم والمعايير الثقافية والنظم الاجتماعية المختلفة، فهي بمثابة سجلات/ ريبيرتوارات للذاكرة الجماعية باعتبارها جزءا من الحياة الاجتماعية، عمل الكاتب على نقلها واستعادة أحداثها ووقائعها واخراجها من حيز الوجود بالقوة كأفكار وهواجس ومبادئ تسكنه ويسكنها إلى حيز الوجود بالفعل، في طابع روائي وحكائي يحكمه السرد المفكر فيه بلغة بديعة وبعبارات مركزة وبأسلوب فلسفي قل نظيره لدى رواد الرواية المعاصرة، وتتمفصل وقائعها المحبوكة مشكلة ارتباطا متينا بين شذرات وحكم بليغة لدرجة يصعب الفصل بينها.تتعدد مداخل وامكانيات قراءة الرواية، ولكون جميع الإمكانيات ليست ممكنة في ذات الوقت، فإن هذه الورقة ستقتصر على محاولة استحضار بعدين أساسيين: البعد المديني والبعد الرمزي من وجهة نظر السوسيولوجيا والأنثربولوجيا الحضرية. فالأحداث الروائية رغم كون الكاتب اختار لها مجالا جغرافيا تتداخل فيه مظاهر القرونة ومظاهر التمدين (محافظة ظفار قتبيت بسلطنة عمان(، فإنها مع ذلك تحمل تجليات السلوكات المدينية لشخوصها كما أنها غنية بإيحاءات وحمولات فكرية لنماذج نظرية تمتح من روح الفلسفة والسوسيولوجيا والأنثربولوجيا، ما دام موضوعها الرئيس هو الإنسان مناضلا ومفكرا ومدرسا وفردا مدينيا حاملا لمواقف واتجاهات وتصورات إيديولوجية في غاية التعقيد والتركيب.
يزخر مجتمع الرواية بالعديد من عناصر التراث الثقافي اللامادي، لذلك سنعمل على اختبار قضايا النظرية الرمزية والتفاعلية الرمزية كإسهام نظري للكشف عن الأساليب والوسائل الملائمة التي تبرُز من خلالها العلاقة الجدلية بين الثقافات المختلفة والمعاني والرموز الثانوية وراء مقولة المناقشة داخل المتن الروائي الرفاقي، بغاية إضفاء طابع الفهم والمعقولية التاريخية على واقع المجتمع المدرسي بقتبيت باعتباره جزءا لا يتجزأ من واقع المجتمع العربي برمته.
يبدو من الصعوبة بما كان الإمساك بخيوط لعبة الحكي وتمفصلاته الإبستيمولوجية داخل الرواية، والوقوف عند كل التفاصيل واد ا ركها إد ا ركا تاما في لحظة قراءة قصيرة، لذلك يمكن أن نفتح أفق النقاش من خلال العناصر الآتية:
.1 معمار الرواية وبنيتها الداخلية؛
.2 الهوية الفردية والهوية الجماعية بين الإيديولوجي والسياسي؛
.3 البعد الرمزي في رواية الرفيق؛
.4 البعد المديني أو التيه في المدينة؛
.5 مساءلة نقدية: نحو حوار مفتوح مع الكاتب.
أولا. معمار الرواية وبنيتها الداخلية:
تقع الرواية لصاحبها الأستاذ والفاعل الحقوقي والجمعوي “موسى مليح” في 471 صفحة من الحجم المتوسط، موزعة بين 14 مشهدا حكائيا نسج الكاتب خيوطها بإتقان، مؤسسا له منهجا فريدا في الكتابة يجمع بين التأريخ والسرد والتحليل النقدي والاسترجاع والاستبانة والنبش في ذاكرة المدن والثقافات المتباينة والمتمايزة حد التعارض أحيانا.
صمم غلاف العمل الروائي المناضل الجمعوي الأستاذ “الحسين ألحيان”، وعمل على تدقيق لغته المناضل والباحث الواعد “عبد الكريم حيدة”.
ثانيا. الهوية الفردية والهوية الجماعية بين الإيديولوجي والسياسي:
تُشكل مواقف الشخوص في الرواية صراعا فرديا وجماعيا خفيا من أجل حفظ وحماية مجال هوياتي يُعبر عن “موطن الانتماء” (Chez-soi) ، الذي تحيل عليه نقاشات وحوارات “جماعة المدرسين” كمؤشر قوي يسمح بطرح “فرضية فقدان الهوية الفردية” والانخراط بشكل قصدي في بناء “هوية جماعية” داخل مجال اجتماعي تُشكله الإيديولوجيا الماركسية، وتتحكم فيه آلية “النسيان المزدوج”: نسيان الموطن المسكن ونسيان الوضع الراهن للإنسان المقهور الذي يعيش نوعا من “الاختيار المفروض” في ما يشبه هجرة بيداغوجية لسفراء الأفكار والأوطان.
تحضر في الرواية تجليات الماركسية والاشتراكية العلمية التي وسمت الفكر الاقتصادي والسياسي المعاصر بميسم خاص، وساهمت أفكارها في إذكاء روح النقاش بين الوافدين الجدد وبين ذوي الخبرة والتجربة السابقة من المدرسين بمدرسة قتبيت، حول سبل التحرر وشروط تحقيق إنسانية الإنسان وأنسنة الرفيق. فكان مبدأ الصراع أداة لرسم مسار التقدم التاريخي ومحركا قويا للتغير الاجتماعي، في مادية جدلية وتاريخية حيثُ حركة الفكر والوعي الطبقي انعكاس لحركة الواقع، وليس الصراع كما يعتقد البعض مجرد عنصر تشويش وارتكاس.
إنه حوار أفكار بين رفاق قدموا إلى قتبيت، وهم يحملون معهم إرثا ماركسيا محليا بتجارب مختلفة، تلتقي جميعها في رفض الطبقية والتراتبية الاجتماعية، فكان السفر التربوي وسيلة للتبادل غايته ربط الشرق بالغرب بعيدا عن التسلق الطبقي.
تعكس العلاقات بين الشخصيات في الرواية نسقا للفعل الاجتماعي لديهم كأفراد فاعلين لهم أهداف ومواقف واتجاهات، وعن طريق التفاعل فيما بينهم ينشأ الفعل الجماعي والنسق الثقافي المعبر عن روح الهوية الجماعية التي تتشكل بفعل انصهار الذوات الفردية في الذات الجماعية.
بين الماركسية والسلفية في صورتها الوهابية يبرز التسامح والتعايش وتقبل الآخر المختلف، في نوع من التفرّد المنفلت من الوثوقية والدوغمائية.
من هنا تبرز مفارقة أساسية ترتبط بثنائية الانتقال من “الفرد خارج العالم” (أي الفرد في علاقة مع الإله، إذ ثمة فردانية مطلقة وعمومية في ارتباط بقوة أخلاقية تمنح الفرد قيمة لا متناهية)، إلى “الفرد في العالم” (أي الفرد الحديث المرتبط بالأرض وداخل العالم في إطار علاقات تبادلية مع ذاته ومع الآخرين).
على الرغم من كون “الرفيق” يبدو فردا مواطنا متفردا في مبادئه وقيمه، إلا أنه رغم ذلك يتحدد كشخص وكذات أخلاقية، ويكون العامل المحدد لهويته الفردية هو المجتمع. لأن ثمة عاملان أساسيان مؤثران في الفرد الرفيق: أحدهما غير ذاتي مرتبط بما هو فكري وروحي، والآخر مرتبط بالفردية (Individuation) وله علاقة بما هو مادي. وعن طريق الجماعة (Collectivité) يصبح الفرد الرفيق شخصا، ذلك أن المبدأ الروحي للجماعة هو ما يشكل ماهية وجوهر ذاته الفردية، فما يجعل منه إنسانا هو ما يربطه بالآخرين، أي ما يجعله “فرديا” ويُكسبه سمة الفردية. إنه ليس ملكا لأحد، بل هو جزء من التراث الجماعي، فيه ومن خلاله يتحدد الوعي الجمعي للأفراد.
ارتباطا بالهوية الجماعية في متن الرواية تجدر الإشارة إلى أن مقاربة الفعل الاحتجاجي أو الحركات الثورية في العالم لم تخرج عن سياق الآلية الكلاسيكية للاحتجاج، استنادا إلى الحرمان النسبي وتعبئة الموارد أو بنية الفرص السياسية، إذ تُعبر الحركة الاحتجاجية الثورية في مجملها عن “ظاهرة مجتمعية حاضنة لكل فعل وسلوك تمردي وانتفاضي أو ثوري. فإذا كان الانخراط في التعبئة الجماعية نابعا من قدرة الفاعل / الرفيق، على استقطاب أصدقاءه وأقاربه وجيرانه واقناعهم بضرورة الانخراط في الفعل الاحتجاجي الثوري من أجل تغيير الأوضاع، فإن الانسحاب الفردي أو الجماعي من التعبئة الاحتجاجية يكون مفروضا بشكل قسري وخارجي، إما خوفا من المساءلة والمتابعة، أو هروبا من الوصم الاجتماعي والنظرة الدونية من طرف الآخرين. غير أن الكاتب يقر بشكل صريح أن الحركة الثورية الظفارية حركة عفوية وتلقائية رافضة ومناهضة للظلم والاضطهاد والاستعمار، ككل حركة ثورية في العالم.
ثالثا. البعد الرمزي في رواية الرفيق:
اهتمت الأنثروبولوجيا الرمزية بدراسة الثقافة كنسيج من الرموز التي لا يمكن فهم معانيها إلا من خلال دراسة الوحدات والعناصر المكونة لها عن طريق مناهج خاصة. وتركز الاهتمام على هذه الرموز استنادا إلى المعاني التي تعبر عن الحياة الاجتماعية للإنسان. وانتقدت النظرية الرمزية وجهة النظر المادية في تحليلها للثقافة، وأكدت على التفسير الرمزي، كما هو الأمر لدى أحد مؤسسي الأنثربولوجيا الرمزية التفسيرية “كليفورد جيرتز”. وتتعدد أيضا الاتجاهات المختلفة داخل حقل الدراسات الأنثروبولوجية للرموز مثل الاتجاه البنيوي مع “كلود ليفي ستراوس”.
انطلاقا من اعتبار رواية الرفيق نصا ثقافيا بامتياز، يمكن استحضار البنائية الفرنسية التي استندت إلى تناول الثنائيات الضدية الحاملة للرموز منطلقا أساسيا في التحليل البنائي للنص الثقافي، حيث يؤدي الكشف عنها إلى تمثل البنية المتحكمة في النص، كما أن معرفة هذه الرموز لا تتم فقط عبر إبراز خصائصها ومميزاتها، وانما يتم ذلك في ضوء تمايزها واختلافها. من هذا المنطلق يمكن النظر إلى البنية المنطقية للغة المنتقاة بعناية داخل المتن الروائي للرفيق على أنها نظام من الاختلافات والثنائيات الضدية بين الحدود المتباينة والمتقابلة.
ثمة استلهام قوي للغة المسرح والأغوار الإغريقية، من خلال ثنائية الليل والنهار، والخير والشر، والعمل الجاد والتكاسل، والحبيب والعدو، الصحراء والبحر، الانخراط والانسحاب أو فك الارتباط… يمكن الكشف عبرها عن تعدد المعاني والرموز الثقافية المستوحاة من الكتب والأحداث التاريخية والتجارب والخبرات المتنوعة. مكنت الكاتب من استثمار الاستعارة المسرحية والسينمائية في مقاربة تفاصيل الحياة اليومية والتقاطها منظور إليها بوصفها مشاهد مقطعية تعبر عن الديمومة والزمن المستمر تماما كمعزوفة موسيقية متصلة بتعبير برغسون، والتي يصعب على أي كان فصل نغماتها وفق ماض وحاضر، فالمستمع لهذه المعزوفة يعايش نغمة اللحظة الحاضرة في اتصالية مستمرة غير محسوسة بنغمة اللحظة الماضية. وهو ما يمكن أن يعيشه قارئ رواية الرفيق. فالزمن هنا تاريخي واجتماعي ونفسي، زمن الأفكار والمعتقدات والقيم، زمن منفلت من قبضة الرقابة، لا يمكن قياسه أو تجزيئه، لأن الوعي به عبارة عن تدفق متجانس رغم انتشاره عبر فضاءات وأمكنة مختلفة ومتباعدة، إنه زمن سائل يتزامن مع نفاذ صبر القارئ أي مع جزء معين من ديمومته، والتي لا يمكن تقليصها أو تمديدها حسب رغبته هو، بل يتماهى من خلالها مع تجربة الراوي، إذ لم يعد الأمر بالنسبة له مجرد تفكير في المخيال الاجتماعي للرواية بل صار تجربة معاشة بالفعل.
– يرتبط اللقاء الأول في الرباط واللقاء الأول بالرفيق بشكل صوري عبر قصاصة الجريدة، وبشكل فعلي وواقعي في الطريق إلى شاطئ الحافة خلف القصر السلطاني. يرتبط ذلك باستشهاد أول ثائر ظفاري بمدينة تمريت، وبحلم لقاء الرفيق…
– رمزية الرفيق: لغة الرفاق (الأواكس، البكاسيس، الوعي الطبقي، البروليتاريا الرتة، التوزيع العادل للثروة، المساواة في الأجور…)، كلها أدوات لإنتاج المعنى واعادة بناء مسارات الرفقة والزمالة الفكرية، وردت بشكل ضمني مكتنفة خبايا نصوص مزقتها لوعة فراق الوطن، لتعيد تشكيلها مبادئ الشعور بالانتماء…
– رمزية الثورة: ثورة ظفار، الثوار الفلسطينيون، ثوار العالم، الثورات الطلابية، بنية الثورات العلمية. في ذاكرة الراوي/الرفيق؛
– رمزية المرأة موسكو ابنة الرفيق ببذلتها العسكرية ترقص وتستحم عارية معبرة عن الحرية، فالمرأة ثورة والثورة امرأة لها دور أساسي في التعبئة الاحتجاجية، يكون المشترك بينها وبين ال الروي الرفيق هو قراءة الكتب والروايات…
رمزية الصحراء والتضاريس الحاملة لمعاني التيه بحثا عن الطريق، بحثا عن منهج الرفيق، بحثا عن الحرية والانعتاق، فالصحراء تحرر وتجرد من كل شيء وليست زن ا زنة كبيرة…
– رمزية الكتاب الرفيق الذي لا يكاد يفارق ال ا روي مشّاء مُحاو ا ر قاعدا أو نائما، للكتاب حضور في القلب والذاكرة، للكتب الحمراء حضور في مقبرة الكتب خوفا من الحرق والإتلاف؛
– رمزية الصبر وحكاية أيوب؛
– حضور الشذرات الفلسفية في المتن الحكائي وغيابها في المدارس الخليجية بحجة أن بدايتها فلس ونهايتها سفه… إشارة إلى المنع القسري الذي طال تدريس الفلسفة لسنوات، إشارة إلى المنع الذي طال التفكير والانتماء الحزبي وحرية التعبير وصناعة التباكم بشكل مقصود…
– أسماء النساء وأسماء المدن الأوربية، أسماء الرجال وأسماء الرفاق الثوار عبر العالم: لينين، غيفارا، ماوتسي تونغ، بن بركة…؛
– رمزية سقوط جدار المدرسة قتبيت بعد العاصفة إيذانا بسقوط جدار برلين والمد الشيوعي؛
– رمزية المقدس والمدنس: الأسطورة والضريح، اللغة العربية والإنجليزية، الثوار والمتمردون والأنبياء والشياطين، الشعر والموسيقى والقرآن، اللاهوت والناسوت، الاستقامة والاعوجاج، بحيرة النفط وبحيرة الدم والبراز، ثروة الثورة الحلم الذي لم ينته بإعلان موت الرفيق…
رابعا. البعد المديني والحضري أو التيه في المدينة:
يعكس موضوع الرواية تمفصلا مزدوجا بين المجال والمجتمع، بهدف إقامة ت ا ربط واتصال بين التحليل الاجتماعي وبين الأشكال الحضرية لأنماط التمدين، ولذلك فإن الانتقال من المجال الجغرافي لمحافظة “ظفار” إلى “الحيز الترابي” ) territoire ( لصحراء قتبيت يُعد بمثابة سيرورة اجتماعية تضفي على مكونات المشهد الحضري جودة عناصرها التي توجه التنشئة الاجتماعية للمجال وطرق تملكه، ويلعب التحليل الت ا ربي دو ا ر هاما في إبراز التوتر الناتج عن التحولات القيمية والمجتمعية للقاطنين والوافدين على حد سواء، حيث يظهر ذلك في حالات الهيمنة والإقصاء، كما هو الشأن بالنسبة للمدن التي تظهر وتختفي في ذاكرة الرفيق. إنه مجال اجتماعي أيضا، باعتباره مسرحا للحياة اليومية، وسندا لتشكل هوية اجتماعية بدلالات ترابية.
تحضر معالم الذاكرة منذ البداية: ففي البدء كانت الذاكرة التي شكلتها تجارب وخبرات الراوي أبو خليل، بدءا من مدينة الرباط إلى مدينة صلالة ومحافظة ظفار، عن طريق الاستعادة والربط بين الأمكنة والمجالات الحضرية: الحافة، تمريت، أسفي، سلا، من بلاد الأندلس إلى الشيلي والهند والصين والشيلي، مرورا بقرطاج تونس والسودان ومصر، وصولا إلى الأردن ثم الجزائر، وعودة إلى مدينة فاس العاصمة العلمية وموطن الرفاق بظهر المهراز مهد الثورة الطلابية والحركات الاحتجاجية.
تحضر مدينة صلالة، في مخيال الراوي بشوارعها المنظمة والنظيفة ومراكزها التجارية، من خلال قدرته على ممارسة الإثنوغرافيا السردية والانغماس الميداني بأسلوب الوصف المكثف المنفلت من رتابة اليومي. للمدينة ذاكرة عميقة عبر عنها الكاتب تارة من خلال رائحة البخور وتارة أخرى من خلال رائحة البارود وبنادق الثوار…
إن العودة إلى الحي والى المدينة الأم والموطن الأصل تعبر عن ضرورة مزدوجة، فمن جهة أولى تمكن من استعادة ذاكرة المكان، لكون ماضي الرفاق تم تحويله إلى قيم ونظم لفئات اجتماعية رمزية تُستعمل كأساس مرجعي للحكم على الحاضر، وكجزء من الديناميات والتحولات الاجتماعية التي عرفها العالم من جهة ثانية.
إن غياب المدينة وانعدام آثار التمدين (في فضاء لا أسواق فيه ولا مقاهي) تعبير عن تجربة المدرس الكادح بصحراء قتبيت، كجزء من حكايات شبيهة بتجربة مدرس في حجرة يتيمة بجبال الأطلس أو داخل خيمة صحراوية لأبناء الرحل. فقتبيت أرض التيه ووعورة المسالك في الجبال تيه آخر في مركز متاهة بلا خرائط، يصرخ الراوي أخيرا وهو البحار المغامر المقامر في حضرة البيداغوجيات الحديثة، والتي تغيب لدى رفاقه المدرسين، يصرخ أخيرا بعد معاناة أبيقورية: إنه السكون، إنها اليابسة.
خامسا. مساءلة نقدية: نحو حوار مفتوح مع الكاتب:
جعلتنا القراءة الأولى لمضامين الرواية نعيش أحداثها بين الماضي والحاضر ومحاولة استشراف المستقبل، من خلال مساءلة القضايا المهملة والبسيطة التي يمكن أن تولد مجددا وتنبعث من رماد. كما دفعتنا إلى فتح حوار مفترض ونقاش مفتوح مع الكاتب:
– أمام تعدد وتنوع المرجعيات الفكرية والنظرية المعتمدة بإمكان ماركس أن يقول مثلا: أنا رفيق، ويستطيع ماركسي لينيني آخر أن يقول أنا رفيق، ويستطيع كل بدوي ثائر أن يردد وراءهما أنا رفيق، لكن هل هناك وعي مشترك ومتفق بشأنه في الإيديولوجيا اليسارية اليوم؟
– هل استطاع الكاتب/الراوي في طرحه التحرر من المعتقدات الجماعية وهل استطاع التفكير بحرية عبر أسئلته الخاصة؟
– هل كان لدى الكاتب أيضا في مغامراته الفكرية كامل الشجاعة لتحمل العزلة والاعتراف بأخلاقيات الرفيق، إذ لم يكن لديه في البداية أي افتراض مسبق في صحراء الربع الخالي سوى “السماء في الأعلى”؟
– هل تشكل مشاهد الرواية ومقولاتها امتدادا للحركة الطلابية أم أنها على النقيض من ذلك تشكل قطيعة وانفصالا معها؟
– هل تتأثر اللغة اليومية بالوعي الطبقي؟ هل يمكن للغة الطبيعية التي نوظفها في معيشنا اليومي أن تعبر عن الوجود كمسكن طبقي؟
– أليست لغة الرواية حاملة لوعي اجتماعي؟ أم أن الوعي الطبيعي هو الذي صنع لغة الراوي وشكّلها قبل أن تتجلى وتنكشف واقعيا؟
– ما موقع سؤال الحدث في الرواية؟ وكيف يتشكل الحدوث واقعيا في إطار وحدة الذات والموضوع؟
– كيف تمكنتم من وصف الحدث وتذكره واستعادته لحظة بروزه وان كانت الأحداث والشخوص من وحي الخيال أو من قبيل الصدفة والفجاءة؟
– ألا يمكن القول إن ما وقع وما حدث يمكن أن يغيب ويختفي لحظة قيام الذات بتفكير انعكاسي عليه؟
– وأخيرا هل يتعلق الأمر في العلاقة الثلاثية بين (الرفيق قتبيت العالم الشيوعي) بزمن سرمدي مطلق أم بزمنيات واقعية ومفارقة؟ كيف نبني وعينا الطبقي مثلا، ووعينا بالوجود وبالعالم في زمن واقعي سائل وفي زمن مفارق لا يقبل القياس؟