
التخلي الأول:
قُذِفتُ في هذا العالم دون إرادة مني: صرختُ محتجاًّ، زغردَت النساءُ ابتهاجاً، ذرفت والدتي دمعتين وفي الثالثة فارقت الحياة.. توقفت الزغاريد، عم النواح… تحولت من مولود مبارك إلى علامة شؤم؛ منبوذ من الجميع. تقاذفتني لسنوات الأيدي من مكان إلى آخر، وفي كل مكان كانوا يطلقون علي اسما؛ لحسن، بلعيد، حتى استقر بي الأمر في بيت خربٍ مهجور مُنْزوٍ في ركن لا تصله الأرجل. باب البيت مفتوح دائما؛ لا خوف عليه من لصوص وغرباء، متاعه قليل، لا توقد داخله نار إلا الشموع في فترات متباعدة… عندما عاشرت من حولي من أهل زقاق يقع داخل درب مخزني بامتياز في حي القصبة بمراكش، اكتشف أقراني وحدتي داخل ذلك البيت المخيف وان لا عائلة لي، فأطلقوا علي لقب Vitalis بيتاليس. قد يعود الاسم إلى شخصية من شخصيات Vector Malot في رائعته Sans famille بدون عائلة.. أنا لا أعرف من هو بيتاليس ولكن أدركت تلك اللحظة أنني تخليتُ عن اسمي لفائدة اسم دخيل.
التخلي الثاني:
مجاراةً لمن حولي، انخرطتُ في عملية ملأ صفحتي البيضاء بما أقلدُ من سلوك أقراني. السلوك الموروث عن الأباء والأجداد؛ فقد تعلموا منهم تقبيل يد الأكبر سناً، والتطوع لحمل أغراض ومشتريات النساء والرجال إلي أبواب المنازل، إيصال ألواح الخبز إلى الفرن الجماعي للحي (الفران)، التوقف عن اللعب عندما يمر كبار السن، والفرار – دون معرفة سبب الخوف- عند رؤية العسس، احترام القبور وتقديس حرمة قبب الصالحين المتناثرة داخل المقابر، التدافع أمام قصع الكسكس أيام الجمعة وليلة القدر في رمضان. وكنت منخرطا في سلم تقاليد وعادات الجماعة، أعيد إنتاجَها بنيةٍ مستسلمة دون ملل.. لم أتعمد الخروج من الحلقة ذلك اليوم.. بدأت الحكاية عندما كنا نلعب في الدرب كرة القدم، قذفتُ الكرةَ بقوةٍ فارتطمت بوجه أحد العسس.. استل عصاه ( الزرواطة).. صار يشتم ويصرخ.. ركض نحوي، فرَّ اللاعبون.. تركوني وجها لوجه أمامه.. راوغته فسقطت جثته الضخمة على الأرض، حاول أحد الاباء أن يمسك بي، ركلته بعنف.. وأنا أعدو دستُ على لوحة خبز، كانت صاحبته تنتظر من يوصله إلى الفرن، خرجت النساء يشتمن بأقدح الشتائم.. ركضت صوب المقبرة، هجم العسس على المقبرة.. كسرتُ ألواح نافذة ضريح، دلفت داخل البناية وأعدت ألواح النافذة كما كانت.. اختبأت داخل الثوب الأخضر الذي يغطي القبر.. في الليل عندما خلت المقبرة من الأحياء، نظرت إلى النجوم في السماء متأملا.. أدركت أن وحشا مرعبا كان يكمن بداخلي، قد تحرر من الاستكانة والاجترار.. تأكدت أنني تخليت عن بيتاليس المسالم.
التخلي الثالث:
أصبح ضريح المقبرة ملجأً لي، صار صمت القبور صخبا يملأ جوارحي. كان بعض أبناء الحي يقصدون المقبرة لاصطياد طائر الحسون (ولد أم قنين) من خلالهم تتبعت الأخبار: وعيد وتخويف… ألِفْتُ صمت المقبرة إلى أن حل بها يوما من سأتحولُ إلى رفيق له. عندما شاهدني أول مرة، استدعاني للجلوس بجواره. كانت في يده سكينة حادة وأمامه لوحة خشب صغيرة الحجم، وإلى جانبه باقة من سنابل القنب الهندي واوراق التبغ.. طلب مني أن أضع أوراق التبغ في يدي لتتعرق فترطب ويسهل تقطيعها. بينما هو شرع في تقطيع سنابل القنب الهندي كتقطيع المقدنوس، فعلمني كيف أمزج بين السنابل والتبغ ليتحول إلى مادة قابلة للتدخين، وعلمني كيف أتعرف على جودته، فصرت مدمنا على هذا النوع من المخدرات.. ثم أطلعني على مصدر أمواله. فانخرطت معه في صناعة الحلوى لنبيعها للتلاميذ أمام مدرسة المشور؛ كنا نطبخ كمية كثيرة من السكر في إناء كبير، ثم نضيف لها ملونا أحمر، نغطس فيه حبات برتقال صغيرة، فنتركها لتتجمد حتى يغطي السكر اللزج الأحمر قشرة البرتقال فندخل فيها عودا داخل كل حبة فتباع بريال واحد.. ما نكسب من ريالات تحول إلى دخان وقنينة خمر أحمر رخيص صارت تؤثت سهراتنا وسط الضريح. حين تكسد تجارتنا، نمزج الكحول بالماء فنحتسيه. صرت أفقد السيطرة على أقوالي وحركاتي فأخرج من المقبرة شاهرا لساني؛ أشتم هذا وألعن الآخر وأرتمي على البعض… تفننت في ابتكار أشكالا من الشتائم فصارت مقترنة باسمي:
-“بيبالكم… الله ينعل الدرابو أنتاع أمكم… الله ينعل لَمْخِيَّرْ في أعزايزكم.. الله إحرق السَّبَنْدريبا تالسباندريبا تالكرة الأرضية… الله إنعل الطالع والهابط الشريف والمرابط….”
كنت أواجَه بالحجارة وبكل أشكال المقذوفات، تحمَّلها جسمي لدرجة أنني صرت أتحمل كل أنواع الضرب، وخصوصا تلك الحركة البشعة التي يقوم بها بعض اليافعين، حين يُمسك اليافع بيديَّ، ويرفعني عن الأرض، وهو يلف بسرعة، فأتحول إلى جناح مروحة، ثم فجأة يلقي بي بعيدا وسط ضحك العابرين. كان الناس بلسان واحد يخاطبونني:
-“عد إلى صمتك يا بيتاليس، الزم السكوت تسلم من الناس!”
هنا تأكدت أنني تخليت عن الصمت سلاح الجبناء.
التخلي الرابع:
أتذكرُ جيدا ذلك الصباح، حين أقنعني بناءٌ على مساعدته في إخراج تراب منزل هدمه داخل الدرب. وضعت كمية من التراب في عربة يد ذات عجلة واحدة، ثم انطلقت بها صوب ساحة أمام سقاية الدرب. صارت العربة، التي لم تستعمل لمدة طويلة، تصدر صوتا مزعجا مقلقا للسكان. هب شرطيان يحرسان إقامة أميرة في الدرب نحوي، أمسك أحدهم بالعربة، والثاني أمسك بثيابي من الخلف، أمراني بالتوقف، وإسكات صوت العربة المزعج لأنه سيوقظ الأميرة النائمة. خاطبتهم بعفوية بأن يحملا العربة على أكتافهما حتى مكان جمع التراب. انهالا علي بالضرب، في دقائق معدودة نقلوني إلى قسم الشرطة، ومنها إلى المحكمة، لأستقر في السجن. لمزاجي العنيف وقدرة تحملي للضرب تقرب مني أخطر السجناء.. تشبعت بسلوكهم، وأصبح لي نصيب وافر من الإتاوات التي يتلقونها غصبا أو توددا. في السجن تعلمت من السجناء وسيلة تواصل لغوي جديدة، غالبا ما كان السجناء يوظفونها لتمرير رسائل لا يرغبون أن يفهمها حراس السجن أو غيرهم. كانت تلك الوسيلة التواصلية تقوم على حذف الحرف الأول من كل كلمة واستبداله بحرف الكاف، مع المحافظة على حركته (الضمة، الفتحة، الكسرة) ثم نقل الحرف المحذوف إلى آخر الكلمة وتنوينه تنوين نصب مع إضافة همزة أو واو قبله. بذلك تتحول كلمة سرق إلى كَرَقأُساً/ السلام إلى الكلاموساً/يهرب/يكربأُهاً… بناء على قواعد التواصل بين السجناء أصبح اسمي: كِتاليس أُباً. عندما ينطق بها السجناء كنت أشعر أني ولدت من جديد، ولدت أكثر قوة وأكثر إصرار على العيش من قبل. غطت كتاليس أبا فضاء السجن بل فضاء الكون فانتزعني من اسم المسكنة والصمت والتشرد والتعنيف والقمع إلى إنسان كله قوة يملك وسيلة تواصل يحكم بها العالم.. فانضاف إلى ما تخليت عنه تخليا جديدا: لغتي.
التخلي الخامس:
بعد أن عجزت عن افتعال جرائم تدخلني السجن، حيث عالمي المفضل، وبعد أن بلغت من العمر عتيا، التمست ركنا قرب باب مدرسة للبنات. تدبرت بعض المال فامتهنت بيع السجائر بالتقسيط، مهنة تعلمتها في السجن، لُدت بالصمت والكلام بالإشارات.. صار سكان الحي يرأفون لحالي ويتقربون إلي بتقديم الطعام والملبس والأدوية، بل حملني بعضهم/هن إلى الطبيب أو المستشفى وكأنهم لا يرغبون في موتي. صار حبهم لي دفئا أتلحف به.. ساد حياتي الهدوء، أصبحت أتمتع بحياة بسيطة وأتحمل كافة عذاب أمراض الشيخوخة، تغيرت نظرتي للحياة والموت.. أدركت بأنهما لحظتان زمنيتان يتمدد الإنسان بينهما؛ تبدأ الأولى بصرخة من المولود وتنتهي الثانية بصرخة عن المفقود…
ذات ربيع اختفى بيتاليس، اختفى أيقونة درب شتوكة. تجند جميع السكان للبحث عنه في أقسام الشرطة ومستشفيات المدينة، في المقابر والأضرحة، في دار المسنين العجزة… اختفى بيتاليس.. لم يبق من أثر له سوى صندوق كان يضع فوقه سجائره، وقد كتب أحدهم بخط واضح على ظهره:
الكُمْرُوعاً كَخَلِيَاتُوتاً
لاتحزن عما فات
لا تعش وهم أمل آت
لحظتك الآن أمتع اللحظات.