
المخبرون بعثروا أفكاري باستمرار ملاحقتي إلى كل مكان، نظراتهم كلما غاصت بين دفتي دفتري الصغير جعلتني أرتبك، وأحيانا أنسى الفكرة التي كنت أريد تدوينها، فإذا تذكرتها وهويت مجدّدا لتسجيلها جحّظوا كالضفادع أعينَهم مرة أخرى، وسرعان ما أتركهم مرتابين في أمري، يتشاورون ويتهامسون بكلام لا أسمعه، فإذا تقدمت من لوحة أخرى تهافتوا مهرولين ورائي بشكل مثير، وكلما رأيتهم أخطأوا ظّنهم بملاحقة الفنانين والمعجبين، بدلا من ملاحقة محترفي اختلاس اللوحات العالمية ضحكت!
في متحف اللّوفر بباريس، ثلاثة أسابيع لم تكن كافية حتى أُشبع رغبتي من النظر إلى اللّوحات التي عشقتها منذ طفولتي، آهٍ لو أسعفني جيبي لمكثتُ وقتا أطول، هناك أجنحة أخرى اشتهيت زيارتها لكنني تمكّنت من إحباط رغبتي، بسب الوضع الأمني الذي انتقص كثيرا من حرية تنقّلي، كونها أول زيارة لي إلى هذا المتحف العالمي الحسّاس.
فراغ جيبي واكتظاظ العسس من حولي، وكذلك أولئك السيّاح الذين تزاحموا لأخذ صور تذكارية، كل ذلك جعلني كالطفل الذي رشف رشفة واحدة، ثم جذبوا ثدي أمه من بين شفتيه، ورغم ما رأيت شعرت بأني عُدت جائعا إلى قريتي، عندما دخلت غرفتي غلب النُّعاس جوعي فنمت!
في حلم يشبه وجه الموناليزا بكّرت إلى فلورنسا، تسكّعت بين شوارعها طويلا، وبسبب ما نلته من تعب جلست فرأيت في حلمي أني نمت نوما آخر! بينما كنت أغطّ في هذا النوم الأعمق إذ أتاني في المنام رجلٌ وجلس بمحاذاتي، شممْت في أثوابه رائحة الصّمغ وكثيرا من أنواع الزيوت، أخذ يحدّثني ومن حين إلى آخر يمسح يديه من أثر الألوان، كان مرهقا حائرا، وبتنهيدة ملتهبة أشار إلى المكان:
– هنا كنت أمكث طويلا طمعا في الاغتسال من ماء المعمودية، كنت كأنني أتسوله مع أنه ماء الله ولا فضل لأحد فيه.
رثيت لحاله وتضامنت معه بكل جوارحي، عندما مسح على رأسي جعلني أرى روائع فلورنسا بعين مختلفة، فأهملت العابرين وتوغّلت ببصري داخل القصور والمعابد والجسور، وفي غمرة تأمُّلي تحوّل في عيني نهر Arno إلى مهد عجيب، أخذ يتحرك بي وسرعان ما حملني من نومي العميق إلى نوم أكثر عمقا، ومجدّدا خرج إلي رجلٌ بأثواب عربية عريقة، رأيته ينظر إلي بعينين ثاقبتين كأنه قد رسم أمامي الشوارع والمباني متوازية بدقّة لم أرها في أحد من قبل، كأني بهما حفظتُ سريعا مداخل ومخارج فلورنسا، تأكدت حينها أن حدّة بصر هذا الرجل لا تكتفي باكتشاف مدينة من حيث هي محيط جغرافي وتجمُّع بشري وكفى، بل كفيلة باكتشاف الكون بتفاصيل مختلفة عن التي عهدها الناس محصورة في مساحة شاسعة التفاهة، وهو يتحدث جعل بصري يتشبث بروائع هذه المدينة العجيبة، غادر وهو يحذرني من أن أترك عقلي يتهاوى فوق جليد مسطّحات العادات المبتذلة:
– لا أحب أن أراك يا صديقي تشبه أولئك الذين يظلّون على هذه السيرة ثم يموتون، فنرى مقابرهم تشبه ركام السيارات القديمة، إنّهم يكذِبون كلما قالوا فلانا فارق الحياة، في حين لم يكن يمارس فيها إلّا رحلة حامية من شهوة إلى أخرى ذهابا وإيابا، ثم لا يبرح شارعه العتيق حتى تنتهي أنفاسه، وأكيد أكون كاذبا إذا قلت حتى يموت لأنه ميّت منذ ولد.
قال لي ذلك وتركنا ومضى، وأنا أتأمل ما قاله اكتشفت أن العقل يجوع وأن له فمًا أيضا، ولا بدّ أن نضع أمامه مائدة من الكتب الشهيّة وأطباقا من فواكه الأسئلة، أكيد هكذا كانت تتغذّى عقول صُنّاع الحضارة، وبذلك قلبوا كيان الإنسان وجعلوا منه خلقا آخر، وأنا لا أزال نائما على أرجوحة نهر Arno رأيت ما رأيت، بينما كنت أردّ أنفاسي إذ بالرجل الملطّخ بالألوان يضحك، طل على وجهي ولا يزال يضحك:
– ههههه إن لم تكن تدري أن ابن الهيثم هو الذي كان يحدثك فأنت مغفل، ثم مالك تلهث هكذا؟ لقد جئتك من مكان أبعد، وكما تلاحظ لا يبدو عليّ شيء مما بدا عليك من إعياء، اسمع يا صديقي ليس الجسد هو الذي يفوز في السباق كما يبدو للكثيرين، بل العقل هو الذي يفعل ذلك إذا أجّل المتسابق انفعاله حتى انقضاء المسافة المطلوبة، فلو فحص الطبيب المتسابقين في نهاية السباق لوجدهم نوعين: نوعا كان يجري بأحاسيسه فأرهق نفسه بتوقعه الزائد للفوز أو خوفه المفرط من الفشل، ونوعا آخر كان يجري بعقله فكان عاقلا طوال المسافة، بذلك وفّر مساحة لتبرير فوزه أو فشله، المعهود إن الجري بالأحاسيس مضرّ ليس بالصحة فقط، ولكن بكل المشاريع خصوصا العاطفية منها، لذلك تسخر المرأة من الرجل الذي يُقبل عليها بعواطفه دفعة واحدة، كما يهمل الرجل أيضا المرأة إذا فعلت ذلك، هكذا يحدث لأولئك الذين لا يحترمون مسافة التجاذب، يضطرون فيما بعد إلى التهام الحياة على صفيح بارد ههههه.
انصرف الرجل ووضع ابن الهيثم يده على كتفي مرة أخرى:
– أتدري من الذي كان يحدثك؟ إنه ليوناردو دافينشي.
– آه إنه هو من أخبرني بأنك ابن الهيثم.
– ههههه إذن فأنت محظوظ والأكيد سيختلف حضورك عن حضور كل هؤلاء السيّاح.
أوصاني بألّا أنسى ما علّمني وغادر المكان، لم يمض أكثر من ربع ساعة ليفاجئني أحدٌ بمداعبة ظريفة، وهو يقف ورائي وضع يديه على عيني، فعرفت من خلال روائح الزيوت والألوان أنه دافينشي:
– أخبرني من أنت وكيف انتقيت هذا المكان؟
– أنا حفيد قرينك ذلك الملاك الذي كان يلهمك الفنون والعلوم يا دافينشي، جدّي لم يكن يتراءى لك حين كنت ترسم وتخترع النظريات، رأيته يهمس إليك بالأسرار التي خبأتها في لوحاتك، فقد أوصاني بأن آتيك إذا اشتدّت بي الخطوب، كان عليك أن تلاحظ ذلك من البداية، فهل رأيت سائحا يأتي إلى فلورنسا بنعل قديم مقطوع الجانب ثم ينام قرير العين على رصيفها؟
يبدو أن ابن الهيثم لم يذهب بعيدا، فقد عاد ودخل في نقاش حاد مع دافينشي، ومن فرط جهلي بما يتحدثون خِفتُ أن تُصاب جمجمتي بالتشقق، ثم يسيل مخّي سُدى على رصيف فلورنسا دون أن أستوعب شيئا، لقد اختلط علي حوارهما بالهندسة والرياضيات وبالفيزياء والمنظور، حتى بالحفريات والبصريات، احتدمت أمامي كل النظريات، أردت أن أهرب بعقلي إلى مكان بارد فمسكني دافينشي من ثوب عقلي، وبخلاف السياسيين ضحك كل منهما معي مدة طويلة فكأنما أخذا يرمّمان ذلك التشقق الذي أصاب جمجمتي، وبعكس ما شعرت به أنا لم يبد على أيّهما إرهاق ذهني ولا بدني في حين كانت الأشياء تتمايل حولي، ولم أعُد أدري هل أنا أقف على رأسي أم على قدمي، رأيت الموضوعات والمناظر ترتعش أمامهما، كان كل منهما يريد أن يقنع الآخر بوجهة نظره وغالبا ما يتوافقان، دافينشي يؤكد أن لوحة الموناليزا تلعب مع بصر المشاهد لعبة مخيفة وغامضة، بينما ابن الهيثم يقنعه بعكس ذلك، يبرهن له أن البصر هو الذي يلعب معها هذه اللعبة، وأن ما وضعه دافينشي سوى تهويمات وبراعة فنّية عسيرة التسلق:
– إن البصر لا يرسم ولا يُشكِّل يا صديقي، ولا يمكنه أيضا أن ينقص شيئا أو يضيفه إلى الموضوع، إنما يتلقّاه على حالته التي يبدو عليها أمام عموم الأنظار، يحدث ذلك عندما تكتفي العين بوظيفة الكاميرا، ما أقبح أن نعزل البصر عن العقل عندما نقبل على تأمل الحياة، فعتمة العقل الجاهل تخفي سحر المواضيع وأسرارها، فإذا لم نتخلص بالسؤال من هذه العتمة فإن الجهل سينطبع على عقولنا، ثم تصير علاقتنا بما يحيط بنا أقبح من علاقتها بالأعمى الذي لا يرى شيئا، فلا نكتفي حينئذ إلا بسطحية المواضيع، كذلك نفعل أيضا أمام آلة التصوير حين نَمْثلُ أمامها محنّطين بدون مشاعر، وهي حالة أقبح من احتراق المواضيع أمام الكفيف إلا إذا عمل على تقوية بصيرته، وعرف بأحاسيسه كيف يعوض تلك العتمة فيتعايش معها بروحه، فماذا لو أضاف البصير هذه الخاصية إلى ما يرى، أو ماذا لو أبصر الكفيف ودعّم بالرؤية تلك القدرة؟
يكتفي المُبصر بوظيفة آلة التصوير لأنه على يقين من العودة إلى الأشياء سريعا متى أراد، وفاقد النظر يتجاوز هذه الوظيفة ليتحسّسها ويحفظ أشكالها ومعانيها وأبعادها حرصا على العثور عليها بسهولة في المرة القادمة، أردت يا صديقي أن أُذكّر بنعمة البصيرة، تلك القدرة التي تتجاوز وظيفة الكاميرا حين تكتفي بما تحدّده العين، فالبصيرة هي التي تكتشف حقيقة الحوار بين العدسة والموضوع المستهدف، فتعرف هل كانا يتبادلان نفس الوظيفة، فرآها ورأته وانتهى الأمر مثلا، أم أنه ساعد آلة التصوير لتضيف إلى الصورة محاكاة تجعلك تطيل التأمل فيها، الفكرة تشبه ما يحدث بين الرجل والمرأة في مسألة النظرة الأولى، فقد ينجم عنها حوارٌ عاطفي ينتهي بالزواج، وقد يتوقف الأمر عند مجرد النظر ثم يذهب كل منهما إلى حال سبيله، هنا يكمن السر بين صورة فنّية مفعمة بالمشاعر وأخرى خشبية لا روح فيها.
إذن الجميل في لوحاتك يا صديقي أن كل موضوعاتها كائنات حيّة ترى وتتنفس، بل لها قدرة رهيبة على محاورة المشاهد، فقد تجنّبتَ أن تفعل كما تفعل آلة التصوير حين تتناول كل شيء بما هو عليه، وببصيرتك عوضتها ذلك الإحساس المفقود الذي يمنحها قدرة التحرّي والغوص داخل المشاعر، وهذه أعظم الأسرار التي استحوذتَ بها على أرواح الناس.
لأول مرّة أرى دافينشي منتبها ولطالما قادني من أذني إلى حيث لا أعلم ولا أفهم، واصل ابن الهيثم يشرح المسألة أكثر:
– أنت يا دافينشي مَن لعب دور الكاشف الضوئي في لوحة الموناليزا، فمنحت البصر سرّ الشعور بوظيفته، دفءٌ لطيف يلبد بين العتمة والنور، يشعر المُبصر خلاله بالانتشاء والسعادة، إنها نسبة سحرية من الضوء كتلك التي يجتهد أحدُنا في توفيرها داخل غرفة نومه، ما أعنيه هو أن لوحة الموناليزا تلبّي هذه الحاجة بدقّة أكثر من المصباح العادي.