
بلا وجهة تتوّج، بلا أضواء تنفذ إلى الأعماق، كانت حياتي حاسرة من العتمة لا يكتنف أصلها الريبة ولا فيها ما يتبدل ويتجدد، وكانت هكذا ثابتة لا ألوان فيها، كانت بلا لون ونحن الذين اعتدنا الألوان!
ضجيج قارع في فمي، تهوي المرارة وتنضح كسيل عارم لا شيء يوقفه.
وأتذكر أنا التي كُنتها قبل، آهٍ إنّ هذه الريح التي في فمي، والخرخرة التي في صدري، والسعال الذي يعلو كأمواج متدافعة بجنون متسببة بعاصفة بحرية.
أتذكر في خضم هذا التعب والألتهاب، التهاب صفحة عمري وحياتي تلك التي إنقضت قاصفة، سريعة لا تُمهلني اللحاق بها أو الأمساك بها!
أؤمن بأننا ضحية أفكارنا، وأفكار الآخرين، وأفكار المجتمع على السواء وإن لم نكن أقوياء بفرداتنا وبالإمساك بزمام حياتنا، وتصويب أفكارنا عن أنفسنا لن تلحق بنا حياتنا، نعم لن تأتينا وسوف تذهب هباءً، تنثرها الرياح وتحطم كل زواياها.
آهٍ أعود وأتذكر كيف كنتُ طفلة، سمراء، لا تستحسنها تلك النساء في بيئتنا وبيوتات زقاقنا.
كنّ ما إن يُشاهدنني، يبتسمن وتقلن أعينهن أولاً سوداء (متفحمة) ثم تلقيها زعاف ألسنتهن وكأنهن يُردن في ذات الوقت زَفّ البُشرى لأمي ويقولونها بابتسامة خفيفة الزمن الآن تغير يا أم (مصطفى)
البنات بدأت تعمل عمليات تجميل وبنتك جميلة ولكنها ينقصها فقط عملية صغيرة وتصبح ملكة جمال.
ثم يُكملن البُشرى باستذكار الفنانات والمشهورات التي قنن جمالهن، فالفنانة تلك كان أنفها كبيراً وبعملية صغيرة أصبحت أجمل الجميلات ثم هل نسيتن تلك الفنانة التي كانت سوداء ثم بقدرة قادر أصبحت بيضاء وكأنه لون بشرتها الحقيقي.
ثم يتحسّرن على أنفسهن ويلكزن بعضهن البعض.
إنه المال الذي يغير كل شيء.
نعم المال، المال…
وما أن أسمع تلك الكلمات حتى أتلاشى أختفي، أختفي…
وأعود إلى المرآة وأنظر إلى لون وجهي، إلى التشوّه الذي أحدثه الحرق في يدي اليمني وساقي اليسرى وأجهشُ بالبكاء..
أنظر إليهما وأضربهما نعم كنت أعقابهما وأبكي وأصرخ لماذا هكذا خلقت؟
لماذا؟
بالتأكيد لو رأيْنَ النساء يدي وساقي، لكَفَرن بجمالي أكثر، وقلن معاذ الله أن تتزوج هذة الفتاة، سوداء ومشوّهة.
لكنني كنت أجاهد في اخفاء هذا العيب بملابس تغطيهما لا أظهرهما للمشاهدة أبداً، ظناً مني أن لا أحد يعلم، حتى أمي؟
كنتُ لا أراه تشوّه في جسدي، أراه تشوّه لكل حياتي، لاستحقاقي العيش، العيش كلؤلؤة، أو جوهرة ثمينة لا يعيبها نقصاً صغيراً، طفيفاً.
لم أكن أعي أنّ ما يصبغ جمالي أولاً روحي التي تقبل بأن النقص فرصة للإمساك بمحبرة تصوغ الجمال، بريشة ترسم ملامح الحياة، بقلم يكتب قصة كاملة، مختلفة.
لم أكن أعرف أنّ الشخصية هي التي تبرز وتقيم الانسان.
لم أكن أعرف أنّ الابتسامة التي تخرج من القلب بداية لدخول الحب والألفة في قلب الانسان الآخر..
وعشت هكذا حياتي متقوقعة في داخلي.
ثم إنّ شراسة الوقت لا ترحم، والوسوسة تتمخض في رأسي، في فمي، وتهبط من عنقي إلى كل أعضائي، تعضني، تقضمني، تأكلني كلي إلى أن أصل بأن لا أعرفني، لا أعرف من أنا من أكون غير إسمي، وإسم عائلتي وقبيلتي.
أفكاري، ليست أفكاري، هويتي ليست هويتي.
وفي كل سلسلة علاقاتي، أكتشف الجزء الذي ينقصني، أكتشف أني لا أعرفني، فلولا تلك العلاقات، لحُرمت من اكتشاف الحقيقة، حقيقتي!
أنني زرعٌ لا يثمر أبداً، أنني نبتة تنمو ثم تذبل، تضعف وتعود لتنمو ثم تموت وتبقى الدورة تدور، وتدور كحلقة مُفرغة من اللاشيء.
والحب أو التعلّق إن صدقتكم القول يأتي بحسناته ليقطع الدائرة قليلاً، يفتحها لأرى، أتبصّر لعلّي أخرج من الدائرة، لعلّي أُشفى من مرضي!
وبما أنّ المال هو الذي يصنع الجمال في هذه الحياة ونحن عائلة فقيرة لا تملك من المال إلا قُوتها اليومي، فأبلع أحلامي لسوء ظني أني لن أبلغها، أليس من حقنا نحن الفقراء أن نحلم؟
ذاك سؤال يُكرره ذهني باستمرار بلا رحمة ولا نسيان.
أضغط على زر الوجع بكلّ قوتي لعلّه يطفئ وأرتاح من الألم قليلاً ولكن هيهات فهو لا يتراجع عن الوميض.
فأنا محاصرة بين الوسواس المتلازم لي وحُلكة بشرتي السمراء وبين الفقر الذي يؤجل عملية تجميل حروقي فضلاً عن لون بشرتي!
آهٍ.. ثم إنني ما أن أتجول في منزلنا وقريتنا حتى أصاب بالدوار من حقيقة الألم الذي يُغلفنا جميعاً داخل دائرته.
قريتي تحمل على ظهرها بيوت من طين وكأننا لسنا من هذا الزمن، أتساءل لماذا لم نتحصّل على نصيبنا من العمران؟
هذا حقاً يُصيبني بالغثيان.
لا أريد أن أتكلم.
عليّ بالصمت.
عليّ بالصمت.
فهذا أخف وطأة من الحديث واجترار الأحزان.
كم هو جميل الشفاء من الألم النفسي، أنا أُقر وأجزم بأنّ الانسان ما أن يتماثل للشفاء من مآسيه النفسية حتى يعود للحياة جُملة وتفصيلاً معنى وحقيقة…
لكن أحياناً بداية الأمراض لا تتشكّل دوماً من سخرية او استهزاء أو تنمّر كما في المصطلح الجديد بل هو إصابة مادية تحيط به اللكمات واللدغات بروحه وحياته فلا يعود يراها على نحو سليم ما دام ذلك التشوّه كما في حالتي موجوداً.
نحن جُبلنا على مسايرة المتعارف، نحن كما الدُمى ولو حركتنا الروح، نرى شكلنا يجب أن يكون كذا وكذا وإلا داخَلنا احساسٌ بالنقص والضآلة، وربما هذا التعتيم والنقص يظلّ قابعاً في أعماقنا يُشكلنا حسب نظرتنا.
الناس لا تراه بالضرورة وربما تراه ولكن لا تعرف حقيقته من أي كدمة مزعجة، لكن الفرد نفسه يُبصرها على الأغلب إن كانت مادية كالاصابة الجسمية أما إن كانت نفسية فقد تغيب حتى عن عين الإنسان نفسه أحياناً…
نائية قريتي فلا عمل ولا أمل عندي…