
يمثل النص آنفا أنموذجًا شعريًا يتمرد على النظم التقليدية، سواء على مستوى اللغة أو البنية أو المعنى. إنه نص لا يسعى إلى تقديم صورة نمطية للكتابة، بل يحاول تفكيك القواعد المتعارف عليها، لخلق فضاء نصي متحرر من الإملاء المسبق. وبواسطة هذا التمرد، يتشكل نص يمارس حريته المطلقة، ويطرح إشكالية العلاقة بين الذات الشاعرة واللغة، وبين الشكل والمعنى.
بنية المفارقة في النص
تتجلى بنية المفارقة في النص في مستويات متعددة، بدءًا من رغبة الشاعرة في كتابة “قصيدة بلا قيود” في حين أن النص نفسه يبقى مقيدًا بلغته، بيد انه يستعمل المفارقة لتحطيم هذه القيود. تكمن المفارقة الأساسية في أن النص قد بُني عبر رفضه للبناء، فهو يسعى إلى التحرر من النحو، لكنه يظل لغوية؛ يحاول الانفلات من الضمائر، لكنه يظل ذاتيا بامتياز.
“قصيدة تهرب من سجن الحروف الكبيرة والصغيرة، لا تنحني تحت سوط القواعد”
هنا تتجلى المفارقة في استعمال صور توحي بالقيد (السجن، السوط، الطابور) مقابل رغبة التحرر، مما يخلق توتراً داخل النص يعزز دلالته. تعمل المفارقة / هنا / كأداة لتوسيع الفجوة بين المألوف والمحتمل، مما يمنح النص بعده الجدلي.
بنية التحول السردي في النص
يعتمد النص على تحولات سردية تنقل المتلقي من حالة إلى أخرى، مستعملا لغة ديناميكية تصف التحولات التي يمر بها النص نفسه . فالنص يبدأ بتصريح عن الرغبة في الكتابة، ثم يتحول إلى تصوير النص ككيان متمرد يرفض القواعد، ثم يأخذ بُعدًا أكثر جسديًا بتجسيده في صورة كائن حي يتنقل بين أشكال مختلفة.
“أريد أن أكتب قصيدة… تتحول إلى امرأة تمشي وحدها في شارع مزدحم، إلى موجة تبتلع سفينة ثم تنساها، إلى طفل يتسلق الهواء ويضحك، إلى قط أسود يتسلل بين الأزقة، ويغير مسار الحكايات.”
هذا التحول السردي يعزز ديناميكية النص، إذ يتحرك من مجرد فكرة “كتابة قصيدة” إلى تمثلات مختلفة تجسد هذ النص ، مما يمنحه طابعًا وجوديًا يمزج بين الواقعي والمتخيل.
بنية النزوع إلى الخروج عن المألوف
يتمرد النص على القوالب التقليدية ، ليس فقط من جانب اللغة، بل من جانب التصور الشعري نفسه. إنه نص ينكر الحدود، ويجعل من فعل الكتابة ذاته موضوعًا للتجربة الشعرية. هذا النزوع نحو الخروج من المألوف يتجلى في الصور التي تقدم النص ككيان لا يخضع لأي نظام معروف:
“قصيدة بلا رأس ولا ذيل ! قصيدة تسير على أربع أقدام ثم تطير!”
هنا تكسر الشاعرة التوقعات، إذ يتحول النص من كيان لغوي إلى كائن حي يمتلك صفات متناقضة. هذا التحول المستمر يضع المتلقي أمام نص لا يمكن احتواؤه ضمن مفهوم تقليدي للقصيدة.
الكوجينو الوجودي في النص
يرتكز النص على تأكيد الذات الشاعرة بواسطة الكتابة، إذ يتحول الفعل الشعري إلى معادل وجودي يعبر عن الرفض والمقاومة. النص هنا ليس مجرد نص يُكتب، بل هو وسيلة لإثبات الوجود عبر التمرد على اللغة والقواعد:
“أريد أن أكتب قصيدة… قصيدة ترقص عارية تحت مطر لا يتوقف، وتضحك في وجه الكآبة كنافذة مفتوحة على البحر.”
في هذا السياق، يتجسد الكوجينو الوجودي في أن الشاعرة لا تكتب فقط، بل ترقص، وتضحك، وتقاوم، وترفض، مما يجعل الفعل الشعري ذاته شهادة على الوجود. هذا يتقاطع مع رؤية سارتر في أن الوجود يتحدد بالفعل، فالشاعرة توجد لأنها تكتب وتتمرد.
النص في ضوء نظرية آن روبول التداولية المعرفية والتأويلية
تستند نظرية آن روبول التداولية المعرفية والتأويلية إلى أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي بنية ديناميكية تتشكل عبر التفاعل بين المتكلم والمتلقي، وتأخذ معناها الكامل في ضوء سياقها التداولي. وفقًا لهذه النظرية، فإن الفعل اللغوي يتجاوز مستواه التركيبي والدلالي إلى مستوى إنتاج المعرفة، حيث يتم تحليل النص ليس فقط على أساس معانيه الظاهرة، بل على أساس التأويلات التي تنتجها بنيته التداولية.
في هذا السياق، يمكن قراءة “قصيدة بلا قيود/خارج الإطار” كممارسة تداولية تعيد تعريف وظيفة اللغة الشعرية، حيث تعمل الشاعرة على خلق فضاء لغوي جديد من خلال:
1- الخروج عن القواعد بوصفه استراتيجية تداولية
إن رفض الشاعرة للضوابط النحوية والترقيمية في قولها:
“قصيدة تهرب من سجن الحروف الكبيرة والصغيرة، لا تنحني تحت سوط القواعد، ولا تصطف في طابور علامات الترقيم.”
لا يمثل مجرد تمرّد شكلي، بل هو استراتيجية تداولية تهدف إلى إعادة تشكيل علاقة القارئ بالنص. فوفقًا لنظرية روبول، لا تُفهم اللغة إلا في إطارها التداولي، وهنا تتحول اللغة إلى فضاء تحرري، حيث يتم تحطيم الحدود التقليدية لخلق نوع جديد من التواصل يقوم على الإدراك الحسي والتأويل الذاتي بدلاً من الامتثال للمعايير النحوية الجامدة.
2- التعدد الدلالي وتجاوز المعنى الأحادي
تفترض روبول أن المعنى لا يُختزل في المستوى الدلالي المباشر، بل هو نتاج عمليات تأويلية معقدة تعتمد على السياق والتفاعل بين النص والقارئ. في القصيدة، هناك توتر مستمر بين النص بوصفه منتجًا لغويًا مألوفًا، وبين النص ككيان يسعى إلى الانفلات من أي تأطير دلالي ثابت، كما في المقطع:
“قصيدة بلا رأس ولا ذيل! قصيدة تسير على أربع أقدام ثم تطير!”
هنا، تقدم الشاعرة صورًا متناقضة تجعل النص منفتحًا على تأويلات متعددة. فلا يمكن حصر “القصيدة” في صورة محددة، بل تتحول إلى كيان هلامي متغير، ما يجعلها نصًا تداوليًا بامتياز، حيث يعتمد معناها على التفاعل بين القارئ والنص، وليس على دلالتها الذاتية فقط.
3- تفاعل الأفعال الكلامية في النص
تتحدث روبول عن مفهوم “الفعل الكلامي” (Speech Act) الذي يشير إلى أن كل جملة ليست مجرد وحدة لغوية، بل هي فعل يحمل وظيفة تداولية. في القصيدة، هناك مجموعة من الأفعال الكلامية التي تشكل بُنيتها:
• أفعال إرادية: مثل “أريد أن أكتب قصيدة”، حيث تعلن الذات الشاعرة عن رغبتها في خلق نص متحرر.
• أفعال إنشائية: مثل “قصيدة ترقص عارية تحت مطر لا يتوقف”، حيث يتم خلق صور لا تعكس الواقع بل تصنعه.
• أفعال مقاومة: مثل “قصيدة تهدم اللغة وتبني مدينة من الفوضى”، حيث تتحول القصيدة إلى ممارسة احتجاجية على اللغة نفسها.
بهذا، لا يكون النص مجرد تعبير عن موقف ذاتي، بل هو سلسلة من الأفعال الكلامية التي تؤدي دورًا تداوليًا يتجاوز مستوى الخطاب إلى مستوى التأثير على القارئ وإعادة تشكيل نظرته إلى الشعر واللغة.
4- المعنى كفعل تأويلي متغير
وفقًا لروبول، فإن النصوص التي تتجاوز المباشرة اللغوية تفتح المجال أمام التأويل المستمر، حيث لا يكون هناك معنى واحد ثابت، بل يتشكل المعنى عبر القراءة المتجددة. في “قصيدة بلا قيود”، يتم تحطيم الحدود بين النص والقارئ، حيث تتحول القصيدة إلى كيان غير مكتمل يسمح بتعدد التأويلات، كما في:
“قصيدة تفتح قوسًا ولا تغلقه، تترك الجملة معطلة في منتصف الطريق، تمضي… ولا تلتفت…”
هنا، تقوم الشاعرة بخلق فضاء تأويلي غير مكتمل، حيث يتم ترك الجملة مفتوحة أمام القارئ ليكمل معناها وفق تأويله الخاص، وهو ما يتوافق مع مفهوم روبول حول “المعرفة التأويلية” التي ترى أن النص لا يكتسب دلالته إلا عبر عملية التأويل المستمرة.
5- النص كأداء معرفي (Cognitive Performance)
تنظر روبول إلى النصوص الإبداعية على أنها ليست مجرد تمثيلات لغوية، بل هي “أداء معرفي” يعمل على توسيع الإدراك وإعادة تشكيل الوعي. القصيدة هنا ليست مجرد عمل شعري، بل هي ممارسة معرفية تعيد تعريف مفهوم الكتابة ذاتها:
“أريد أن أكتب قصيدة… تتحول إلى امرأة تمشي وحدها في شارع مزدحم، إلى موجة تبتلع سفينة ثم تنساها، إلى طفل يتسلق الهواء ويضحك.”
إن تحويل القصيدة إلى كيانات متعددة (امرأة، موجة، طفل) يعكس الفكرة الروبولية التي ترى أن اللغة ليست مجرد أداة وصف، بل هي وسيلة لإنتاج معرفة جديدة من خلال إعادة تشكيل الصور والتمثيلات الذهنية، مما يجعل النص فضاءً مفتوحًا للإدراك المتغير.
الخاتمة
من خلال تحليل النص وفقًا لنظرية آن روبول التداولية المعرفية والتأويلية، يمكن القول إن “قصيدة بلا قيود/خارج الإطار” ليست مجرد تمرد على الشكل التقليدي للقصيدة، بل هي إعادة تشكيل جوهرية لوظيفة اللغة الشعرية. إنها نص لا يكتفي بأن يكون قصيدة، بل يتحول إلى “حدث تداولي” يعيد تعريف العلاقة بين النص والقارئ، حيث يصبح المعنى عملية ديناميكية تتشكل عبر التأويل المستمر.
في هذا السياق، يتجلى البعد الفلسفي للقصيدة في كونها ليست مجرد تعبير ذاتي، بل هي ممارسة معرفية تُعيد النظر في مفهوم الكتابة والوجود معًا، ما يجعلها نصًا تداوليًا وتأويليًا بامتياز، يتجاوز حدوده اللغوية ليصبح فعلًا فكريًا وموقفًا وجوديًا في آنٍ واحد.
“قصيدة بلا قيود/خارج الإطار”
* مجيدة محمدي
أريد أن أكتب قصيدة ،
قصيدة تخرج من رحم الضوء عارية من الضمائر ،
تتسلل من بين أصابع النحو وتكسر ضلع الجملة الفصيحة.
قصيدة تهرب من سجن الحروف الكبيرة والصغيرة ،
لا تنحني تحت سوط القواعد
ولا تصطف في طابور علامات الترقيم،
أريد أن أكتب قصيدة
لا تعرف معنى البداية ولا تؤمن بالنهايات ،
تتمدد كظل شجرة متعبة على إسفلت يذوب في شمس أغسطس.
قصيدة تتمطى كسحابة ثقيلة على أكتاف الريح ،
لا تلتزم بحدود السطور
ولا تخشى السقوط من حافة الورقة .
أريد أن أكتب قصيدة
قصيدة بلا رأس ولا ذيل !
قصيدة تسير على أربع أقدام ثم تطير !
قصيدة تحمل عيونها في راحة يدها ،
تغمضها متى أرادت وترسم بها نهاراً جديداً متى شاءت .
قصيدة من لحم المعنى وعظم المجاز.
قصيدة ترقص عارية تحت مطر لا يتوقف ،
وتضحك في وجه الكآبة كنافذة مفتوحة على البحر .
أريد أن أكتب قصيدة
تنسى نفسها في منتصف الكلام .
قصيدة تنسى أنها قصيدة
وتتحول إلى امرأة تمشي وحدها في شارع مزدحم ،
إلى موجة تبتلع سفينة ثم تنساها،
إلى طفل يتسلق الهواء ويضحك،
إلى قط أسود يتسلل بين الأزقة ، ويغير مسار الحكايات.
قصيدة تهدم اللغة وتبني مدينة من الفوضى .
قصيدة تكسر المرآة وتترك الوجه في ضياعه الجميل.
قصيدة تفتح قوساً ولا تغلقه
تترك الجملة معطلة في منتصف الطريق .
تمضي… ولا تلتفت…