
الملخص
يهدف هذا البحث إلى توضيح موقف الشاعر الأردني مصطفى وهبي التل (عرار) من الحياة والمجتمع، وتتبع صور التمرد والرفض في حياته وشعره، ولذلك فإن الباحث يحاول تتبع صور الرفض المختلفة في شعر عرار وحياته وعلاقاته مع المجتمع بكل أطيافه ، ويحاول الباحث كذلك تحليل أسباب انتقاد هذا الشاعر للواقع، وتتبع محاولاته لتغييره . وتتبع ملامح رفضه للعنصرية، ومعاداته للطبقة المستغلة، ووقوفه إلى جانب الفقراء والضعفاء والنور ومساندته لهم، وإقباله على شرب الخمر، ورفضه المستمر للوم اللائمين فيها ، ورفضه الاحتلال، وكل رموزه وأموره. ومحاولة تتبع أثر هذا الرفض وهذا التمرد في شعره شكلا وأسلوبا ولفظا ومعنى.
Abstract
Rebellion and rejection of Arar in his life and poetry
This research aims to clarify the position of the Jordanian poet Mustafa Wahbi Al-Tal (Arar) towards life and society, and to follow the images of the rebellion and rejection in his life and his hair. Analyze the reasons for this poet’s criticism of reality, and track his attempts to change it. Following the images of his rejection of racism, anti-exploited class, and stand by the poor and the weak and light and support them, and his desire to drink alcohol, and his continued refusal to blame the appropriate, and rejection of the occupation, and all its symbols and matters. And try to trace the impact of this rejection and this rebellion in his hair form, style, pronunciation and meaning.
الكلمات المفتاحية
عرار، الهبر، النور، الرفض، عشيات وادي اليابس، السخرية
key words
Arar, Habr, light, rejection Asheyat wade alyabes, ridicule
المقدمة
إن الرفض والتمرد في الشعر ليسا بجديدين على الشعر العربي، فما زال الشنفرى يقرأ علينا لاميته، وما زالت صور إخوانه الصعاليك وهم يرفضون الواقع المرير، ويطالبون بالعدالة والمساواة، حاضرة في مجالسنا، وما زال النقاد ينظرون إلى صورة أبي نواس وهو يتمرد على تقاليد مجتمعه، وينادي على الشقي الذي يسأل الطلل ليسأله ما بال خمارة البلد، وتحضر صورة المتنبي الذي حمل السيف والشعر والكبرياء ورفضَ وتمرد:
وما أنا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرُّغام
وفي العصر الحديث كان عرار واحدا من هؤلاء المتمردين الرافضين، ولكن بنكهة “عرارية” فهو قد عاش واقعه، وصارعه وسعى إلى تغييره بالشعر وبالعمل ليلتصق اسم هذا العرار بذاكرة الأردنيين، وهو الاسم المستعار الذي اختاره لنفسه، تيمناً “بعرار بن عمرو بن شأس الأسدي”(1)، وقد منح نفسه هذا الاسم (عرار) بعد طلاق والدته، ويبدو أنه وجد تشابها بين حياته وحياة عرار ابن عمرو بن شأس(2):
أرادت عراراً بالهوان، ومن يرد عراراً -لعمري- بالهوان فقد ظلم
في ديوان عرار أكثر من ظاهرة تستفز القارئ وتجره إليها، منها: روح عرار المرحة الساخرة، ورفضه وتمرده، وكلماته العذبة السهلة، ولغته المستقاة من الحياة اليومية في البيئة الأردنية، والبحور الشعرية المليئة بأسى قلبه وآماله العريضة، لكن ظاهرة الرفض المنتشرة على صفحات عمره، والملتصقة بنغمات قصائده وبحورها بحنان وقسوة وقوة فرضت نفسها عليَّ، وسحبتني إلى وادي اليابس، وسهول إربد، ودحنون عجلون، وخرابيش النَّور، وبلاط الحكام، وسجلات المحاكم والسجون، ودواوين الشعراء لأقرأ عن عرار سطرا من الرفض والتمرد.
وهذا البحث جاء ليتتبع ملامح االرفض في شعر عرار وحياته، لما لهذه الروح الرافضة المتمردة عنده من أهمية في تشكيل مواقفه، وتأثير في شعره، ولأنها تسم كثير من قصائده وأبياته فيها، وقد سبق الباحث كثير من الذين بحثوا في شعر عرار منهم البدوي الملثم، عرار شاعر الأردن، دار القلم، بيروت، د ت. وزياد الزعبي في “قراءات مقالات ونصوص ثقافية، وزارة الثقافة، عمان،2002. ويوسف عطا الطريفي في ” مصطفى وهبي التل (عرار) حياته وشعره “الأهلية للنشر، عمان 2010م. وزياد صالح الزعبي في مقدمة “عرار، عشيات وادي اليابس، ديوان مصطفى وهبي التل (عرار)، جمع وتحقيق. د ت. ومحمد كعوش في “أوراق عرار سياسية، وثائق مصطفى وهبي التل” 1980. وعيسى الناعوري في ” الحركة الشعرية في الضفة الشرقية، وزارة الثقافة والشباب، عمان، 1980. ولكن هذه الدراسات على أهميتها لم تخصص بحثا مستقلا لظاهرة التمرد في شعر عرار، وقد رأى الباحث أن المنهج الوصفي التخليلي سيكون خير معين له للوصول إلى النتائج المرجوة.
وقد جاء البحث في مقدمة وتمهيد ومحورين وخاتمة، تحدث في التمهيد عن عرار وحياته، وأما المحور الأول فكان عن مظاهر الرفض في حياة عرار، وأما المحور الثاني فكان عن مظاهر الرفض والتمرد في شعر عرار، وحملت الخاتمة أهم النتائج التي انتهى إليها الباحث.
“عاش عرار حياة مثيرة مستفزة، وكتب شعرا مثيرا مستفزا، وأخلص في حياته تلك وشعره هذا لمبدأ البطولة والرفض، فقضى عمره ثائرا متمردا خارجا عن كل ما هو مألوف، وعن كل ما يتواضع عليه الناس في مجتمعه”(3)، ومن هنا نشأت العلاقة بينه وبين مجتمعه بكل ما فيها من فرح وحزن، وخوف واطمئنان، وقسوة ولين، وواقع وحلم، وصمت مريع وحرية مستفزة، ورفض وقبول، وغضب ثائر وسكون بليد، فهو قد جمع في موقفه من الحياة والمجتمع بين مبادئه التي بناها لنفسه ، وما نفذ إلى قلبه مما تواضع عليه الناس ، ولكنه كان جريئا في رفض كل ما يمكن أن يتعارض مع مواقفه التي ثبت عليها .
كان عرار يعتبر نفسه من مؤسسي المعارضة وأحد أبرز أركانها، ولكنه عارض المعارضة، وحمل عليها عندما سُخِّرت لتحقيق مكاسب ذاتية، وحمل على المجلس التشريعي في مقالات عنيفة قاسية حملتها الكرمل، وسرت كلماتها وانتشرت في الشارع الأردني انتشار النار في الهشيم. (4)
لم يفسد ذمة عرار بريق الأوسمة، ولا الألقاب، ولم تنحت من أثلة عقيدته الوطنية بهرجة السفاسف، يقول:” اللهم ساعدني على أن أزرع الأمل في القلوب، وأضمد الجراح، وأمسح الدموع، وأضيء شمعة في كل كوخ وفي كل بيت مظلم! اللهم إذا أخطأت أعطني القوة لكي أعتذر عن خطئي، وإذا ظلمت فأعطني الشجاعة لكي أسارع إلى رفع الظلم عن كاهل المظلوم…اللهم ساعدني على ألا أتخلى عن مظلوم وعلى ألا أخاف من ظالم… (5)
كان أول صدام لعرار مع والده إذ رفض الوضع الذي آل إليه بيته بعد طلاق أمه، وكان من نتائجه أنْ اختار لنفسه اسما آخر (عرار) مليئا بإيحاءات ما وقع عليه من الظلم وما يمور به من الرفض، “وامتد هذا الصدام مع الأيام ليشمل عرارٌ برفضه كل ما يخالف رؤيته وتطلعاته وفلسفته في الحياة، فقد رفض كثيرا مما استقر في وجدان الناس من قيم وعادات، واعتبرها زيفاً ونفاقا وظلما للإنسان الأردني”(6). ومنذ صباه وهو، كما وصفه بعض من عرفه عن قرب، “ذو طباع عجيبة، لا يكترث بكل ما تعارف عليه الناس من عادات وأخلاق”. (7)
كانت نفس عرار تجيش بمشاعر الرفض لما يمور به المجتمع من حوله من مظاهر الظلم والقسوة والحرمان وتسلّط الأجنبي على مقدَّرات بلده، فانحاز إلى جانب الضعفاء والمستضعفين.
رفض عرار استباحة الأرض فهي روحه، وجوهر وجوده، ورفض استباحة الإنسان، فناصر الضعفاء والمظلومين والمحرومين، ورفض التحول الحضاري الفج الذي مثل له انقلاب الموازين، كما رفض جمود المجتمع وأميته وصممه.
مظاهر الرفض عند عرار
ويمكننا أن نقرأ في حياة عرار مواقف رافضة كثيرة أهمها:
رفضه للعنصرية، ومعاداته للطبقة المستغلة، ووقوفه إلى جانب الفقراء والضعفاء والنور ومساندته لهم، وإقباله على شرب الخمر، ورفضه المستمر للوم اللائمين فيها، ورفضه الاحتلال، وكل رموزه وأموره.
عرار والنّور
أما وقوف عرار إلى جانب النَّور، فقد جلاه في بعض أحاديثه الطريفة عنهم من دار الإذاعة الفلسطينية في القدس، يقول: ” والنور بشر مثلي …فهل يمنع فقرهم وبؤسهم وحياتهم المتنقلة من أن يحسوا ويشعروا ويتألموا ويتأذوا كما يحس ويشعر غيرهم من الناس إذا ما استهدفوا للأذى وجوبهوا بما لا يرضي؟! إنهم فقراء، وإنهم ضعفاء، وإنهم مشردون…ألأنهم نور فحسب يعاملون هذه المعاملة؟ وهل هذا من العدل بشيء؟”. (8)
لجأ عرار، أثناء دفاعه عن الطبقة المحرومة المضطهدة ومهاجمته للفئات المستغلة، إلى النَّور الفئةِ المنبوذة اجتماعيا، ليقضي معهم معظم وقته، وتسلح بهم، وناصرهم، ودافع عن قضاياهم، وطالب برفع الظلم عنهم. وقد كان موقفه هذا موضع استهجان من أغلب الأوساط، لكن عرار لم يأبه للوم اللائمين ولم يجزع لتخرُّص المتخرصين، كان يسمع كلمات التقريع، ويرى نظرات الشزر كلما خرج من بين خرابيش النَّور، لكنه لم يأبه لتلك الانتقادات، وثبت على تلك اللذة الفاضلة البريئة التي يجدها في مضاربهم؛ فقد هام بهم، وشغف قلبه بأغانيهم، وبخفقات طبولهم، وبالحزن المرسوم على وجوه فتياتهم بلذة وبقسوة طلبا للحياة.
استند عرار إلى الدستور الأردني عندما طالب بإنصاف النور؛ فالأردنيون أمام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين. واستند إلى الدستور عندما دعا ذوي الشأن إلى تعديل قانون الانتخاب في الأردن ليكون للنور مقعدا في المجلس التشريعي أسوة ببقية الأقليات في الأردن .(9)
كان لجوء عرار إلى خرابيش النور هروبا من الواقع إلى الواقع، وإصرارا على المواجهة والتغيير، ولعله كان السند والدعامة التي دعم بها عرار ذاته إن ساورها الشك في صحة مساره ،وإن تساءلت عن موقفه من الظالم والمظلوم، ومن المستبد والضعيف والمستعمِر والمستعبَد يقول عرار في رسالة لنجله: ” فحسبك أن تتصور أني كنت في ترددي على مضارب النور شريفا”(10).ويقول: “إني أنصحك أن لا تقلدني في مثل ولعي بالموسيقى ولعاً جعلني أنشد الألحان في مضارب النور، وأداعب الهبر، فهذه حالة شاذة اقتضتها طبيعتي كشاعر وكسياسي، اتخذت من النور والتحدث عنهم وسيلة لستر غمزاتي وهمزاتي الوطنية يقصد تحريك شعور الشمم في نفوس أهل بلادي بمقايستهم بالنور”(11)
عرار والخمر
لجأ عرار إلى الخمر وتغنى بشربها وجهر، وتغزل بكؤوسها، وكأنه يريد أن يعلم الجميع أن عرارا يسكر، أراد رموز المجتمع أن تسمع طرقات الخمر على كبده، أراد أن يريهم فرقا كريها بين ما هم فيه من الزيف والنفاق وما هو عليه من خطيئة شرب الخمر. ولعل عرارا قد رأى أن الخمر قادرة على مساندته في معركة الحرية والمساواة فضمها إليه لتحمل معه بعض غضبه ورفضه، وتحمل تمرده إن أقواه التعب، وأتعبه التحدي، واخترقت جسده السهام الكثيرة:
فهات الكأس مترعةً من الصهباءِ ألوانا
يُطـالعنا بهـا حَبَبٌ كعين الديك يقظانا
وهبْ عمان ماثلةً وظُنَّ حميد حمدانـا
وهذا الكوخ ديوان ال أميـر وذاك رغدانا
وقل للهبر يا باشا وسم هديب شوشانـــا (12)
يرى الباحث أن الخمر التي حساها عرار لم تكن وسيلة لإنهاء حياته، كما قال بعض الباحثين، (13) وإنما كانت وسيلة استعان بها عرار للهجوم على فساد المجتمع وان حلاله بعد أن أصم ذوو الشأن آذانهم عن صراخه وآهاته، وكبر همه، وكثرت قيوده وقيود أبناء قومه، وطغى المحتل وتجبر.
كان عرار يدرك أن شربه ليس كشرب غيره من الذين يتخذون منها بابا من أبواب الفسوق، إنما هو يشربها ويسكر بها لتكون عامل تهدئة لنفسه مما يلحق بها، ليصحو بها ويعاود الكفاح في سبيل وطنه وقومه:
بعضهم يَسكَرُ للسُّكرِ وفي الناس من يسكر يا شيخُ ليصحو (14)
ولم تفلح لذلك رسائل أبيه الكثيرة التي يرجوه فيها أن يترك الخمر في إقناعه بتركها (15) ولم تفلح نصائح الأطباء في إقناعه بالإقلاع عنها، يقول:
قال الأطباء: لا تشربْ فقلت لهم: الشُّرب لا الطب عافاني وأبراني (16)
عرار والفقراء والفلاحين
آلم عرار ما أصبح عليه كثير من المزارعين والفقراء في الأردن، فقد عاشوا في تهديد دائم وقلق عنيف، وخوف شديد من تراكم الديون وجور التجار المستغلين، وقسوة المرابين ومن شهوة الطمع المغروسة بين أنياب المتجبرين والمتسلطين الذين يمصون دم الشعب.
كافح عرار ليدفع الضيم عن هؤلاء بكل ما يستطيع، قولا وعملا. وضحى بأكثر من منصب ووظيفة لأنه رفض تنفيذ الأحكام عليهم، ورفض مصادرة أموالهم لصالح المرابين، وكان جريئا في مناصرة الفقراء لأنه كان يؤمن أن العدل لا يعرف انحرافا. وتقلِّب عرار بين الوظائف لأنه استغل الوظيفة لتحقيق العادلة التي نادى بها، رافضا أن يرفع السجن ليخنق به أباء أو رجالا من أبناء بلده جرهم الفقر إلى ساحات المحاكم مضرجين بدم أرضهم، مكبلين بعوزهم.
رفض عرار الوظيفة ومبدأ أن يكون موظفا، يقول:
“…وأهم شيء يجب أن تعرفه هو أن الوظيفة ليست بمورد رزق لأنه منتزع من لقم الجياع والمساكين، والله لا يطرح فيه البركة بالغاً ما بلغ..”(17)
إلآ أنه قبل وظيفة مراقب تموين لأنها وظيفة -من وجهة نظره – تحمي المواطنين من غش السماسرة وطمع التجار، ويذكر البدوي الملثم أن عرارا وقف خطيبا في المرابين على مسمع من المسؤولين وقال: “يا قساة القلوب! يا غلاظ الأكباد! من له آذنان للسمع فليسمع إلى قول ابن مريم في أناجيله الأربعة: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”. ألا وإن في قانون الإجراء نصا ينص على ما ألمحت إليه الآية الكريمة: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله …” (18)
وتعرض عرار نتيجة مواقفه تلك إلى المناقلة الوظيفية والطرد والنفي والسجن، والإقامة الجبرية فامتلأت حياته بذكريات من زنزانته، وبأسباب طرده أو سجنه أو نفيه. (19)
عرار أردني عربي مقاوم:
انتشر حب عرار للأردن في كل ديوانه، فسقى به أشجار راحوب ورفد به نهر الزرقاء، وانتشرت مدن الأردن، وقراه، وأشجاره، ووروده، ونسائه، وفقرائه بين جوانح أبياته هانئة آمنة، تشرب حبا عراريا خالصاً لها وحدها، حباً ظنه كثير من الناس إقليميةً، كأنهم لم يسمعوه يقول:
يا ربِ إنْ بلفورُ أُنفِـذَ وعده كم مسلمٍ يبقى وكم نصراني!
وكيانُ مسجد قريتي مَنْ ذا الذي يُبقي عليه إذا أُزيـلَ كياني
وكنيسةُ العذراءِ أين مكانـُها سيكون إنْ بُعِثَ اليهودُ مكاني (20)
ورفض عرار لوعد بلفور، ولكل ما يخرج به الاحتلال من قرارات تمس الأرض العربية، أو الإنسان العربي هو امتداد لما حكته عنه مدرسة عنبر وحدثت به الركبان، عندما شق صفوف الطلاب ووقف في وسط الساحة وخاطب رفاقه والشيخ الدره، ووالي دمشق بكل جرأة وتحد وأشار إلى الشيخ الدره قائلا: ” إن هذا الرجل دجال وكذاب، وعليكم ألا تأخذوا بأقواله، بل امضوا قدما في إضرابكم حتى تلبى المطالب العربية.” (21) هذا ما قاله عرار للوالي الذي جاء إلى مكتب عنبر ليطلب إنهاء الإضراب المفتوح الذي أعلنته اللجنة الطلابية احتجاجا على سلوك مدير المدرسة المعادي للعرب وللقوميات غير التركية، وهذا فاتحة الإضرابات والاحتجاجات بالنسبة لعرار الذي التزم منذ ذلك الحين الخط المعادي للاستغلاليين والمرابين والمحتلين والمهادنين والمنافقين. فاشترك في أكثر من احتجاج، وحرّض على الثورة وكان مع أول ثائر أو متظاهر يخرج إلى الشارع، فكان أن امتد رفضه من مكتب عنبر إلى بيروت، وإربد وعجلون، وعمان، وخرابيش النور، والمحاكم، وبيوت الفقراء، وملفات المرابين…
ولعل في كلماته التي خاطب بها كشافة طولكرم ما يرد القال والقيل: ” يا جيران وادي الحوارث، لا يُكرم المرء في داره، وإنكم لفي الصميم من دار آبائكم ومهيع أجدادكم “(22)
وكيف يكون إقليمياً من يرشح سعيد بك عمون العربي اللبناني المسيحي الماروني لعضوية المجلس الاشتراعي. (23)
عاش عرار مناضلاً مشاغبا مثيراً للقلق، محركاً للسكون، رافضاً للصمت والسكون. ومنذ عام 1914 وحتى 1919 بقي عرار يحاول أن يكتب كلمة الحرية على جباه طرقات الأردن محرضاً ومحتجا، وعندما حاولت قيادة حزب الاتحاد والترقي في دمشق وإربد استيعابه رفض وبقي عند مواقفه الرافضة لكل ما يقع على العربي من الظلم والاستغلال وإهدار الكرامة.
مقت عرار الأجنبي وثقافته لأنها في يقينه تنشئ الطالب تنشئة رخوة ً بعيدة عن الرجولة والاعتماد على النفس، وأعلن عدم اطمئنانه إلى حملة شهادات الجامعات الأجنبية، ولا يقيم وزنا لعلمهم
كانت أخبار عرار تملأ آذان الناس وآذان قادتهم وتخاطب بنادق المحتل، فذا خبر عن عرار يتحدث عن عزله من وظيفته، وخبر يتحدث عن نفيه، وخبر يتحدث عن فرض الإقامة الجبرية عليه، وخبر يتحدث عن سجنه بسبب قيادته لثورة الفتوة، وخبر يتحدث عن طرده من المدرسة السلطانية في بيروت، وخبر يتحدث عن تحريضه لأهالي عجلون، وخبر يحكي عن مشاركة عرار في الاحتجاجات ضد محافظ إربد، وآخر يتحدث عن نقله من وظيفته وآخر عن سكره، وآخر عن خروجه من خرابيش النور. وتوالت أخبار عرار…وبقي عرار يعصر لنا من دمه ودقات قلبه عشياته.
أهمت عرار قضايا أمته وشعبه فالتزم بوطنه في سكره وصحوه، ولم ينافق ولم يتزلف، فسجن ونفي وطرد وقرِّع لكنه لم يهادن ولم يتنازل ولم يتراجع عن رفضه وغضبه وإن حاصره اليأس، وهده الإحباط. بقي يغرد بنغمة عربية مطربة في بلاد تمتد إليها أياد غريبة كثيرة تنهشها وتدمي أهلها، اعتز بعروبته، ودافع عنها، وانتمى لها.
الرفض في شعر عرار:
وأما متنفس عرار الأخر فهو مملكة الشعر حيث باح عرار بما ينطبع به مجتمعه من زيف ونفاق، وما يسيطر عليه من تسلط وتجبر، وأعلن رفضه لهذا الواقع المتسربل بالمين والتدليس والذل، وقهر المحتلين، وجشع المرابي، واختلال الموازين بين العدل والظلم:
لما وجدتُ مَكارمَ الأخـلاقِ فــي الدنيا كلام
ورأيت أن المَينَ والتـــدليسَ أوفـى بالمَرام
حَرَّرتُ نفسي من قيودَ الفَضلِ في عُرف الكرام (24)
عاش عرار ما كتب، وكتب ما يعيش، وأشعاره رسمت صورة نفسه الطامحة في حالاتها مع دقات البحور غاضبةً وراضيةً مطمئنة تمور فيها ذاته لتحكي قصة عرار الشاعر الأردني بكل ملامحها، ودقائقها، وخفاياها. فلا فرق بين عرار وديوانه “عشيات وادي اليابس” فأنت واجد في كل بيت من أبيات قصائده نفحة من أنفاس عرار، أو قطرة دمع من أحزان عرار، أو خفقة من خفقات أرض الأردن في قلب عرار، أنت تقرأ عن عرار من جبينه ومن قلبه ومن بين يديه، إنه عصارة عرار:
وحياتي لا تسل عن كنــــــهها
إنها حانٌ وألحانٌ وصــــــــدحُ
وأمانـــــي شبـــــاب فاتـها
مثلما فات بني الأردن نجــــــحُ (25)
وها هو يطرح علينا نهجه في الحياة في رسالته إلى أصدقائه النور: “”فاتني أن أخبركم أني رجل طروب، وأني في حياتي الطروبة افلاطوني الطريقة، أبيقوري المذهب، خيَّامي المشرب، ديوجيني المسلك، أن لي فلسفة خاصة هي مزيج من هذه المذاهب الفلسفية الأربعة التي ابتدعتها لنفسي، غير حاسب لأحد غير الله حساباً، وضارباً بكافة الاعتبارات القشرية التي تواضع عليها الناس عرض الحائط، ليقيني أن معظمهم يضمرون غير ما يظهرون، وأن لا صلة بين حقيقتهم الراهنة وبين ما عرفهم الناس عليه من أوضاع:
فلله عندي جانب لا أضيعه وللهو مني والصبابة جانبُ”(26)
هذه درب عرار، وهذا نهجه في الحياة، درب ملأه بالشوك، فيه ركض ضد التيار، وإعلان للحرب على كل ما يقف في طريقه، وارتطام بالجدران، وها هو يصف حياته لابنه وصفي:
حياتي مثلما أنبوك إرهاقٌ وتشديدُ
وسجنٌ بعده منفى وتعذيبٌ وتبعيدُ (27)
لكن عرارا شدد حملته على الفئة المنافقة، الباحثة عن مصالحها الشخصية، ويستغل كل فرصة للتشهير بهم، فعندما رثى الملك حسين بن علي _ قائد الثورة العربية _ تعرض لهذه الفئة، فقال:
أرأيت كيف العرش حفَّ بربه، المترزقون
فاتته معرفةُ الأمين فضل معرفة الخؤون
حتى إذا صحَّ الصحيحُ ومحَّصَ الذهب القيون
وأماطَ عصف الحادثات هزال من ظن السمين(28)
ولقد كونت له هذه الفئات، حالة من حالات المقارنة بين واقع المنافقين في مجتمعه وهؤلاء المضطهدين تحت خرابيش النور، حيث لا نفاق ولا دجل، ولا زيف ولا افتراء:
الثابتين على مبادئ قومهم الحافظيـن ذِمام من يـخفرُ
نَوَر ٌ لئن كانوا فإنَّ وفاءهم مما يـحار بأمره المتبـصرُ
لا يكذبون ولا تبورُ فعالهم ولقلما ظهروا بما لا يضمروا (29)
والتزاما بحب الأردن، اندفع عرار لمهاجمة الحكام الذين غضوا الطرف عما ترتكبه هذه الفئات في حق البلاد وشعبها، فقال عرار كلمة الحق في عصر ساد فيه النفاق والتزلف للحكام طمعا في هداياهم، والمصالح التي تتحقق عن طريقهم. يقول مخاطبا الملك عبد الله الأول:
عهدي برغدان أحرارٌ إذا نهضوا لنصرة الحقِّ لم يدمْ لهم ودجُ
ما بالُهم لا أدال الله دولـتهم لا ينبسون وإنْ أنطقتهم ثبجوا
أليس لولا سنا رغدان ما انكشفت في ليل عمان عن أضوائها سرجُ(30)
وتصدى عرار للأوضاع السياسية المنحرفة، ولم تغره الأوضاع التي نتج عنها ما سمي بالاستقلال عام 1923. فقد اعتبره استقلالاً كرتونيا مرفوضا:
يا هبرُ استقلالنا الكرتونــي أخرجني كما ترى عن ديني
فدرت بين الناس كالمجنـون أسألهم عنـه فـما دلونـي
إلا على قعوار والخماره(31)
كانت مهمة المعتمدين البريطانيين في فترة الانتداب البريطاني الحفاظ على ربط شؤون البلاد بعجلة السياسة البريطانية، ونتج عن ذلك تدخل هؤلاء المعتمدين في نواحي البلاد المحلية والخارجية كافة، وكانوا السبب الرئيس في معظم الاضطرابات التي شهدها شرق الأردن، فقد حرضوا على قيام الحكومات المحلية، وسكتوا على حركات الأهالي، ونزعات التمرد، كي تبقى البلاد ضعيفة ورهينة سلطاتهم، وفي خدمتهم:
هات اسقني ما للحياة بغير عربدةٍ مزيةْ
واسبأ لنا إنَّ الزقاقَ مباءة الأممِ السبيةْ (32)
رفض عرار تدخل المعتمدين الانجليز في أمور الأردن، ورفض ما سنوه من قوانين جائرة تحقق مصالح دولتهم المستعمرة، على حساب كرامة الإنسان الأردني، يقول:
قانونُ (هوبر)حالَ بعضُ جريضه
دون القريضِ ودون كل بيانِ(33)
وعبر عن هذه الحياة المذلة القاسية تعبيرا يناسب قسوتها، يقول:
قومي وقومُك في الصغار وجهلُهم
معنى الحميةِ ،كَفَّتَا ميزانِ (34)
والإنجليز لا يفرقون بين المواطنين في شرق الأردن وبين النور، فكلهم سواء يخضعون لقانون جائر، ويرسفون تحت أغلال ظلم قاس:
قومي وقومك في الصَّغَارِ وجهلُهم معنى الحمية ، كفتا ميـزانِ
وأنا وأنت على اختـلاف قبيــلنا في عُرفِ “بَيك” وجيشه سيانِ(35)
ومن شدة جور الاستعمار البريطاني، ورجاله المعتمدين في البلاد، كان المواطنون يتحسرون على الأيام الخوالي، يقول:
يا أخت رم وكيف رم وكيف حالُ بني عطيةْ
هل ما تزال هضابهم شماً وديرتــهم عذيةْ
سقياً لعهدك والحياة كما نؤلمها رَضـــيةْ
وتلاع وادي اليتم ضاحكة وتربتها غَنيــةْ
وسفوح شيحان الاغن بكل يانعة سَخيـــةْ
أيام لم يك للفرنجةِ في رُبُوعك أسبقيـــةْ(36)
ويربط عرار بين شربه الخمر و(كوكس) المعتمد البريطاني، يقول :
يا هبرُ ما في شُربــــنا للكاسِ بعد اللتيا والــتي من باسِ
والله لولا ((كوكس )) يا ابن النَّاس ما لاحَ هذاك العراءُ الكاسي
كما ترى لأعين النظاره(37)
وبشر عرار بنهاية الاحتلال، وحتمية زواله، وهدد المستعمر بغضب الأردنيين المظلومين؛ لأن الظلم ينكأ الجراح:
لا تحسب الجرح فيمن لا يضج أسىً يا كوكس مندملاً فالضيم نَكَّاءُ
والـحقُّ لا بدَّ من إشـراق طلعته مهما استطالت على أهليه ظلماءُ(38)
كان عرار صاحب نظرة ثاقبة بصيرة بخفايا الأمور، فقد أدرك ما يحاك للأمة العربية من مؤامرات، فرفض الهدنة التي وقعتها الدول العربية في فلسطين، واعتبر أن العرب قد وقعوا في مكيدة، وأن الإنجليز سيقودنهم إلى مصيبة أخرى:
قد أُعطي الناسُ ما شاءوا وما رغبوا أما الرَّزايا فكانت مِنْ عطايانا
مَنْ كان يَحسب أنَّ العُربَ يخدعُهُم مَنْ كنتَ تحسبهم للعُربِ إخوانا (39)
ويخاطب الملك عبد الله محذرا من أندلس أخرى:
يا ابن النبي ألمْ عن أهل أندلسٍ تأتيك دارعةٌ تروي حكايانا (40)
وحذر قومه ونبههم إلى ما سيحصل إن فاز بالغنيمة اليهود، وأثبت الواقع المعاش صدق حدسه:
إن غداً وما غد بعيد
لسوف يبدي بعض ما أعيد
فحسبـنا لبعضنا نكيد
ضل غويٌّ واهتدى رشيد
إن فاز بالغنيمة اليهود
فحوضهم لا حوضك المورود
وظِلُّهم لا ظِلُّكَ الممدود
وسعيهم لا سعيك المحمود (41)
وكم لجأ عرار إلى صديقه عبود ليتخذه مرتكزا للتعبير عما يريد أن يعرفه الناس في تلك المرحلة الحرجة التي كانت تتعرض فيها البلاد لأخطار عديدة. وآلم عرار أن الكثيرين، وفي مقدمتهم شيوخ الدين (أمثال صديقه الشيخ عبود)، لم يحركوا ساكنا أمام هذه الأخطار:
فاقصر حديثَ الفِقه يا عبودُ لا تزد الكلام
والحقُّ أضيع من يتيــمٍ أَمَّ مأدبـة اللئام (42)
وكان هؤلاء يلومون عرارا، ويزجرونه على كأس الخمر التي يحتسيها لينسى واقعه المر, بينما يسكتون عن الذين يشربون دماء الشعب وحقوقه ويقامرون بمستقبل البلاد:
إليك عني ألقابا وأوسمة قد أرهقت بضروب الخزي عنواني(43)
ولم تكن لدى هؤلاء جرأة على ردع المتنفذين، بينما يستأسدون على عرار. هم يسكتون عن المنتفعين والمستعمرين، بينما عرار يشهر قلمه ضد هؤلاء جميعا، وضد من يسكت عليهم غير خائف من العواقب:
وصاحب من بني النجار عمته كأنما هي ((باراشوت)) طيارِ
يرى مواعظه وقفاً على أذني وأنَّ رأسَ التُّقى زجري وإنذاري(44)
ويفخر عرار بالأرض التي لم تطأها قدم الأجنبي، والأرض التي لفظت هذا المحتل، والقوم الذين رفضوا أن يأتمروا بأمره:
فيا حبذا بيتٌ من الشَّعْر ما به لعلجٍ زنيم دأبه الغدر مطمعُ (45)
ويقول:
وسفوح شيحان الأغـ ن بكل يانعة سخيةْ
أيام لم يكُ للفرنـ جةِ في ربوعك أسبقيةْ
والعلجُ ما انتصبت له في كل موماة بنيةْ (46)
وأدرك عرار أن الشعب ليس قادرا على حمل رؤياه في أردن أفضل، وتجسديها على أرض الواقع، فأصابه بعض إحباط، ولكن سخريته المعهودة في قصائده لم تختف، وإن غزتها جدية غير منفرة، وواصل الحديث عن مستقبل الأردن، حبيبه الأثير إلى قلبه، لينذر قومه ويحذرهم من القادم، من السيل العرم، رافضا الوقوف مع جماعة الساكتين:
فليتقِ الله بي شَعبٌ مِحبّتُههُ كانت وما برحت دِيني وديداني
وليتقِ الله بي شعبٌ وَفَيتُ له حقَّ الوفاءِ وبالنكران كافاني
على مذابحِ قولي سوف أُسعده ضحَّيتُ عمري فلم يسعدْ وأشقاني
يا أربُعاً من وراء الحصن عامرة بما تُعانيه من ظلمٍ وطغيانِ
نحن الأولى قد وفينا في مودتنا يوم الرفاق تنادوا يالقحطانِ
وَعَّلقوهم على الأعوادِ ما عَلِموا أنَّ العزائمَ لا تُثنى بِعيدانِ (47)
ويحرض صراحة على التمرد والثورة بلغة خطابية مباشرة، غير خائف من النفي والسجن:
وعشْ رغم القوانين التي آذتك سلطانا
فمثلكَ من تمرَّدَ كلما ساموه إذعانا
لعمر الحق لن يتنكبَ الإخلاص خذلانا(48)
اختار عرار الجانب المعارض غير عابئ بالنتائج والعواقب، ولم يخش ردة فعل الساسة او المتنفذين، ورمى بتهديدهم ووعيدهم عرض الحائط، يقول:
رأسي لربي وَرَبِّي لن أطأطئه ولن أُذلك يا نفسي لديَّانِ (49)
ويقول : ذا فقيه القومِ أسهبَ واعِظاً وبه اهتدى غيري فدعني أكفرُ
وأنخْ على بابِ الصراحةِ ناقتي حتى يـموت بِغَيْـظِه المتذمر ُ
واضربْ به وبفقهه وبوعظه عرض الجدارِ فذا بذلك أجدرُ (50)
أثبت عرار في جل قصائده، قدرته على التحرك وإيقاظ المشاعر لدى جميع قرائه، ولقد ظلت هذه الميزة لديه منظمة ومنسقة. ولعل الكثير من قصائده السياسية والوطنية والاجتماعية تدخل في مصنف المنشورات التحريضية. ولأن نقمة عرار على رموز الظلم لم تكن عارضة عفوية، وإنما كانت عن اقتناع تام بأنهم يسرقون حقوق الشعب، وكل همهم أن يبقى الشعب محتاجا ذليلا، لا يرفع الرأس مطالبا بحقوقه، لم يقطع عرار اتصاله بالشعب لحظة واحدة، بل ظلَّ يحكي آلام الفلاحين الذين يئنون تحت وطأة المرابين وجشع التجار وتسلط العسكر الإنجليز، مما جعل حياته لا تعرف الاستقرار:
هبَّ الهوا وشجاك أنَّ نسيمه
في ضفةِ الأردن ريحُ سمومِ
وأنا وأنت أذل من وتد ومن
عير باسطبل الهوان مقيم
والشعبُ أضيع عندهم من سائلٍ
قَذِرٍ يمد ذراعه للئيم(51)
وعندما أدرك عرار أن بعض الداء يكمن في ضعف أبناء الأردن، وخوفهم وتكاسلهم شبههم في حالهم تلك بالنور الذين ينظر إليهم المجتمع على أنهم طبقات منحطة عديمة الأخلاق والكرامة، يقول مخاطباً فتاة نورية:
قومي وقومك في الصَّغارِ وجهلُهم معنى الحمية، كَفَّتَا ميزانِ
أهلوكِ قد جعلوا جمالك سلعةً تُشرى وباع بنو أبي أوطاني
وذووك قد منعوكِ كلَّ كرامةٍ وأنا كذلك حارسي سجَّاني (52)
ونتيجة للفوارق الطبقية التي كانت تسود مجتمع شرق الأردن، ولانعدام المساواة الاجتماعية، أهمت عرار قضية العدالة الاجتماعية، وآلمه انعدام المساواة، ووجود الفوارق الطبقية في المجتمع فسعى لتحقيق المساواة لكافة أبناء الشعب، وروج للعدالة وعمل على تحقيقها من كل مكان يقف عليه. وها هو يتخذ من شكوى (الهبر) اليه عندما كان رئيسا للكتاب في محكمة إربد، أساسا لنقد هذه الأوضاع التي تفرق بين المواطنين، وتحول دون تحقيق العدالة بينهم:
يا مدعي عام اللوا ءِ وخيرَ مَنْ فَهِمَ القضيةْ
الهَبْرُ جاءك للسلا مِ فكيف تمنعه التَّحيةْ ؟
ألأنَّ كسوته ممز قة وهيئته زريةْ ؟!
قد صدَّه جنديكَ الفظ الغليظُ بلا رَويةْ
وأَبى عليه أنْ يَرا كَ فجاءَ مُمتَعِضاً إليه
يشكو الذي لاقاه من شططٍ بِدَارِ العادليةْ
ويقول: إنَّ زيارة الحكام ، لا كانت ، بليةْ(53)
ورأى عرار أن رفض أحمد الظاهر – المدعي العام آنذاك – مقابلة الهبر جريمة بحق الأردنيين لأن الهبر أردني التابعية وهو إعلان جريء بطلب المساواة الفعلية بين الأردنيين، وبمنح (النور) المقيمين في الأردن الجنسية الأردنية، التي كانت محظورة عليهم، وكيف لا يطالب بحقوقهم وهو الذي يقول:
إنَّ الصعاليكَ إخواني وإنَّ لهم حقاً به لو شعرتم لم تلوموني
فالعزل والنفي حباً بالقيام به أسمى بعيني من نَصْبي وتعييني
يا شر من مُنيت هذي البلاد بهم إيذاؤكم فقراءَ الناسِ يؤذيني
إنَّ الصعاليك مثلي مفلسون وهم لمِثلِ هذا الزمان الزِّفتِ خَبُّونِي (54)
وعندما كثر الهمز واللمز على عرار بشأن علاقته بالنور، ازداد تمسكا بهم، وجعل يعقد المقارنات الشعرية اللاذعة بين المجتمعين، فقد أعجب عرار بمجموعة من الصفات المتوافرة في مجتمع النور: فهم يتكاتفون عند الخطر، ويتوحدون في شعورهم بأذى المجتمع واحتقاره لهم؛ ولانعدام مثيل هذه الصفات في مجتمعه صورها، وجملها فيهم، فهي تزينهم، وعبر عن شوقه وحنينه إلى تحقيقها في وسطه الاجتماعي، يقول:
ولا أبالي إذا لاحتْ مَضَاربُهم مقالةَ السوءِ في تأويلِ مِشواري
فليتقِ الله من ظنَّ الهيامَ بهم غياً فما بالهوى العذريّ من عارِ
وما يضير أخا الأردنِ كسوته جديدها أن يحلْ يوماً لاطمارى
بين الخرابيش لا عبدٌ ولاأمة ٌ ولا أرقّاء في أزياء أحرارِ
بين الخرابيش لا حرصٌ ولا طمعٌ ولا احترابٌ على فلسٍ ودينارِ
بين الخرابيش لا مالٌ ولا نسبٌ ولا احترابٌ على حرصٍ وايثارِ
الكلُّ زطٌّ مساواةٌ محققةٌ تنفي الفوارقَ بين الجارِ والجارِ(55)
لم يكتب عرار من خارج المجتمع، وإنما رفض الزيف والنفاق والظلم الطبقي الذي كان يطحن مجتمعه وهو بينهم بين الظالم والمظلوم. ولجأ إلى مجتمع النور ليعطي صورة عن العدالة والمساواة… حيث “الكل زط مساواة محققة”. كما أن الأردنيين كلهم يتعرضون للاحتلال ويخضعون لسطوة الأيدي نفسها.
وانتمى عرار إلى المجتمع الأردني فقراء ومساكين ومظلومين ولم ينتم إلى طبقة الظالمين في المجتمع، ولولا هذه المحبة العنيفة العميقة لقومه ووطنه، لما كان قد رضي بالسجن والنفي والاعتقال من أجلهم، ولعل النقد الذي وجهه لفئة المرابين من أقسى ما قال فقد نعتهم بالمنافقين، وشبههم برهط شيلوخ، ولعن كل من يساعدهم. يقول عرار في قصيدة “إلى المرابين” يقول:
قولوا لعبود علَّ القولَ يشفيني إنَّ المرابين إخوانُ الشياطينِ
كأنما الناسُ عبدانٌ لدرهمهم وتحت إمرتهم نصُّ القوانينِ
يا رهطَ شيلوخ مَنْ يأخذ بناصركم يَجنِ على الحقِّ والإسلام والدينِ
ومَنْ يُسهِّل أمراً فيه مصلحةٌ لكم فملعونٌ حقاً وابنُ ملعونِ (56)
ورفض عرار للوظيفة، أو طرده منها، أو نقله فيها مرتبط بموقفه الرافض لأي استغلال يقع على المواطن الفقير الضعيف، ورفضه تنفيذ الأحكام الصادرة بحق المدينين، فكثيرا ما وصلت إليه الأوامر -عندما كان مأمورا للإجراء- للحجز على أملاك العاجزين عن دفع ما استحق عليهم للمرابين، فكان يعطل هذه الأوامر، فيزداد حنق المرابين وغضبهم، فيتقدمون بشكواهم ضده، وهو غير عابئ بهم ولا بشكواهم ويتخذ ما يلزم لإبطال مفعول شكواهم. يقول فيهم:
أأ سجن الناس إرضاءً لخاطركم وخشيةَ العَزْلِ مِنذا المَنْزِلِ الدون؟
أم رغبةً بتقاضي راتبِ ضربوا نقوده من دماءِ في شَراييني
هذي الوظيفةُ إنْ كانت وجائبُها وقفاً عليكم فعنها الله يُغنيني (57)
وحارب عرار الفقر ورفضه، ورأى أنه هو سبب اللجوء الى الطرق الفاحشة في تحصيل العيش، يقول:
يا بنتُ يا من أمْرها لما تعاوجت استقام
لولا الرغيفُ وفقرُ أهلـ ك واحتياجكِ للطعام
هل كُنْتِ تَرضين الحيـ اةَ كذا ، وفي هذا المقام ؟!(58)
وكانت روح عرار المرحة الساخرة سلاح عرار المشرع في كل حين وفي كل موقف، من خلال شخصية عبود أو شخصية الهبر أو من خلال بنات النور، أو بوساطة حبيبته الأثيرة الراح. فها هو يختار عبود ليجري معه حوارا يبين فيه سبب رفضه للوظيفة الحكومية:
يقولُ عبودُ من يتركْ وظيفَتَه
طوعاً فمجنونٌ في أعصابه هوجُ
يا شيخُ يا شيخُ خلِّ العقلَ ناحيةً
فهذه أزمةٌ هيهات تنفرجُ
إن لم يذدْ عن حياض القوم صاحبها
ويحرس الحق فيهم فاتكٌ لهجُ
لا يحمد الورد إلا النذل من قلب
عَدَا على أهلها الإملاقُ والأمجُ
إنا نيامٌ وأنتم مغمضون على
قذى فماذا عسى يأتي به الفرجُ( 59)
ويبدو أن عبودا قد لام عرارا على تركه المتكرر لوظائفه الحكومية، أحيانا طواعية وأخرى كراهية، فرد عليه عرار بأسلوب ساخر بناء، متطرقا إلى موضوعات وطنية كان على عبود الشيخ الخطيب أن يكشف عنها ويعمل عليها: فالأرض تنهك والشعب يسبى، ولا حراك وكأنه ترك لعرار مهمة توعية المواطنين وتحذيرهم، وهذا ما فعله عرار فقد قال بصوت واضح إن الفرج بعيد عنهم، ما داموا نياما لا يعلمون بما يجري في بلادهم.
ورفض عرار التحول الاجتماعي الزائف القشري، وتجسد رفضه للتحول الاجتماعي الحضاري في مهاجمته للمدينة وزيفها، وكيف لا يرفضها وهي المركز السياسي حيث تتخذ القرارات التي سببت دائما لعرار الصداع، وهي المركز التجاري مأوى المرابين والتجار، وهي مادة الحضارة بزيفها المرفوض في الفكر العراري. وبعد أن رأى مظاهر المدينة تظهر في القرى استشعر الخطر ورفض زحفها غير المدروس، وكأنه رفض استسلام المدينة للأثر الاستعماري، وخاف أن يذهب بما تبقى فيها من النخوة والحمية يقول:
دعي المدينةَ لا يخدعكِ باطِلُها فزيفُها بيِّنٌ من غير منظارِ
ما بعد خبيز وادينا وخبزته وبعض عكوبنا مير لممتارِ (60)
ورفض عرار كل النصائح والمواعظ التي انهالت عليه لترك الخمر، ورمى بها في أرض شوكية مليئة بالغضب والتمرد:
ألا مَنْ يشتري كتبي ومن يبتاع أوراقي
بباطيةٍ من الصهباء يُرهقُ حملها الساقي (61)
ويقول:
سَكِرَ الدهرُ فدعنـا نَسْكَرُ ودعِ الناسِ يروا ما لم يروا
وليقل شيخاك هذا منكرٌ فَشَرَ الكهان أو لم يفشروا
سأبيع الدين والدنيا بِسَكْرَة (62)
وكانت الخمر ملجأه الأسمى والأجمل والأقدس حين تشتد عليه الضربات، وتكثر من حوله العقبات، فيزدهي بها، وينادي لها، وهي وسيلته للدفاع عن نفسه، وأداته لمهاجمة واقع المجتمع الأردني، ومعاندة رموزه الدينية والسياسية:
فأدرْ كؤوسكَ ، يا أبا ناصيف ، مترعةً رويةْ
وأحلْ مقال الشيخ إنْ أفتى بحرمتها عليَّ
إنَّ الذي تُسبى موا طنه تحل له السبيـةْ
إنّ الحياة لها قوا عد غير الخزرجيةْ
فنبيذ قعوار اللذيـ ذ وأنَّة الناي الشجيةْ
وهيامنا بالغانيـات من الأمور الجوهريةْ(63)
ولم يطلب عرار اللهو من الخمر وإنما طلب منها ملجأ ينسيه عالما يرفضه، وأداة يصفع بها آذان من تكالبوا عليه:
هات اسقني قعوارُ ليس يهمني قولُ الوشاةِ عرار سكرانان
فالكأس لولا اليأس ما هَشَّت له كبدٌ ولا حدثت عليه يدان (64)
فهو يشرب ليواجه المشكلات، ولأن الخمر تمده بالقوة والعزم على مواصلة التصدي والتحدي. أقبل عرار على الخمر، وجاهر بتعاطيها، وها هو يلح في طلبها، ويعدد فضائلها، وجميل أثرها:
هاتها واشربْ فان اليوم فصحُ وقبيح بالفتى في العيد يصحو
هاتها واشربْ فمثلي ما له يا أخي عن دكة الخمار ندحُ
إنَّ هذا العمر ليل ما له يا أخي في غير أفق الكاس صبحُ
هاتها واشرب فقومي كاد من فرط ايقاظي لهم صوتي يبحُ
فأنا يا (عوف) نشوان أسى وخُماري اليوم آلامٌ وبرحُ(65)
يكرر عرار أفعال الأمر: هاتها، واشرب وفي ذلك إشهار اجلسة الشرب، وتأكيد صدق علاقة الشاعر بالخمر، وفي التكرار أنفاس حارة من اليأس والغضب والرفض فهي ملجأه في أمر يتعلق بوجوده، وحياته وأحلامه، وهي حصانه حين لا يستطيع شيئا أمام هذا الحاجز المنيع من الشوك والتعب والغضب.
ويقول مجاهرا ومعاندا ومتحديا:
أشربت ؟ أي والله إنـ ي قد شربت وسوف أشرب
الدهر يلعب بي وسـو ف به بفضل الكأس ألعب(66)
تمرد فني
وثمة ميدان آخر للرفض عند عرار، إنه تمرده على أوزان الشعر المعروفة ، ونظمه شعرا متحررا منها في أكثر من قصيدة ، بقصدية غير معلنة فليس هناك من النقاد من يجرؤ على القول إن عرار لم يعرف العروض .ونذكر أن عرار عاش في تلك الفترة التي شهدت مذاهب جديدة في مسيرة تطور الشعر العربي الحديث، وكانت له صداقات مع بعض روادها، كصداقته مع الشاعر إبراهيم ناجي، وغني عن التعريف ما جاءت به هذه التيارات من جديد في عالم الشعر العربي ،فقد أراد كثير من هؤلاء أن يكون الشعر تعبيرا عن النفس لا بمعناها الخاص، ولكن بمعناها الإنساني العام ومايضطرب فيه من خير وشر وألم ولذة، ودعوا إلى أن يكون الشعر تصويرا لعواطف إنسانية تزدحم بها النفس الشاعرة وتندفع على لسان الشاعر لحنا خالدا يصور صلته بالعالم والكون من حوله.
وإن اللغة التي يستعملها عرار، والمشاعر التي تجيش في صدره هي ملك للفلاح الذي يعاني والضعيف الذي يقف على بوابة الزنزانة منتظرا حكم المرابي في لحمه ودمه ، لذلك نراه يبتعد عن البحور الفخمة ذات الإيقاع الثقيل أو المتطاول، ويؤثر عليها البحور الخفيفة أو السريعة، وقد يعمد في كثير من الأحيان إلى التشطير والتجزيء، ففي قصيدة (راهب الحانة) التي قالها عندما نفي إلى جدة تلاعب وتجديد في توزيع التفعيلات، وخروج على نظام الخليل العروضي، وهذا التغيير في نظام التفعيلات ليس مطرداً في كل الأبيات، كما أنه لا يقوم على أساس ثابت، يقول:
راهبُ الحانة إنِّي قيسُ لمياء دنانك
فمر الأكواب تدني شفتي من ثغر حانك
عله يَفْتَـرُّ ثـغري
إذ رأى في كأس خمري
رغم أحداث ا لزمانِ
لتبـاشير الأماني
بابتسامات جنانك (67)
وجاءت ليلة عيد الفطر- وهو في السجن- فتذكر زوجته وأطفاله، فكانت قصيدة “متى”:
متى يا حلوة النظرات والبسمات والإيماء والخطرِ
متى أملي على الآلام والحدثان والدهرِ
أحاديثَ الهوى العذري
متى
من لي بأن أدري (68)
إلى آخر القصيدة التي تجري على هذا النسق المعتمد على وحدة التفعيلة.
وهناك قصيدة أخرى مثلت عند عرار بعض التحرر من عروض الخليل، وتصرف فيها بعض الشيء ضمن الإطار العام لبحور الخليل، إنها (يا حلوة النظرة) التي نظمها في كانون الثاني- يناير من عام 1942 وهو العام نفسه الذي نظم فيه القصيدة السابقة، ومنها قوله:
يا حلوة النظرة مستفعلن فعلن
يا حلوة التقطيب مستفعلن فعلان (أو مفعول)
أليس معنى النظرة العابسة
ترمقني شزرا
أو ترمق المشيب
إنه لا تثريب (69)
تأخذ قصائد عرار لغتها من أفواه الأردنيين، فهو يبتعد عن استخدام المفردات التراثية ويبتعد في صياغته للجملة الشعرية عن البنية التعبيرية التي كان التقليديون يعتبرونه شرطا رئيسا من شروط الجزالة والفخامة في اللغة الشعرية، لذلك جاءت لغة عرار بنكهة أردنية وطعم أردني، نابضة بمعاناته الشخصية الحقيقية، ومتحدة ومعطيات واقعه الحي، عذبة ورشيقة، تألفها الأذن، وتبترد بها القلوب. فها هو ذا الشاعر يفتتح قصيدته التي تحمل عنوان الديوان نفسه بهذا المقطع:
إنَّ الزمانَ، ولا أقولُ زماني بين الطوابعِ والرسومِ رماني
وأحالَ لَذّاتي وساوسَ حاسبٍ يهذي بضرب ثلاثةٍ بثمانِ(70)
في هذين البيتين يؤكد عرار خفة وقع شعره على القلب، ويبرهن على براعته في التقاط الصورة الموحية من تفاصيل الحياة العاديّة، وقدرته على استخدام لغة الناس اليومية ليقول بها شعرا مليئا بالشاعرية الصادقة وبالانفعالية الحارة الموحية.
وشغف عرار بلغة الناس اليوميّة، واستخدم عددا من المفردات العاميّة التي أعطت قصيدته طعما حلو المذاق تسمع لها خريرا بين أعطافك، وقد ازدهت قصائده بفضل هذا الميل إلى لغة الناس بوهج شعري ذي نكهة خاصة فيه السخرية والتهكم والطرب والدهشة اللاذعة:
يا مدّعي عام اللواء وأنت من فَهِمَ القضيّةْ
الهبرُ جاءَكَ للسلامِ فكيف تمنعه التحيّةْ؟
ألأن كسوته ممزّقة.. وهيأته رزيةْ؟ (71)
وأكثر ما يشير إلى عمق انتماء الشاعر إلى شعبه هو استيحاؤه لكامل بلاده في كل شيء، فقد عج شعره بالألفاظ والتعابير الأردنية المحلية التي يصعب فهمها على غير الأردني وهي ألفاظ وتعابير، شديدة الالتصاق بالبيئة الأردنية المحلية. فها هو يستخدم كلمة (عنفصت) بكل ما فيها من إيحاء لا يحمله إلا هذا اللفظ:
يا شيــــخ يا من كلمـــا عَنْفَصْتُ قَطَّبَ لي جَبِيْنَه(72)
ويُسجَّلُ لعرار نجاحه في تحريك مجموعة من الرموز للتعبير عما في نفسه من غضب وقلق. وهي رموز شكلها عرار من بين سطور الحياة الأردنية اليومية، لتنطق وتسمع وتحس، فكان الهبر الرجل النوري البسيط، خير من يمثل شخصية النوري المضطهد المنبوذ وكانت شخصية عبود الذي يمثل المجتمع بعاداته وغضبه ومعتقداته وباطنه وظاهره، وكانت الخمر رمزا أثيرا لدى عرار استغله ليسمع الجميع صوت عرار المخالف لقيم المجتمع ويعرف الجميع أن عرار يرفض هذا المجتمع لما هو عليه من الزيف والسكون. وحرك عرار المرأة النورية بين أبيات قصائده لتكون رمزا آخر يحكي فيه عن المرأة الأردنية والمرأة النورية.
ولعل عرارا كان أول شاعر عربي حديث اخترع نماذج عليا في الشعر وجعلها رموزاً لقضايا حيوية، جعل نموذجاً أعلى من (الهبر) وهو شيخ غجري عرفه وصادقه واعتبره رمزاً للإنسان البسيط الفقير المنبوذ المضطهد، وهاجم بأسلوبه المليء بالدعابة والسخرية، تلك القوى الاجتماعية المعادية التي تألبت على جعل حياة هؤلاء المعذبين في الأرض تعسة وخائبة المسعى، وكان نموذجه الأعلى الثاني هو (الشيخ عبود)، وقد جعله الشاعر رمزاً للتزمّت الديني. (73) وها هو يطرح أمامنا موقفا مثيرا للدهشة، ليبيّن لنا كم أحب الأردن وكيف هو متشبث بثرى بلاده فهو يرفض الجنة لأن (رضوانها) ليس أردنيا، وماءها ليس من (راحوب)، يقول:
يقول عبود جنات النَّعيمِ على أبوابها حارسٌ يدعون رضوانا
من ماء راحوب لم يشرب وليس له ربع بجلعاد أو حي بشيحانا
ولا تَأَرْدُنُهُ يوماً بمحتمل ولا لتقديسه الأردن إمكانا
إنْ كان يا شيخُ هذا شأن جنتكم فابعد بها إنَّها ليست بمرمانا (74)
هل هناك هيام بالوطن يفوق هيام عرار بالأردن، الذي رفض من أجله الجنة، لأن مياهها ليست من (راحوب)، وحارسها (رضوان) ليس أردنيا؟
قد يجد القارئ نوعاً من الإفراط والمبالغة، ولكنها مبالغة مليئة بالحب، وقالبها فيه من الرقة ما يجعلها تستقر في الفؤاد، فقد قدمت على طبق من العفوية والصراحة وخفة الروح. ولعل من أهم الخصائص الفنية التي نميز بها شعر عرار عن غيره من شعراء المنطقة هذه (المسحة الشعبية) التي صبغت أغلب قصائده، وطغت عليها.
الخاتمة
كتب عرار في ديوان الشعر العربي أنموذجا شعريا متمردا غير مهادن، فيه رفض لكل الخطوط الملونة المرسومة مسبقا لتسيير الناس، سواء أكانت تلك الخطوط سياسية أم اجتماعية، فعاش نتيجة ذلك الرفض حياة مليئة بالصدام والتحدي لينعكس ذلك على إيقاعات شعره مقترنة بخفقات قلبه، ونغمات أغانيه، فجاء ديوانه ليحكي لنا قصة عرار الإنسان الأردني والشاعر الأردني، والمتمرد الذي وهب نفسه للأردن وشعبه، وسخر حياته للتغني بربوع الأردن والمناداة بالحياة الحياة، وذم حياة القبور.
كتب عرار من بين دوالي عجلون، ومن بين أشواك العكوب، ومن داخل الأردن والأردنيين، ونجح في اختراق حواجز البحور، والمسافات العميقة في اللغة، فقدم فلسفته دون أن يتشدق، وعرض مأساته الأردنية دون أن ينتحب ولا عرف للردح سبيلا، وبقي مُصرّاً على رفضه سائراً في دربه مخلصا لنهجه، فامتلأت قصائده برفض ساخر وبوح جريء.
في قصائد عرار توحد الشاعر مع الرفض فكان عرار والرفض أخيين أرضعا بلبان، وتوحد عرار مع الغد الأجمل والأكمل، ونما بين سطور أشعاره إيقاع عراري توج فترة زمانية يتذكرها كل من يقرأ شعر عرار.
توحد عرار مع قصائده فنمت بين أعطافها لاءات كثيرة، ورحيل مستمر بين الروح والراح، والغضب والرفض، والحب والحرب، والحزن والفرح، واليأس والأمل.
ولعل من أجمل ابتكاراته، تلك الرموز التي اقترضها من بين جبال الأردن، وسهوله، وهضابه ووديانه، وعرضها علينا وفمها مليء بوشوشات الشوارع ،وبكل من يتحرك داخل تلك الوشوشات: الهبر، والقصر، وعبود، والمندوب السامي، والنورية، والخمر، جاء عرار بكل هؤلاء بلغتهم، وبألفاظهم وغضبهم وفرحهم وباطنهم وظاهرهم وبدقات قلوبهم، وصاغ منهم ولهم قصائد أردنية تفوح منها رائحة زقاق قراه وشوارعه الترابية، بما فيها من تعب وحزن وشقاء وفقر وجوع .
وامتلأت عشيات عرار بالغناء الجميل المعبأ بصلابته وصبره ونزوعه إلى الحرية والعدالة والمساواة، استشرف فيها حاضرنا وغدنا، وخاطبت روحه الثائرة دحنون الأردن، وظبيات وادي السير، والمحتل المستعمر، والمرابي اللئيم، والمتسلط الغاشم ورفض فيها كل ما يؤذي الأردن والأردنيين، وهو في ذلك لم يجامل ولم يخضع ولم يهادن. ومضى في طريقه ولم يثنه عن رفضه وتمرده وثورته خطب ادلهم، أو سجن ثقلت قيوده، أو نفي أبعد في تغريبه وشط، أو قول قائل، أو تعتّب متعتِّب، أو لوم لائم.
الهوامش
1- عمرو بن شأس الأسدي شاعر كثير الشعر في الجاهلية والإسلام. انظر الجمحي، محمد بن سلام(ت231هـ) – طبقات الشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت ،1982، ص25.
2- اختار الشاعر لقب عرار تشبها بعرار بن شأس أو لعله اختاره من اسم نبتة عطرية تظهر وقت الربيع. انظر الطريفي، يوسف عطا، مصطفى وهبي التل (عرار) حياته وشعره، الأهلية للنشر، عمان، 2010م، ص 18.
3- الزعبي، زياد، قراءات مقالات ونصوص ثقافية، وزارة الثقافة، عمان ،2002، ص39.
4- انظر: كعوش، محمد، أوراق عرار سياسية، وثائق مصطفى وهبي التل، 1980، ص28-32.
5- البدوي الملثم، عرار شاعر الأردن، دار القلم، بيروت، د ت، ص68-69.
6- الناعوري، عيسى – الحركة الشعرية في الضفة الشرقية، وزارة الثقافة والشباب، عمان، 1980، ص25.
7- المرجع نفسه، ص16.
8- البدوي الملثم، مصدر سابق، ص127.
9- انظر: المصدر نفسه، ص121.
10- المصدر نفسه، ص119.
11- نفسه، ص139.
12- عرار، عشيات وادي اليابس، ديوان مصطفى وهبي التل (عرار)، جمع وتحقيق زياد صالح الزعبي، ص366.
13- يرى البدوي الملثم أن ” كل قطرة خمر حساها عرار كانت وسيلة لإنهاء حياته”البدوي الملثم، مصدر سابق، ص57.
14- عرار، مصدر سابق، ص179.
15- انظر: البدوي الملثم، مصدر سابق، ص110-111.
16- عرار، مصدر سابق، ص411.
17- البدوي الملثم، مصدر سابق، ص193.
18- المصدر نفسه، ص 61.
19- انظر: المصدر نفسه، ص 190،191،290.
20- عرار، مصدر سابق، ص 384.
21- البدوي الملثم، مصدر سابق، ص25.
22- عرار، مصدر سايق، ص348-349.
23- كعوش، مصدر سابق، ص67.
24- عرار، مصدر سايق، ص345.
25- المصدر نفسه، ص177.
26- البدوي الملثم، مصدر سابق، ص129.
27- عرار، مصدر سابق، ص2020-203.
28- المصدر نفسه، ص425-426.
29- نفسه، ص228-229.
30- نفسه، ص163-164.
31- نفسه، ص498.
32- نفسه، ص478.
33- نفسه، ص381.
34- نفسه، ص381.
35- نفسه، ص381.
36- نفسه، ص474-475.
37- نفسه، ص498.
38- نفسه، ص114.
39- نفسه، ص375.
40- نفسه، ص367.
41- نفسه، ص194-195.
42- نفسه، ص346.
43- نفسه، ص411.
44- نفسه، ص258.
45- نفسه، ص294.
46- المصدر نفسه، ص475.
47- المصدر نفسه، ص412-413.
48- نفسه، ص366.
49- نفسه، ص412.
50- نفسه، ص225-226.
51- نفسه، ص339.
52- نفسه، ص381-382.
53- نفسه، ص471.
54- نفسه، ص386.
55- نفسه، ص253-260.
56- نفسه، ص385-386.
57- نفسه، ص386.
58- نفسه، ص346.
59- نفسه، ص161-162.
60- نفسه، ص266.
61- نفسه، ص311.
62- نفسه، ص495.
63- نفسه، ص472-473.
64- نفسه، ص384.
65- نفسه، ص170-171.
66- نفسه، ص150.
67- نفسه، ص488.
68- نفسه، ص513.
69- نفسه، ص522-523.
70- نفسه، ص380.
71- نفسه، ص471.
72- نفسه، ص443.
73- الجيوسي، سلمى الخضراء – مجلة عالم الفكر (الكويتية) المجلد الرابع- العدد الثاني (تموز –يوليو، آب- اغسطس، أيلول-سبتمبر) ،1973، ص19.
74- عرار، مصدر سابق، ص372-373.
—–
المصادر والمراجع
1- البدوي الملثم، عرار شاعر الأردن، دار القلم، بيروت، د ت.
2- الجيوسي، سلمى الخضراء – مجلة عالم الفكر (الكويتية) المجلد الرابع- العدد الثاني (تموز –يوليو، آب- اغسطس، أيلول-سبتمبر) ،1973.
3- الجمحي، محمد بن سلام (ت 231هـ) – طبقات الشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت ،1982.
4- الزعبي، زياد، قراءات مقالات ونصوص ثقافية، وزارة الثقافة، عمان، 2002.
5- الطريفي، يوسف عطا، مصطفى وهبي التل (عرار) حياته وشعره، الأهلية للنشر، عمان، 2010م.
6- عرار، عشيات وادي اليابس، ديوان مصطفى وهبي التل (عرار)، جمع وتحقيق زياد صالح الزعبي. د ت.
7- كعوش، محمد، أوراق عرار سياسية، وثائق مصطفى وهبي التل، 1980.
8- الناعوري، عيسى – الحركة الشعرية في الضفة الشرقية، وزارة الثقافة والشباب، عمان، 1980.