
الحداثة الشعرية ليست حيلة لإخفاء الرداءة بحجة دواعي الغموض، أو تعمد إبهام المعنى الذي تتغنى به النخبة عادة استمتاعا بوضعها المتقدم في التلقي والفهم والاستيعاب، ولا تكمن أسراره أيضا فيما يُتّفق حوله من عمق فلسفي، ولا هو مجرد نية في استهداف الأصل والمألوف بطرح شيء مختلف كنوع من المجازفة، ربما سنتفق إلى حد ما إذا كان مصطلح الحداثة يتجاوز بتفاعله موقف الشاعر المطرب الذي يعتبر الإيقاع همّا رئيسيا في الشعر، ولا يهمه إن كان هذا الإيقاع عربيا أم غربيا، وارتقاء بالفكرة نعتبر المصطلح محاولة للقفز إلى ما وراء وصف الشاعر بالشاعر وكفى، بل إلى وصفه بالمجدّد والباحث في إخضاع الشعر من حيث هو لغة أولا، وثانيا من حيث هو تفاعل إنساني المفروض أن يكون منسجما مع الحياة الجديدة وسائر مستجدات ملحقاتها، كما يشير الدكتور علي أحمد الأحمد في مقاله (جدلية الشاعر المعاصر ووظيفة الحداثة): “إنّ الشّاعر المعاصر يعود إلى مجتمعه بالأمل بالحياة، بالكفاح المستنير، وهو يشارك مشاركة جادة مع الشّعراء من أمثاله، والمفكرين من أمثاله في معركة بناء الحياة الجديدة.. ”
ويقصد في مقاله المطول أنه يكتب في هموم هويته وتراثه، وليس في هموم الآخر المدجج بلغته وعقليته الخاصة الذي يثري ثقافة موروثه معبرا عن حال بيئته، فلا ننجر وراءه بنوع من الانسلاخ، فنخضع لغتنا وموروثنا خدمة لغيرنا.
وبذلك يخطىء البعض حين يحصرون مفهوم الحداثة في تلك الترانيم التي يخوض فيها المنفتحون على الشعر الأوروبي، الغائصون في أوزانه الهشة التي تختلف عن قحاحة أوزان الشعر العربي، بشكل من أشكال التبعية الحسّية، هروبا من نَفَس الشعر العربي كظاهرة قد تكون استعصت عليهم، بينما تبدو الحالة مُسعِفة لهم في سطحية موسيقى الشعر الغربي، لذلك لا بد للشعر من هوية تربطه بطبيعة الحياة ونمط العيش وكيفية تناول الحياة، ما عدا ذلك إمّا أن يكون شعرا غربيا التبس أحرفا عربية، أو شعرا لا هوية له، وكتابته باللغة العربية ليس إلّا تجنيا عليه وعليها، لأن اللغة العربية لا تنظر إلى الشعر من حيث أنه موسيقى وكفى كما هو الحال في الشعر الأوروبي والغربي عموما، بل إضافة إلى الموسيقى المختلفة فهي تتسع إلى ما تعنيه الفلسفة من وجودية، على مستوى الفكر والخيال والصورة، وحتى ما يتعلق بتاريخ الإنسان على الأرض ومختلف علاقاته، الإنسان بالإنسان من جهة، وبالطبيعة والأشياء من حوله من جهة ثانية.
حتى بعض النقاد تواطؤا مع المنفتحين على الشعر الأوروبي واعتمدوه على أنه حداثة، وتجنبوا اعتبار الحالة انتكاسة للشعر العربي كنوع من الرضوخ لنمط شعرية الآخر، اعتبروها ثورة وتناسوا أنه منسلخ هو الآخر عن طبيعة معينة في المجتمع الغربي، خصوصا انقلابه على كل ما هو ديني أو مقدس، وتذكر بحوث كثيرة أن حول هذه المسألة صراع كبير، مما جعل الشعر العربي يصاب بالعدوى، فذهبوا إلى إلغاء قواعد الموروث الشعري الذي وصفوها بالتقليدية رغم علاقتها المنفصلة عن الشعرية، وكأن الشعر العربي مجرد أواني منزلية أو آلات حديدية يخضع كذلك إلى قدرة الغرب على التصنيع، ونسوا في ذات المضمار أن هذا النمط من الشعر الوافد إلينا هو أيضا مصاغ بقواعد تقليدية بما يعكسه اعتقادهم، وكم يبدو كلاما عاديا أمام رزانة الشعر العربي الموزون المُقفّى الحافل بالصور، المكتظ بالمواقف، الشامل لتفاعل الوجود الإنساني، مما يعكس حقيقة دامغة تثبت أن الكثير من العرب الذين يكتبون بغير اللغة العربية إنما هم يخفون رداءتهم بلغة الآخر، لأن اللغة العربية تفضحهم وتعود بما يقولون إلى درجة الكلام العمومي.
روح الشعر العربي الحديث ليست مادة عضوية يمكن استيرادها، ولا هو لعبة يكتفي الشاعر بالبحث عن خيوطها وحفظ قواعدها وقوانينها، بل هو وضع جديد من الأحاسيس وحالة مختلفة من المشاعر، تعتمد على قاموس لغوي جديد مستعمل أو غير مستعمل، وقد يكون أبسط مما تتسع إليه مفردات اللغة العربية وتتفرع إليه من مشتقات لفظية، وكذا ما يلم به المحدّثون من ثقافات مكتسبة وأخرى غير مكتسبة، وربما من المرئيات الجاهزة أو ما يُبذل من خيال فيما جهز ممّا مضى أو ممّا لم يجهز بعد من الآتي، وقد يُستنتج كل ذلك من عدة مواقف متشابهة وغير متشابهة في واقع البشر والطبيعة، أو يتولد ممّا يبتذله الناس من عبارات عامة وأمثلة شعبية نادرة، وقد يطفو كذلك مما يُختزن من المواقف التي تكررها يوميات الحياة، المهمل منها والمكرّس حتى المقدس منها، وقد تُوظّفُ فيها كل الموجودات في واجهة الحياة الحاضرة منها والغابرة، وكذلك مما هو آت من مفاجآت قد يفرضها الشاعر أو يتنبؤها، الحالة التي يلخصها الشاعر الجزائري عيسى قارف في توقيعته: (اشتبه تنتبه).
موضوعنا الرئيس هنا هو شعر الومضة كحالة رائدة في شعر الحداثة، ولا أقصد شعرية التوقيعة، فلكل منهما مضربه ومجاله وأثره، وبرأيي التوقيعة تُكتب بدافع التجريب في صناعة الحكم والأمثال، وربما من باب المجازفة في تأسيس نظريات معينة، بينما الومضة الشعرية هي دفق من الأحاسيس تفعل فعل القصيدة الطويلة من حيث الدهشة والتأثير، إنما يغلب عليها الإيجاز والبلاغة والعمق والتكثيف، وعموما فإن شعر الومضة ورد ضمن ما يُعرف بتحولات الشعر العربي خضوعا أو طواعية لعدة عوامل منها ما هو ثقافي ومنها ما هو بيئي وزمني، وأكثره مزاجي يتعلق بحالة الشاعر وميولاته الثقافية ومختلف قناعاته، كأن يقتنع بضرورة الخروج من شكل شعري يعتبره مبتذلا أمام تقد الحياة وتطور العقل وتفاقم العواطف وتسارع الزمن ولهفة الروح في تناول المواقف الإنسانية بسرعة أكثر مما كان سائدا في العصور السابقة.
ويظل الثابت دوما الموهبة التي أوْدعها الله قلب من يحب من شعرائه، وكذلك حجم التجارب التي يخوضها الشاعر مغامرة أو مفروضة عليه بحكم طبيعة احتكاك البشر بعض ببعض، فزينها بصدق مشاعره وإخلاصه لأمكنتها وأزمنتها وسلامة رغبته في الحياة، وإلى الأشخاص الذين شاركوه فيها، ولكل الأشياء التي ساهمت في تأثيث الموقف حتى يجد نفسه شاعرا، فالشعر إذن كونٌ من التفاعل يجد الشاعر نفسه فيه بشكل تلقائي ولا يكون له أي دخل في ترتيب شؤونه، إلّا ما يحتاج إليه من أدوات كاللغة مثلا. ها قد وصلت تدريجيا إلى تشخيص صياغة الضائقة الشعرية الإنسانية في نمطها المتوازي مع الأذواق المعاصرة، والخروج بها من ضيق دائرة التقليد والتكرار والابتذال، بل من عملية التدوير الميكانيكي الجاف من المشاعر، ومن سمو هذه الإنسانية يهندس الشاعر نصه ويتركه مأمورا ينتشي في العالمين سكنا ومتعة ومتاعا، أو هكذا كانت القصيدة العربية ملجأ العاشقين وضالة الحيارى وترياق المرضى وراحة المتعبين، حتى وإن لم يكونوا شعراء، فقد عنهم عمق البوح آخرون بالقراءة أو السماع، ليصبحوا بصدقية التلقي وعمق الفهم كأنهم شعراء، وقد يُشفى المرضى بسبب قدرة الطبيب على تشخيص عللهم، ولا يهم حين إذن عدد الأدوية ولا شكل الوصفة ولا مفرداتها، فقد يختصر الطبيب الوصفة في جملة واحدة تشير إلى دواء واحد.
المهم في التجربة من وجهة نظر تاريخ الأدب أن هذه الظواهر أنجبت لنا شعراء استندت عليها مواقف البشر العاديين كنوع من الاستشفاء حين عجز أصحابها عن التعبير، حتى وإن تكررت لمرات عديدة وبلغات مغايرة فلن يصد التاريخ عنها، فقط لأنها بحكم صدقها وإثارتها ودهشتها تقف دون النزول بها إلى صفة الابتذال، هكذا كان يحدث للشعراء الذين لم يكتفوا باجترار ما يقوله الآخرون في سوق عكاظ ويثرب، بل كانوا ينطلقون من تجاربهم الخاصة حتى وإن لم يكن في حاضرهم ولا من قبله شعراء، فقوة التجربة بالحضور والصدق واللغة كل ذلك كفيل بطرح حالة شعرية وجودية.
إذن الحالة التي نحن بصدد طرحها حالة مختلفة عن ذاك الجنون الذي وجد قيس بن الملوح نفسه فيه فاستغرقه وحده ولم يترك للشعراء منه شيئا، موضوعنا هو جنون شعر الومضة كنمط جديد للإثارة الفنية في تثقيف فلسفة الزمان والمكان، ليضع الشاعر حالته في خانة إبداعية وشعرية غير مألوفة ومختلفة التأثير والجاذبية، فيجتمع الناس حوله حين يُحدِث في أرواحهم رجّة شعرية جديدة على غرار ما قيل من قبل من شعر مُبهر ومدهش، جاذبية تدفع الإنسان المعاصر إلى الحديث عنها كحديثهم عن قيس بن الملوح وروميو وجليت وسائر الظواهر العاطفية النادرة بقوتها وإخلاصها.
فمن الحداثة أن تختزل الومضة الشعرية كل تلك المعاناة التي تناولها موروث الشعر العربي، وكذلك تلك التي لم يولِ لها الشعراء اهتماما من قبل، فتفعل الومضة فعلتها في بضع كلمات مضغوطة مكتظة بالصور والمعاني، مؤثثة كما يجب، ومفعمة بالحبكة الدرامية والموسيقى الآخذة، مملوءة الدلالات رغم صغر حجمها وهزالة شكلها، كذلك الوامض الـ“فلاش” الذي نحمله في جيوبنا وهو يحمل مقدار مكتبة من دواوين الشعر، بذلك يستطيع شاعر الومضة ملاحقة القارئ الحديث في خضم التحولات التكنولوجية المُبهرة، فالمتلقي الآن لم يعد ذلك الأعرابي الذي لديه متسع من الوقت ليسمع ألف بيت مما يقول شعراء سوق عكاظ أو يثرب، فالشاعر الآن يواجه متلق انتشرت حوله المدينة، وتطاول حوله عمرانها، ولعبت في مخّه الأضواء الملونة.
إذن شعر الومضة من حيث العمق والإيجاز حيلة ليقبض الشاعر بها على موظف يعمل في أعلى طابق من ناطحة السحاب؟ ذلك القارئ الذي لا أطلال له، فهو يفكر بحكم عصره في زيارة الفضاء، المتلقي الهارب الذي استغنى عن قصعة الطعام واكتفى بقطعة ساندويتش، فالقصيدة إذا ضاق عليها المجال، واكتظ حولها المكان، وتسارع أمامها الزمان، فعليها التفكر في الطيران هي الأخرى، لتحاصر رائد الفضاء المنقطع عن الأوكسجين والجاذبية، فإذا كان للحداثة من معنى في الشعر العربي فذا هو معناها، يعني تصنع طريقها بنفسها إلى روح الإنسان المعاصر، فلا تستعين بجهة أخرى كنوع من الإسعاف والاتكاء.
روح السؤال: من يستطيع من شعراء العصر أن يُجن جنون قيس متوافقا مع هذه المدينة المضيئة ليلا ونهارا، المدينة التي أطلقت عنان بنيانها نحو الفضاء، فجعلت من وسع الصحراء وحَرورها نموذجا ساخرا لأدوات القياس والتحمل.
وأمام شعر الومضة يتحتّم على الناقد تقمص شخصية أمهر مفتش شرطة، ليلقي القبض على شعراء الومضة الذين يمارسون هذه الدهشة على سكان المدينة الحديثة، وبالتالي يحشد كل هذه الومضات في قفص ذهبي كما نفعل عادة بعصافير الكناري.
نماذج من شعراء الحداثة (الومضة) نموذجا في مدينة الجلفة / الجزائر:
* الشاعر محمد بن جلول:
“أجرّبُ أن أكون شخصا آخر
وأفشل مرتين.
.. أنا لا أحدٌ
وأنت هناك أنا”
لقد لفظت هذا الذات الشعرية الشخص الأول حينما أنهكها العشق وامتص عظامها الوله والحنين، فكأنها اختزنت في داخلها إرادة أخرى كان يظنها تستطيع أن تتشكل تشكلا مُعافى من ذلك المس العاطفي القاتل:
“أجرّبُ أن أكون شخصا آخر”
من ذا الذي حاول أن يكون شخصا آخر؟ إنه ليس الشاعر الذي ألفناه يقول في حبيبته القصائد بعيدا عنها، وألفناه يقص علينا حكاية تعلقه بها في قصص تقليدية ابتذلها الشعراء والمخرجون في أفلامهم السينما، وحكاية الحب من أول نظرة، أو تلك التقاطعات الرومانسية كأن يصطدم بها وهي خارجة من أحد الدكاكين فيتسبب في تناثر التفاح من يدها، نلاحظ أن الشاعر “محمد بن جلول” شخص مختلف له رغبة في صياغة نفسه صياغة أخرى غير التي عذبها العشق وأحرقها وأغرقها في تجربة قيس بن الملوح، صحيح فشل في أن يجد نفسه شخصا آخر، لكنه لم يشعر أنه مجنون أو ميت أو مريض، بل وجد نفسه: “..لا أحدٌ.” وهذه هي ومضة القصيد بخلاف بيت القصيد، ليحولنا الشاعر من قراء شعر إلى قراء رواية أو مشاهدة فيلم، ليجعلنا نبحث عنه أين ذهب حين صار لا أحد، ونسأل أهو بطل أم مخرج أم مشاهد مثلنا، بعد أن حوّل ما يمكن أن يكون فيلما مدته ساعتين إلى أكشن مدهشة، حيث كفانا بهذه الومضة الشعرية عن طنب ما يمكن أن تتضمنه رواية تتسع إلى ما يزيد عن مائة صفحة، وذلك بإتقانه لصورة الجذب في المقدمة، وحبكة المشهد في الموضوع، وسرعة الكشف عن الحدث في النهاية.
لقد زاد الشاعر إلى متعة الشعر التقليدية متعة المشهدية في السينما، حدث ذلك حين فرضت علينا اللقطة الأولى ضرورة البحث عن اللقطة الثانية التي لا تكتمل الحبكة إلّا بها، لأنها تفتح لنا آفاقا أخرى من الاستمتاع، وذلك بالمرور إلى المشهد الأكثر إثارة ودهشة، هو ذا المشهد الذي وفر علينا مشقة البحث عن البطل وعن حبيبته حينها فجأة إلى “هو”، فقد أخفاها بلعبة شعرية رهيبة، إنها اللقطة التي جعلتنا قراء للرواية مرة أخرى حين رحنا نبحث أين اختفت: “.. وأنت هناك أنا”. وفي تفاقم الدهشة يباغتنا الشاعر مرة أخرى ليدفعنا إلى البحث عن صورة لا تسعها هذه الومضة الشعرية الخاطفة، فننبهر من الجهة الأخرى بكائن خارق لا يشار إليه بحروف الإشارة التقليدية “هو” أو “هي” أو “هما”، بل نجده في خيالنا كونا أوسع من المدينة المزدحمة، ومتاهة أكثر سعة من الصحراء، ومعان أكثر رحابة من الفضاء، وموقف من العشق يختزل كل ما قاله قيس بن الملوح في شعره، ثم لا نكاد نسترد أنفاسنا من مشقة امتصاص المعاني المكتظة وهضم الصور المكتظة في ما لا يزيد عن أربع جمل، جملتان فعليتان ربط بينهما بواو عطف، وجملتان اسميتان ربط بينهما مرة أخرى بواو عطف أخرى، كل ذلك مؤثث في 11 كلمة في نصاب 46 حرفا لينهي الشاعر ذائقته الشعرية المعاصرة كاملة غير منقوصة، ثم نجده يقف عند رؤوسنا متمتعا هو الآخر بما سببه لنا من جذب ودهشة ومتعة في بضع هذه الكلمات، فنكتشف في النهاية أننا نساوي بمشقتنا في فعل القراءة مشقّته في فعل الشعرية، وهكذا اكتملت الدائرة الإبداعية في استهلاك هذه الحالة الشعرية الحداثية كتابة وتلقيا.
“أجرّبُ أن أكون شخصا آخر..
وأفشل مرتين.
.. أنا لا أحدٌ
وأنت هناك أنا”
الشاعر محمد بن جلول/ من مجموعته الشعرية: “ستُهزم عما قريب”.
ــــ
-الشاعر موفقي أحمد:
“كل هذي الأغاني لها
ولي الآن أن أنتهي
مثلما ينتهي سرب البجع”.
كثير من الشعراء أرادوا التموقع في خانة شعر الومضة ففشلوا، لأن الموضوع ليس مسألة متاحة أمام كل البشر لأسباب كثيرة أساسها الهيأة الحسية والذوقية التي خلقه الله عليها، وقوة التواجد ومدى فاعليته في الحياة وصدقه فيها، وبالتالي جديته في تناول المواقف الإنسانية وعفويته في الوصول إليها وتفننه في إدارتها، ونضاله في الوصول إليها في أبهى صور وأنبل مشاعر، إنه جنون آخر من عجائب الومضة الشعرية، فمن الصعب أن تمتطي صهوة عشق يجعلك تهضم كل أغاني المطربين بنحيبها وأنينها، منذ خُلقت البشرية وعرفت الغناء العربي وغير العربي، وحتى الدندنات العشوائية والجميلة بعفويتها وبداهتها مما يترنم به الرعاة والرحل في القوافل، وحتى ما يردده عرابيد العرب والعجم من السكارى وغير السكارى والعقلاء وغير العقلاء، وما يظل يكرره المتصوفة من تسابيح وابتهالات هروبا من تلك اللدغة العاطفية التي عادة ما تصيرنا إمّا مجانين أو زهادا أو أبطال حروب شرسة، وربما رؤساء دول ومن يدري، في النهاية تجعلنا عظماء.
إن المطرب ليجيب بتفاخر عظيم كلما يسأله منشط الحصة الفنية، فيقول له: أنا الآن بصدد إطلاق ألبومي العشرين، فعليك أن تكون ماهرا في الحساب لتعُد كم مطرب في العالم؟ وكم ألبوم للمطرب الواحد؟ وكم أغنية في كل ألبوم؟ لا أعتقد أن العملية ستكون سهلة فلا بد إذن من استشارة جهات متخصصة في هذا المجال.. أو أقول إن الشاعر أحمد موفقي يجذبك من طرف ثوبك يقول لك: لا عليك: “كل هذي الأغاني لها..” مهما تعاظم عددها في العالم من قديم وحديث الطرب.
عودتنا الإذاعة أيضا أن المستمع يهدي أغنية واحدة إلى عشيقته.. يا لهول هذه الومضة فكأن الشاعر أحمد موفقي جمع كل ألبومات مطربي العالم القدماء منهم والمعاصرين، وكأنه أيضا راوغ هذه المذيعة ليهدي كل ما جمعته في سلسلة ما يطلبه المستمعون من الأغاني: “كل هذي الأغاني لها..” فخالف بذلك المألوف فربما الراعي الذي سيُحَفّظه هذه القصيدة ويكلفه بنقلها إليها سيظل يبحث عنها شهورا بين الشقق المكتظة، فكفاه بهذه الومضة عن مشقة البحث عنها، فيكفي أنها ستسمع كل أغاني العالم التي أهداها إيّاها عن طريق المذياع أو التلفاز وهي في المكان الذي هي فيه بل حتى عبر دندنات أبيها أو أمها أو جدها، الأكيد ستلتمس شوقها إليه في أية أغنية عفوية يطلع بها ولد من الأولاد، أوفي أي حركة موسيقي ألفها البشر أو تكونت بفعل الطبيعية، كأن يغني عصفور أو يصيح ديك بجانب حبيبته مثلا.
الشاعر في هذه الحالة لا يشبه المستمعين،وليس لديه وقت ليقبع أمام المذياع ويهدي لعشيقته كل صباح أغنية، أو ربما لأن المذيعة لم تسمح له بإهداء أكثر من أغنية واحدة، ففي هذه الومضة استغرق الشاعر كل حلقات البرنامج “الأغاني لها”، لقد حجز الشاعر في هذه الومضة أغاني العالم كلها، هكذا حاصر الشاعر موفقي أحمد حبيبته وجعل الكون يغني لها في سيمفونية عجيبة، وجمع كل المطربين في حشد عجيب ورهيب في ثلاث جمل ابتدأت بواحدة اسمية: “كل هذي الأغاني لها..” ، ثم واو عطفت على شِبه جملة شرحت مآله بعد أن رأى أنه استكمل غرضه بإهدائها كل الأغاني.
“ولي الآن أن أنتهي.. مثلما ينتهي سرب البجع!” هذه الجملة التي تحمل ما تحمل من دراما في لقطة مثيرة على طريقة أفلام الأكشن، لقد انتهى الشاعر لكنه لم يمهلنا كي نراه في صورة الضحية كما اعتدنا رؤية الجرائم، بل تحول إلى بجعة وطار فلم يعد له أثر من ذاته كبجعة واحدة أو من مثله في مجموعة البجع المعروف بالتجمع والتضامن والاتحاد، فكأن المكان الذي لم تعد فيه حبيبته صار كمثل البحر بدون أسماك، لأن المنطقة البحرية صارت باردة ولم يعد السمك يطفو على سطح مائها، الشاعر إذن هنا بجعة لا تدري أين ذهبت سمكتها فطار لا يدري بدوره أين سيتجه، وأين ولا متى سيلقاها مرة أخرى، المهم أنه أنهى مهمته بإهدائها كل الأغاني ومضى. فيكون بذلك “عكس زيوس” الذي عودنا بالنجاح في مهامه.
هكذا أنهى أيضا الشاعر أحمد موفقي ذائقته في حالة عشق شبيهة أيضا بالجنون، وحالة شعرية متفردة حديثة بثلاثة جمل لم تتسع إلّا إلى11 كلمة و47 حرفا.
رأينا ما حمل لنا الوامض الأول في شعر محمد بن جلول في موضوع العشق والجنون وموضوع المسافة والمكان والزمان وما تحتاج إليه أكشنة القصيدة الومضة، ثم النقلة الفيزيائية عندما حول حبيبته من “هي” إلى “هو” في المكان الذي تتواجد به في لعبة تشبه إلى حد ما يلم الرجل الأخضر. هاهي لعبة أخرى لكنها ليسن فيزيائية هذه المرأة بل فنية إلى حد الجنون ليجعل عشيقته تشعر إلى حد اليقين أن كل ما تسمع في المذياع وعلى شاشة التلفاز، وكل ما له صلة بالموسيقى، ولعل البجع أبهر تمثيل للحالة الموسيقية الطبيعية، كل ما ينبض في الكون من أصوات جميلة من أغاني فهي لها، فكفته هذا الأغاني أنين تلك القصائد العمودية الطويلة التي ينقلها الرعاة بالصدفة، وقد ينسون بعضها وربما لن تصل إليها إلّا بعد مدة وقد لا تصل إليها، أو قد ينتحلها حافظها فيغير مسارها إلى امرأة أخرى يحبها، خلاص انتهى الأمر هي الآن محاصرة بهذه الومضة:
“كل هذي الأغاني لها
ولي الآن أن أنتهي
مثلما ينتهي سرب البجع!”.
شعر أحمد موفقي/ من مجموعته الشعرية: “الغيم والمريا”.
ــــــ
• الشاعر عيسى قارف
صـــــــــباح عجوز
لمثلك انتبه_ الصباح
وعاد متكئا على عكازه.. انتبهت
جذور الشمس…
لقد طوي الشاعر أمامك الكون في بضع كلمات، فإن شئت كن شاعرا مثله وفكّ الشيفرة، أو كما الطفل امضغ حلوى القصيدة حتى تنام، واحذر استيقاظك على صباح عجوز بعمر الصباحات التي مضت فلم يعد يطق حلمه مزيدا من الطموحات، وعليك أيضا أن تحذر انتباه الشمس حين يفتح هذا الصباح العجوز شهية غروبها مبكرا على وجبة حلم لم يتحقق، وهكذا يقنعها الشاعر بأن تُصرف نظرها عن استهلاك ما قدر الله لها من وقت.
عيسى قارف بخلاف امرؤ القيس لا يخيفه ثقل الليل على قدر ما يخاف من صباح تسحب فيه الشمس جذورها قبل أن تطلع، هكذا اختزل الشاعر مراحل اليوم فلم يجد داعيا للضحى ولا لمنتصف النهار ولا للمساء، ولا لما تعد الساعة من زمن يعتبره الفلكيون كافيا لما يحتاج إليه المرء من ترتيبات لمواجهة الليل أو الغد الآتي.
لقد صار اليوم كله في ومضة الشاعر عيسى قارف مجرد صباح عجوز، صباح رجع عن انفتاحه على المراحل الزمنية القادمة مستندا على عكاز جاف محنط، ولم يقل على عصاه بل قال (على عكازه) رمزا بذلك إلى التواء النهار منذ بدايته، لأنه خال مما يعزم المرء تبكيرا لأجله عادة، وقد يكون العكاز تلك الشجرة الجرداء التي عرّ الشتاء عن جذعها وأغصانها ثم ميّل رأسها، مما يوحي أن الشاعر قال هذه الومضة في فصل الشتاء متى تلوي الرياح استقامة الأشجار فتجعل منها شبه عكاكيز حيث الحياة منهكة بما تعاقب عليها من فصول، لنجد في النهاية أن الحكاية كلها تتعلق بفشل موعد مرتبط بأوضاع نفسية أو روحية أو عاطفية للشاعر.
صــــــباح عجوز
لمثلك انتبه_ الصباح
وعاد متكئا على عكازه..انتبهت
جذور الشمس…
هكذا أيضا أنهى الشاعر ملحمته في وميض 9 كلمات بمقدار 3 جمل.
ـــــــ
عمري الآن في مكاني قرون،
فكأني بلغت عمر السماء،
وكأني ومنذ طوفان نوح
اجمع الشوك من رهيف الماء.
لم أعد واثقا من شيء، ولكن
صرت يا حزن واثقا من عرائي..
لا يجب أن يسبق الشعر النقد إيجازا لتجدني مضطرا فأقول: هذا الوامض الشعري يخزّن قصائد الأطلال برمتها، والرجاء الثقة في نقطتي التي عادت طواعية إلى السطر.
من قصائد ديوان “والآن” للشاعر قارف عيسى.