بعض الكُتاب نراهم على منابر عمومية (يستربِبُون) بما حصلوا عليه من جوائز وليس بما كتبوا، فتجد الواحد منهم يتحدّث عن جوائزه وعن كارتون (سِيفِيه) اليابس، ولو اطّلعت على أفكاره لولّيت منه غربةً واستغرابا، فعقله لا يحوز من المعرفة ما يبرّر تلك (الرّامات) من الورق المقوّى وغير المقوّى، الأخمج والأخبث أن ترى مواقفه الثقافية والفكرية والإنسانية باهتة، قد يتفوّق عليها في حضوره نازحٌ من الريف لم يسبق له أن جلس على مقعد الدراسة، وأحيانا عن عمدا يتجنب الإدلاء برأيه حول كثير مما يحدث في العالم خوف الحدِّ من حظوظه المادية التواجدية الإشهارية.
أمام المستجدات السياسية التي حدثت في الحياة، ولا تزال تطرأ من حين إلى آخر بطرق مفاجئة ومباغتة للإنسان، وأكثرها سببّت تحوّلات عميقة في الكون وفي الخرائط، وفي أخلاق الأمم وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، زعزعَت كيانات ومسخَت هَوِيات وطمسَت تواريخ لحضارات عتيدة، أمام كل هذه الزخم من المتغيّرات تجده مثل هؤلاء المثقفين كمثل الحمار يحمل أسفارا! لا رأي له فيها، ولا مساهمة لإثرائها أو التصدي لها، بل لا يكاد يفقه شيئا مما يحدث حوله حتى على مستوى أسرته، المعضلة أن خبرته في التسلق نحو المناصب أقوى وأشرس، يبدو ذلك في هشاشة استعمالهم من طرف السياسيين، وأرباب قرارات الفعل السياسية والثقافي، فلا ينتبهون حتى إلى أوضاعهم المضحكة المدعاة للسخرية وهم كعرائس القراقوز تجذبهم خيوط المصالح يمينا ويسارا وأحيانا إلى الأمام وإلى الخلف، فتجدهم نوابا عن الشعب في البرلمان حينا، وحينا أعضاء في أحزاب سياسية معارضة زعما، والمثقفون المتعمّقون في الفكر السياسي يعرفون هذه الحقيقة جيّدا.
كُتّاب التنوير عادة ما تجدهم زاهدين عن طلب المناصب السياسية وغير راغبين في الحبو إليها، لأنها من وجهة نظرهم وجهة مُكبِّلة لحرية تفكيرهم ووضعية تحجب عنهم التطلع إلى الحقيقة، ومقيّدة لطلاقة أرائهم التي يدافعون بها عن المظلومين والمقهورين والمغلوب على أمرهم في العالم، فهم لا يتطلّعون إلى عير ولا إلى غنائم ولا لديهم مصالح يمكن أن ترغمهم على التنازل عن قناعاتهم النبيلة، ولا لديهم أيضا أطماع في نيل مكاسب سياسية أو مناصب مرموقة في الدولة، لا يهمّهم سوى إسعاد البشرية بما يكتبون وما يبدعون، وإمتاعها بالكتابة في جماليات الكون ما خلق الله من روائع.
بعيدا عن هذا النوع السامق من المفكرين، فإن الإبداع الكتابي مخدوع اليوم من طرف من يدّعون أنهم يمثّلون الصدارة الفكرية والثقافية، مُتَحايلٌ عليه من طرف جهة ليس وراءها أي هدف تنويري، فإذا كانت المعرفة كالشمس تلطع على الجميع كما يقول الصينيون، فإنها لدى هؤلاء لم تطلع إلا عليهم في شكل جوائز وتكريمات ودرجات سياسية مرموقة، وترقيات إلى وظائف أكثر نفوذا ودخلا مادّيا لينسوهم رسالتهم ككتاب ورجال رأي واستشارة.
إنهم ربوهات محترفة في جمع الجوائز والشهادات، يشبهون إلى حدٍّ ما آلات الحصاد التي تؤدي وظيفة ميكانيكية دون الوعي بالمحصول الذي تجنيه، عاجزة أيضا عن وصف شكله ولونه وذوقه، فلا تَحضَر في الساحة إلا بضجيج حديدها وضخامة وجودها ودخان محركها، وغالبا ما تُلحق هذه الفئة أضرارا بالثقافة والسياسة، وتدفع غوغائيتها بالمفكرين الجادين إلى الصمت، وربما إلى التخلي تماما عن فعل التنوير بسبب تحريض الحكام عليهم، لأن وضعهم النفعي يجعل التنويريين مشوشين أمام السلطة بحكم انحيازهم إلى الصراحة والحقيقة، الجائزة بهدفها النبيل كمحفز على المزيد من العطاء الفكري بريئة أمام من يملكون سلطة توجيهها، وغالب ما يحدث لها كما يحدث للعروس الجميلة البهية الطلعة حين يزفونها إلى فارس أحلام مزيف أو مغشوش.
وكثير من الكتاب التنويريين رفضوا جوائزَ مهمة عالمية وعربية ووطنية، لأنهم لا يريدون أن تظهر آراؤهم ومواقفهم مرتبكة ومتناقضة أمام قرائهم، فينعكس ذلك على شخصية صاحبها الذي عوّد جمهوره على أنه شجاع وجريء وعاشق للحقيقة، يتمتّع بقناعات ثابتة حيال مواقف معينة قد تكون مضرة بالحياة والإنسان، على غرار الروائي والمفكر المصري إبراهيم صنع الله الذي رفض جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي احتجاجا على تواجد السفارة الإسرائيلية بمصر، وكان حينها الكيان الصهيوني لا يتوقف عن قمع الشعب الفلسطيني وقتل الأطفال والعجزة من الرجال والنساء، رفضها لأنه يعتبرها إثراء لحكومة ترعى الفساد وتساند قرارات دولية متحيّزة و أحيانا منحرفة، في حين تعكس الجوائز لدى بعض الكُتاب النفعيين تناقضات مشينة في أرائهم ومواقفهم السياسية الثقافية، فتجده – مثلا – يحوز جائزة تُرضي المساندين للقضية الفلسطينية، وإلى جانبها جائزة تُزكّي سياسة دولة تدعو إلى التطبيع مع إسرائيل.
تذكرني الحالة بمثقفين وكتاب وعلماء دين عرب وقفوا ضد اتفاق سانت إجيديو بإيطاليا سنة 1995م، وأصدروا حينا بيانا تنديديا على أن الجزائر بريئة من هؤلاء السياسيين الذين اجتمعوا تحت رعاية دولة كافرة، وبعد شهور قليلة أمام اقتراب شهر رمضان حدثت أزمة في اللحوم، فاضطرت الدولة الجزائرية إلى استيراد اللحوم من إيطاليا، الغريب أن الذين وقّعوا على ذلك البيان التنديدي هم أنفسهم من قاموا بحملة تشجيع المواطنين الجزائريين على شراء هذه اللحوم المستوردة بحجّة أن ذبائح أهل الكتاب مباحة للمسلمين، التاريخ لم يعد يعيد نفسه، بل صار يضحك على نفسه، لأنه صار يبالغ في تكرار المُكرّر إلى حد إصابته بالإسهال المزمن.
ليس عيبا أن يطمح المثقف إلى جائزة وفق مفهومها الفلسفي الداعم للفكر والثقافة، فقد يكون من شأنها إعانة الكاتب على إنجاز مشاريع إضافية، أو تحسين أوضاع مادية قد تكون معيقة لمساره الإبداعي، غير أن الكاتب التنويري في هذا الاتجاه أكثر حيطة وحذرا من الكاتب النفعي الذي لا يهمه شيءٌ، فالنوع الأول هو الذي يحُدّ بذلك المبدأ من اصطدام الحضارات، وحريص على إجلاء الحقيقة من بين ركام الغوغائية.