
يعد النقد الأدبي الجناح المكمل لعملية الكتابة الإبداعية، والمحفز لرحاب تجويدها، وتأصيل ظواهرها الجمالية والموضوعية بعامة، وتحقيق التقارب بين الأعمال الفنية والقراء في الأساس، وإضاءة النصوص الأدبية وصحبة القراء في دروبها، وكشف أسرارها ومضاعفة متعة القراء بها.
ومناقشة المشهد النقدي بعامة وتأثيره في المشهد الثقافي قضية قديمة متجددة، يمكن أن نطلق عليها باطمئنان تعبير “قضايا الأرواح السبعة” تلك القضايا التى لا يهدأ حولها غبار الجدل في الأجيال والطبقات الثقافية، حتى يثار دائما من جديد، ويشتبك أطرافه من قبيلة المبدعين وفريق النقاد في خصومة مريرة.
وأرى أن يتحول الجدل إلى حجاج يستند إلى مرجعية معتمدة، ومنطقا مؤيدا، وتأصيلا واقعيا يكشف وجه الحقيقة في القضية التليدة الجديدة الملحة. ويرتبط بذاك الحجاج -في تقديري- تباين الرأي حول أدوار النقد في الحياة الثقافية، وما حدوده والمجال الذي يبحر إليه، وصلته بالأعمال الفنية، هل دوره الأصيل الفرز والتصنيف للأعمال الفنية وإصدار أحكام القيمة بشأنها؟، والتأييد بالإجادة الفنية من عدمها؟، وتصنيف المبدعين في طبقات إبداعية وفئات متباينة في الوهج الإبداعي؟، أم دوره الإضاءة دون التصنيف والتقييم -بالصحة أو الرداءة- والتأويل والاكتشاف وتثوير الذائقة؟، كما يقول كروان الشعر “فاروق شوشة” في تعليقه حول دراسة نقدية بقلم د. محمد غنيمي هلال جاءت مقدمة لديوانه الشعري الأول “إلى مسافرة”: “… فتكشف لى اجتهاده عن مسارات ورؤي وكوى للضوء لم تخطر لى على بال”.
الحقيقة أن الإجابة على سؤال أدوار النقد الأدبي تتباين بين الجيل والآخر، وعبر الفترة الزمنية والفترة الزمنية الأخرى، ويجب بحثها بداية للبصيرة بالمشهد النقدي الآني وتمحيص قدرته في احتواء الحياة الثقافية ومدى قيامه ببث الحيوية في رحابها، والتكافل معها.
كان “العقاد” دائم الانتقاد للقصة -كانت الرواية تسمي حينها قصة- حيث كان مثابرا في إجراء الموازنة بين الشعر والقصة، وأكد مرارا أنه لا يقرأ قصة حين يسعه أن يقرأ كتابا أو ديوان شعر، وأن بيتا شعريًا واحدًا يرجح قصة كاملة، ورد عليه الشاب “نجيب محفوظ- في “رسالة” الزيات بمقولته الشهيرة: “القصة شعر الدنيا الحديثة”. وشاهدي من سردي لهذا الموقف هو عبارة “العقاد” التي شن بها غارته على القصة فوصفها أنها مثل الخروب “قنطار خشب ودرهم حلاوة”.
وهذه العبارة “قنطار خشب ودرهم حلاوة” يمكن أن نبحث ظلها ونسحبها بصدق في وصف منتجات الظاهرة الثقافية التي نشبت بقوة منذ تسعينيات القرن العشرين، وهى ظاهرة ثائرة متعددة الوجوه، مشتركة الأقسام، متداخلة الأعطاف طبقا لنظرية الأواني المستطرقة، رائدها فئة الكتاب الشباب خاصة، والحادي لها الوسيط الإلكتروني الجديد، والذي أصبح عنصرًا فاعلًا بقوة في الحياة الثقافية والفكرية والظواهر الإبداعية الجديدة، وتأثيره لاا يخفي ولا يستهان به.
والحراك النقدي والحياة الثقافية وجهان لعملة واحدة أو سببًا ونتيجةً في الوقت ذاته، حيث أنها ظواهر متداخلة ومتلازمة وتفتح مسارب متعددة بين بعضها البعض، فالأدباء أنفسهم قائمين بالتدوين وهم ناشطوا الميديا الجديدة، وهم أيضا أعضاء فاعلين في المجموعات الأدبية، والصالونات الافتراضية والواقعية، تصاحبهم دور نشر جديدة، تقيم حفلات توقيع الكتب، وتعقد وتعلن باستمرار عن مسابقات النشر، وتستقطب الكتابات النوعية واليومية التي تستحوذ على اهتمام القراء الجدد، إضافة إلى تباين الذائقة بين الأجيال، والرعاية البالغة للفن الروائي في مواجهة الأنواع الأدبية الأخرى … إلى آخره. هذا جمعيه أثمر طوفانا من الكتابات المنشورة على صفحات الفضاء الأزرق أو ورقيًا، مع نشوب مجاعة التعليقات، وطلب المداخلات، وغياب التقييم الصحيح في ضوء التكافل بين مجموعات الأصدقاء الكتاب، والسخاء في المديح غير المنضبط، وصناعة النجوم في مدافعة هائلة من الاعجابات والتأييد والنشر وتعدد الوسائط ومجموعات المساندة دون ضابط أو معيار منصف، أسهم في صناعة “الترند” الثقافي الكذوب أحيانا.
هذا المشهد الثقافي الصاخب، وما انتجه يبرر العودة إلى دور النقد الأدبي في بداياته كأداة للفرز والتحكيم، وإصدار الأحكام بالأصالة الإبداعية أو التضعيف، وصناعة مؤشرات هادية للقراء ومضيئة للأعمال الفنية المستحقة للتقدير والمطالعة، وتقديم نجوم أدبية وثقافية تنير حياة الفكر، وتمتع القراء بفنها الأثير، ورؤيتها المقاربة لخواطر ومشكلات الواقع، مكسوة بنزعة إنسانية عميقة تبصر بالذات الإنسانية في براءتها وعنفوانها، وتقارب في فهم الآخر وتقديره، وتدفع للتنوع الثقافي والتحضر، وتحقق الممانعة الثقافية ضد الآخر العدواني.
والمسح الواقعي للمشهد الثقافي الآني المتنوع والعاصف ليس كئيبا جميعه، بل تشرق بقعا من الضوء اللافت في جهود إبداعية خلاقة، ومتابعات نقدية نوعية من فئات كثر من القراء عبر منتديات الفضاء الأزرق، وتطبيقات اللقاءات الإلكترونية عبر الوسائط المختلفة -ربما تسبب في تثويرها مؤخرا فترات الأوبئة العامة- كما تأسست بعض الصالونات الفكرية والمنتديات الأدبية والمؤتمرات النوعية الواقعية بالمؤسسات الرسمية والأهلية تحاول ملاحقة الإبداع، ويحتاج بعضها بالتأكيد للتنقية من شوائب التمجيد والطقوس الاحتفالية المبالغ فيها دون مردود حقيقي نحو التقويم والتصويب ونفي الأعشاب الضارة من الكتابات.
لكن الجهود النقدية الآنية المبذولة ما زالت محدودة، والنقاد المهتمين بالمتابعة والفرز يمكن عدهم عدا، في حالة اعتصام بعض الأساتذة عن الانخراط في غمار الظاهرة الثقافية والتعاطي معها، وبحث سمات الكتابات النوعية والهجينة الجديدة. وتلك المبادرات الفردية الصادقة -افتراضيًا وواقعيًا- لا تكافئ حالة الغمر الهائل بالكتابات، عبر كافة وسائل النشر، وعبر فئات منوعة من المدونين المبدعين، الذين كانت الشبكة العنكبوتية محفزهم للكتابة، أو المبدعين المتحققين الذين يحاولون اللحاق بقطار التحديث.
تلك الجهود البسيطة ليست كافية ولا تنفي تلك الشوائب التي تضخمها بعض الذوات الإلكترونية، وبعض المسابقات الموهومة والشلليات الضارة المهيمنة على منصات التقديم الثقافي، المستحوذة علي مسارات النشر خاصة الورقية، المضخمة للمنحى الايدولوجي، والتعصب الفكري على حساب معايير النشر والتمكين الثقافي المنضبط.
هذا الشحوب في تأصيل الظاهرة الثقافية، وفرز الجيد وتمكينه، والاحتفاء بأصحاب الجهود المخلصة، يدفع إلى ضرورة يؤكد التضامن بين الأطراف الفاعلة في المشهد الثقافي جميعا، سواء الإدارة الثقافية لمؤسسات التعارف والتقارب والتمكين الثقافي الرسمية والأهاية جميعا، أو المبدعين أنفسهم بكدحهم الثقافي، وعنايتهم بملكاتهم الإبداعية وتثميرها والأناة في انضاج الأعمال الفنية، والحرص علي أصالتها وجدتها الفكرية والفنية.
وفي الأساس -بالطبع- فئة النقاد بالانتخاب البصير لمنصات الإبداع الجادة، بدعمها، والترحيب بالمساهمات النقدية عبر رحابها للمبدعين الجادين، مع الاهتمام بتأصيل فني يبصر المبدعين بخبرات الكتابة، وحدود النوع الأدبي ومسارات تخصيبه من أنواع أخرى في آن واحد، وممكنات التحديث دون التشنيع على اجتهادات أخرى سابقة أو مصاحبة، وتجلية خرائط الكتابة الإبداعية المشرقة الممتعة والنافعة، وتثمير المواهب والعطف عليها، واقتناء مذهب النقد الأدبي العطوف، والصمت عن النماذج المهلهلة والضعيفة ونفيها.
كما يستلزم مدافعة حالة الاعتلال في المشهد الثقافي، وآفات الوسائط الجديدة، تجذير الوعي بمفهوم لا مناص من التبصر بأهميته في المشهد الثقافي الآني، وهو مفهوم “القارئ” وحقيقة دوره في الفرز النقدي للموضوعات الأدبية المطروحة في شبكة العنكبوت التي أبدلت المبدع ليكون ناشرًا والقارئ قائمًا بالتقييم وتوجيه ذائقة القراء بوسائل متعددة، وتطور هذه الوسائل عبر رحلة كرة الثلج الرقميّة المتضخمة، بداية من الدراسات الأدبية والأطروحات النقدية على ساحات المنتديات الحوارية، وصولًا إلي مواقع التواصل الاجتماعي “السيوشيال ميديا”، ومواقع القراءة وتقييم الكتب، وتطور الشكل الفني نتيجة ذلك، وبحث موضوعات جديدة لا مفر من مقاربتها والاعتراف بممكناتها، والاستفادة من ايجابياتها، مثل موضوع “الناقد الآلي”، و”النقد الرقمي” وميكنة طرق تحليل النصوص واللغة على الحاسوب، وبحث الأدب الجديد المكتوب إلكترونيًا وورقيًا، وخصائصه المهمة من: التداولية، واليومية، والتكثيف، وتقديم ومضات الذائقة المصاحبة للقراءات، وبحث مدى توافر المتعة في الكتابات، ودورها في تألق الناحية الموضوعاتية في النصوص، والعناية بالمذكرات والسير الذاتية، والسيرة الروائية، وأدب الطفل، وغيرها. وبحث درجة الإجادة قياسًا لحجم المحتوى المعرفي المقدم رقميًا وورقيًا، وحجاج أدب الكتابة الجديدة بين التأييد والمعارضة، وبحث تأثير الوسيط الإلكتروني والكتابات الجديدة من خلال التفسير الإعلامي للكتابة الجديدة، والإلماح للنص التشعبي والأدب الرقمي التفاعلي، وعلاقة أكاديمية النقد ومناهجه ومستقبلها في تعاطي النقد الأدبي مع النصوص الإبداعية المنشورة. مما يشير إلى أن المجال والمسؤولية الملقاة على عاتق القراء الجدد، وندعم حينها ما يتسق مع التحديث، من خلال تأييد مفهوم د. محمود الربيعي أن الناقد في الأساس قارئ محترف له خبرات جمالية متراكمة بالأعمال الفنية.
إذن دور النقد يشتمل مجالات بحثية كثر وإجراء مناقشات مطولة، بالإضافة بالطبع إلى المقاربات التي تجمع بين منحي التقييم والفرز والتوجيه، ومنحي الإضاءة والكشف والتأويل وتثمين القيم الفنية البناءة.