
نوال السعداوي توهّجت بفكرها إلى درجة انطفاء عقلها، جرأة تهجمه على الثوابت جعلت منها امرأة بائسة، ماتت معزولة عن الرجل وإن كان واقفا إلى جانبها وهي تحتضر، توفّيت غريبة عنه لأنها لم تكن واثقة بوقفته وشككت في رعايته لها وإحاطته بها كرجل وكذكر وكزوج، أو ربما أخطأ فوقف بجانبها وقفة السيّد الذي تنزعج من وجوده كل النساء المشاكسات، لأن المرأة الطبيعية تفخر وتعتز بسيادة زوجها، فلا تحاول إحباطها بمعول العصيان والتمرد، أو ربما أرادت إبادة ما يزعج السيدة الكريمة أو ينافسها هالة البيت، ماتت غير تابعة ولا متبوعة، أرادات أن تكون هي في “لا تكوني مثل أي أحد، كوني أنت”، لكنها ماتت لا هي ولا أي أحد آخر، لأنها لم تكن على الأقل وسطية منحازة إلى القول بالتساوي بينها وبين الرجل، ماتت نوال السعداوي في سن الـ 90 ربيعا دون أن تقرر أيهما هي من الثلاث نساء: القائمة على الرجل، أو المساوية له، أو الطيّعة لقوامته، ماتت دون أن تخبرنا لماذا عاقبت يدها بالقفّازات، وهي التي أقرّت بأن حجاب المرأة مجرد عقاب، ماتت وقد قرأ عليها الشيخ الفاتحة ولم يكترث بقولها: “سقطت الأقنعة عن العديد من المشايخ ورجال الدين ممن يدعون إلى الفضيلة النهائية المطلقة، فقد اكتشف الشباب بالقراءة وممارسة النقد أنهم كذّابون ومنافقون”.
نوال السعداوي ماتت أنثويا قبل أن تموت بيولوجيا ذلك لأن الرجل اكتشف أن أنوثتها مغشوشة بعقلية ذكر، ماتت حامية الوطيس تناضل من أجل جسد مركب من أعضاء أنثوية وعقل رجل، الحالة التي يعتبرها الدين والقانون شذوذا، الدليل أن هناك الكثيرات من النساء لم تمنعهن طاعة الرجال من التفكير والتعبقر، بدليل تأليفهن للكثير من الكتب المختلفة المواضيع، فمنهن الشاعرات والممثلات ونجوم سينما، ولم تمنعهن أيضا طاعة الرجل ليخضن معارك ضارية لتحرير الوطن، ثم بطلات غزوات وحروب والأمثال كثيرة في هذا المجال، أبلغها أم النساء مريم العذراء التي لو لا صلادتها ومتانة علاقتها بالله عز وجل لاستجابت لإغراءات الكنيسة وخافت من وعيدها ثم تنكرت لقداسة ابنها عيسى عليه السلام بادعائها أنه ابن فلان وليس نفخة من روح الله.
أمّا كونها مرفوضة أنثويا فقط لأنها تجهل أن هناك ذكورا مرفوضين أيضا، وقد تذرعوا بالدين لينتقموا من المرأة اتهاما لها بالفسوق وقلة الحياء، وأحيانا بالسياسة التي تحرم المرأة من المساهمة في ازدهار الوطن ليجعلها حكرا عليه، كونها ازدرته حين جاءها خاطبا حيث جزم بأنها فارسة أحلامه، وهذه عقدة كما تتوفر لدى المرأة تتوفر كذلك عند الرجل، ولا يجب أن ندرجها في أروقة الفكر ونُركِبُها هودج الخلافات الفلسفية، من حق المرأة أن تنافس وتختلف ولكن لا يجب أن تخدش العلاقة المقدسة التي قد تهتك بعد ذلك بكيان الأسرة، ثم تهتك بكيان وجودية الثنائية التي خلقها الله حيث لا دخل لطرف في اختلافاتها، فنعطل بجدليتها شبق الحياة حيث لا يتحقق إلّا بها، ولا يمكن لأي طرف أن ينتج شيئا لو لم يكن هذا الاختلاف موجودا، كضامن أساسي لصيرورة تواصل النوع البشري.
في حالة التنافر بين الرجل والمرأة لا يحق لنا أن نظلم الفكر والفلسفة، ثم نقحم تلك الفروق البيولوجية والوظائف الطبيعية في الصراع، بدلا من ذلك على كل طرف أن يحسن ترويض الآخر: “المرأة العظيمة هي التي تعلمنا كيف نحب عندما نريد أن نكره..[1]” يبدو أن نوال السعداوي قد أجهدت عقلها في تعليم الرجل كيف يكره، ففشلت في ترويضه وجذبه ناحيتها هادئا منتجا ومفيدا، ولحسن حظها لم يكن أسدا وإلّا أكلها داخل القفص، وهكذا ظلت تشاكسه حتى وصلت سن التسعين ولم تحدث فيه جرحا واحدا: “أخي كان أكبر مني وحين رفع يده عاليا ليصفعني رفعت يدي أعلى منه وصفعته، وحين أراد زوجي أن يلغي وجودي ألغيت وجوه، وحين صاح زوجي الثاني: أنا أم كتاباتي قلت كتاباتي وانفصلنا، وحين انتفض وزير الصحة وقال: الطاعة أن الفصل؟ قلت الفصل.”، فإذا كان في الطبيعة مَن استساغ أفكار نوال السعداي فلا يكون إلّا ذكرا مريض القلب، له رغبة في تدفق المرأة خارج الحياء والحشمة ليقتات من جسدها، هذا إن لم تكن هي التي تبحث عنه بحجة الاختلاف، فلكل امرأة نافذة من أين تطل على الرجل، حتى المرأة الريفية تضع حبل الغسيل خارج فناء البيت بحجة البحث عن الشمس.
كان سيحدث ذلك أيضا لو فعلت مع ذلك أختها الكبير وليس أخوها، وكانت لتفعل أيضا ذلك لو كان وزير الصحة امرأة، تذكُر أنها هي صاحب القرارات المثيرة المتكررة “رفعت يدي أعلى منه، ألغيت وجوده..”، قالت أكبر منه سنّا وتجنبت أن تقول أكبر مني عقلا، وتجنبت الاعتراف بالتمرد عن زوجها الأول والثاني، كونها لم تنته عن الكتابة ضد تحصيل حاصل ما أقرته بنفسها في مستهل الفقرة: (زوجي الأول/ زوجي الثاني)، وحتى على إدارة وظيفتها في نفورها عن معنى طاعة قوانين المؤسسة، ربما نسيت فربطتها بقوانين الأسرة وحكاية سيادة السيد.
نوال السعداوي تعود إلى الخطيئة الأولى، وتشهد أن حواء عوقبت من طرف الرجل بتغطية رأسها، الغطاء المعروف في الثقافة الشفوية بـ(الْمَحْرَمة)، وهي مشتقة من الإحرام أي الدخول في حرمة الله وذلك بخصوص ما يتعلق بالحج، وتعني اجتماعيا الدخول في حرمة الرجل، وذلك من قولهم هذه (حرمة فلان) لمنع الآخرين من الاقتراب منها، يعني زوجته هذا من حيث اصطلاح الكلمة، أما لغة فتعني أن المرأة عندما تلبس (الْمحْرمة) فإنها تحرِم الرجال الأجانب من رؤية شعرها، وفي المجتمع الأوروبي معروف بـ(الفولار) وليس لها معان متسعة غير توفّرها كشرط من شروط دخول الكنيسة، وفي الإسلام معروف بالخمار من فعل التخمر، والمصطلح له صلة أكثر بالأرض، فنقول أرض مخمرة.. وفاكهة مخمرة… وزرع مخمر.. وشجرة مخمرة..
ويقال أيضا رجل مخمور يعني غيّب عقله ووعيه عن الناس بما لا يجب، يعني غطّى على العقل الذي يستحي بعقل عشوائي لا يستحي ولا يخاف. بعكس المرأة فهي تغطي بالخمار ما يجعل حياءها يطفو على انحلاله أمام الآخرين، فكأنها تخمر محاسنها إلى حين يكشف عنها الرجل بالحلال بنوع من اقتصاد جمالها، فلا تدفقه أمام شهوة الرجل جملة واحدة فيشبع منه عن بعد ثم ينفر منها، لأن الأشياء تكون جميلة كلما قلّت أو ندرت أو اختفت، وعكس الظاهرة الانتشار والتشتت والميوعة، فتكون في نظر الرجل أكثر إمتاعا أمام شح نفقة محاسنها عليه، وذلك أن الشيء المخفي في الأرض وفي الأشجار وفي الأواني يأتي دائما لذيذا وطيبا، بينما نشك في خبث ما تعرّى من الأرض ومن الأشجار ومما وُضع في الأواني من أكل وخلافه بدون غطاء، ومنها سائر القشور التي كسا بها الله الفواكه، وما لم يمنحها قشورا أنبتها على علو شاهق كالتمر في النخيل، أو غطاه بكثافة الأوراق كالعنب والمشمش والتوت والفراولة.
ماتت نوال السعداوي دون أن تعرف لها هوية جنسية ممن خلق الله، مشكلتها أنها بحثت فيما يحرمها من المتعة الثنائية بما هي عليه من فروق واعوجاج: {وَمِن ءَايَٰتِهِۦ أَن خَلَقَ لَكُم مِّن أَنفُسِكُم أَزوَٰجا لِّتَسكُنُوٓاْ إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُم مَّوَدَّة وَرَحمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰت لِّقَوم يَتَفَكَّرُونَ}. الروم. الآية 21. ولأن المثالية نسبية ولا يمكن أن تكتمل بحكم أننا في الحياة الدنيا، كان عليها أن تتفاعل مع هذه المودة وتتناول هذه السكينة دون أن تشكك فيها، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} المائدة (101). فالإنسان ليس مطالبا بإعادة النظر في خلقه، لا بقوله أنه كان في الأصل قردا، ولا بقوله أنه يمكن أن يكون طاقة تفوق وصفه بالمخلوق فيما هو عليه، ولا بما ليس له به علم.. إبليس – مثلا – تمرّد على الله لكنه لم يتصرف في خلقه، أو ادعى بأنه صفة أخرى غير التي وصفه بها الله، بل اعترف أنه مخلوق إنما فضّل المادة التي خُلق منها عن المادة التي خُلق منها آدم: { قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ[2]}.
أبى السجود لكنه لم يشكك في شيطنته كمخلوق من نار، ولا في آدمية ندّه المخلوق من الطين، ولم يناقش التكوين البيولوجي الذي خلقه عليه، ولا في المهمة التي أوكلها الله لآدم وهي عمارة الأرض بالتزواج والتوالد، ولا اعترض على الله بأنه لم يستكمل خلقه، كأن يكون قد انتقص منه شيئا ما، مشكلة إبليس مع الله أخلاقية بحتة، تتمثل في أنه تجرأ وأبى السجود لآدم وكفى، فليت نوال السعداوي فعلت مثله فعصت الرجل ككيان قرر الله قوامته عليها وكفى، فلا تنقلب عليه وهو الذي تحدى الجاهلية والأعراف المنحرفة ودفعها لتنال معارف الدنيا والآخرة.
إبليس لم ينقلب على جنسه من الأبالسة والشياطين ويشكك في ثنائيتهما، حيث لا يمكن استمرار نسله إلّا بالتزاوج والتوالد، بل مارس صراعا آخر يخص مخلوقين اختلفا في طبيعة الخَلق، ولما فضل الله آدم عليه بحكم صراع سابق في الجنة، دفعته الغيرة إلى عدم الانصياع لأمره عزّ وجل بالسجود، ثم توعد آدم وذريته بالغواية مقسما بعزة الله وجلاله، لاحظ أنه ليس ناكرا بأن الله خالقه وأنه ذو عزة وجلال، كأن يدعي بأنه قوي دون الحاجة إلى الله، بل يقر بأن هزيمة آدم مقترنة بنسيانه تعاليم ربّه وابتعاده عنها، وهذا ما صرّح به إبليس بقوله: { إلّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلِصِينْ[3]}، معنى ذلك أنه لم يحاول امتلاك قدرة جسدية ولا معرفية ولا عقائدية ولا حتى ميتافيزيقية تجعله يؤثر على المخلصين كما فعلت نوال السعداوي.
إبليسة ليست مشاركة في الأحداث ولا ظهرت تاريخيا مشاركة في هذا الصراع، فليست مذكورة في القرآن ولا في الأحاديث ولا في الأثر، مما يدل أنها كانت تقدر إبليس ولم تحاول تجاوزه كمسؤول وحده عن هذا الصراع، بخلاف نوال السعداوي التي نسيت دورها وتجاوزت وظيفتها كامرأة وأنثى، فشككت في شراكتها مع الرجل، وحتى في قدرته على حمايتها ومراعاة شؤونها، كإرادة مكملة لإرادتها في تبادل المنافع بحكم الاختلاف البيولوجي والوظيفي حرصا على استمرار النسل البشري، وطبيعة الاختلاف البيولوجي الذي يكمل بعضه في توازن يسير عليه الكون، وتسكن إليه الحياة وتتوافق معه الطبيعة بكل ما تحويه من ثنائيات.
هكذا ظلت نوال السعداوي تعطل فاعلية هذه الدائرة، وبما أوتيت من علم راحت تفكر في إحداث عطب لتشل الكون، ولكنها عجزت ثم ماتت محرومة من متعة حراك الدائرة ولذّة تبادل الأدوار واحترام الوظائف، فكم تكون المرأة سعيدة وهي خائفة وراء الرجل وهو يعري على ذراعيه متأهبا لحمايتها، وكم تكون شاذة عندما تحرم بجرأتها الرجل ليأخذ فرصته أمامها للتعبير عن قوته وصلادته وعنفوانه كمسؤولية منحه الله إيّاها، ومنح المرأة الخجل والخوف والحياء لتستمر حضنا آمنا للأولاد، مقارنة بالرجل الذي تجعله قناعته بأنه شجاع وكفيل بأن يقطع مسافات طويلة لإحضار ما تحتاج إليه الأسرة من طعام وأغراض أخرى، لأنه لو حضن هو الأولاد ما كفاهم حنانا وصبرا، ولو ذهبت هي مكانه لما وجدت من الشجاعة والقوة والجرأة ما يمكنها من القبض على الفريسة، وبهذا الاختلال قد يموت كل واحد في جهته وتنقرض البشرية، وهكذا نقول توهّجت أفكار نوال السعداوي إلى درجة انطفاء عقلها فيما لا ينفع البشرية بشيء، وربما دفعت كثيرا من النساء إلى الانطفاء تأثرا بأفكارها.
[1] ) سقراط.
[2] سورة الأعراف الآية 12.
[3] ) سورة ص الآية 83.