إنها الخامسة والنصف، تأخرت كثيرا يا محمد، واليوم هو ثلاثاء الشعر والقصة في رابطة الكتاب الأردنيين، ومفتاح المقر في جيبك، واليوم يوم الشعر، وأنت تعرف الشعراء حين يغضبون يا محمد، وهم كلهم ينتظرونك هناك على عتبة المقر لتفتح لهم الباب.
رجا محمد ابن أبي جمال السائق كي يسرع قليلا فالطريق طويلة وخالية وواسعة، والأمر ملح وجد خطير.
لكن السائق لم يرد، ولم يستجب.
“إن غضبوا سيهجونني، وستلوكني الألسنة، سأصبح سيرة على كل لسان، أما لاكت الألسنة قبيلة نمير، وكعب بن زهير، ألا تذكر ضبة وأمه الطرطبة؟!”
محمد وهو ينظر إلى ساعته بقلق وارتباك: ويلي! أسرع يا أخي، أرجوك، فالندوة يجب ان تبدأ الساعة السادسة ونحن ما زلنا في شويعر!”
فنظر إليه السائق نظرة متوحشة، ثم قال له بجفاف: “بتدفع المخالفة؟”
فسكتَّ يا محمد، ولم تحرك حروف الجواب من مكانها؛ فهي تعرف الحال والأحوال، وتعرف أن مخالفات السير تطورت وتضخمت وتضاعفت وأبرقت وأرعدت…
وعند الدرج التقيتهم ففغرت العيون المؤنِّبة المعاتبة أفواهها، وضمتها غضبا، وصبَّت عليك سيلا قاسيا من العتاب واللوم والتذمر.
صوت: أوف! نصف ساعة تأخير، يا الله يا الله!
صوت غاضب: الأصل أن يكون للمفتاح أكثر من نسخة!
” يا جماعة الخير، والله الأزرق بعيد، ابعد مما تتخيلون! ” ومشوا كلهم على عجل في الممر إلى المقر؛ الشعراء والشاعرات والكتاب والكاتبات والمنتظرون والمنتظرات.
حتى توقفت أقدامهم العجلى عند عتبة المقر مرتبكة حائرة، فقد غط في نوم عميق هناك على عتبة المقر رجل تكور وتدثر بمعطف رمادي.
شاعرة بهدوء ورفق وبصوت خفيض مليء بالحنان: المسكين بسابع نومة!
شاعر بتذمر: وما وجد غير هذه العتبة مرقدا له؟!
فوضعت الشاعرة إصبعها على فمها: اشششـــــ
فقلت لهم بصوت حكيم هامس يزحف بالكلمات زحفا: الآن فلنفكر في كيفية الدخول إلى المقر، فالدخول إلى المقر مشكلة صعبة!
فقالت إحداهن بحزن وبرفق: وإيقاظ هذا النائم مشكلة أصعب!
فتهامسنا وتوشوشنا وتبادلنا النظرات وتعبيرات الوجوه، وتكلمنا بلغة الجسد ولغة الإشارة حتى اتفقنا على وجوب تجاوز جسد الرجل المتمدد المتدثر بمعطفه الرمادي الراقد على عتبة مقر الرابطة من غير أن نوقظه، ولكننا اختلفنا في طريقة الدخول إلى المقر، فقد رفض الرجال القفز من فوق رأس الرجل، ورفضت النساء فكرة القفز من جذورها، ورفض الرجال كلهم والنساء كلهن فكرة جر الجسد الممد مسافة كافية لنتمكن من دخول المقر، ونبدأ أمسيتنا الشعرية.
ولما طال حوارنا ونقاشنا الصامت حول الراقد على العتبة قال أحدهم بهدوء وثقة: فلنبحث عن طريقة اخرى للدخول.
صوت مواء صاخب يأتي من داخل المقر، فتحركت يد أحدهم بفرح مشيرة إلى النافذة، فنظرنا إلى النافذة المكسورة التي احتلت مساحة من الجدار الفاصل بين المقر وغرفة المصادرات المفتوحة التي تلقي فيها لجان البلدية بعنف ما تصادره من الباعة الذين يحتلون الأرصفة، وعلى مضض قبل الشعراء والشاعرات والمنتظرون والمنتظرات دخول المقر من النافذة.
وبعثوا من يحضر لهم سلما فجاء بعد لحظات وهو يحمل سلما خشبيا جديدا. قال بزهو: لم أجد من يعيرني سلما، فاشتريت واحدا. فأثنى عليه الجميع، ومدحوا عمله وفعله وجهده واجتهاده وفطنته.
وبعد حوار ونقاش حول أولوية الصعود على السلم اخترنا أن يكون صعود السلم حسب الحروف الأبجدية، فلا يجوز التفريق بين الذكر والأنثى، فنحن المثقفين نؤمن بالمساواة، وبحق المرأة، ودورها وقدراتها وبأنها صنو الرجل، واتفقنا على تمكينها في هذا الموقف، لإثبات صدقنا وإيماننا بذلك قولا وعملا.
أحد الحضور باستهزاء: يعني ما في ليدز فيرست؟
ولكن أحدا لم يجبه، أو يرد عليه.
فقلت مستعجلا الصعود: أستاذ أحمد، هيا أنت الأول!
صعد أحمد العابد الروائي المشهور السلم بحذر شديد، حتى وصل النافذة فأدخل رأسه منها، ونظر في المقر، ثم تراجع، ونزل متذمرا غاضبا: نحتاج سلما آخر للنزول؛ ألم تلحظوا ذلك!؟
وبعد انتظار طويل أحضر السلم، وتكفل محمد ابن أبي جمال برفعه وتثبيته في المقر، وقال بحب: اصعد يا أستاذ احمد! فصعد الروائي المشهور أحمد السلم واستوى على رأسه، ثم سحل جسده عبر النافذة، ونزل على درجات السلم، وصاح بفرح: “وصلت، وصلت!
صوت جماعي الروح: الحمد لله على السلامة!
صوت مستهزئ: غزال والله غزال!
فقلت بثقة: الآن دور باسمة.
صعدت الكاتبة المعروفة المشهورة السلم على استحياء والعيون كلها تقول: سلامات، سلامات، سلامات.
ولولا ستر الله وحفظه لوقع باهر العلي الشاعر الزرقاوي المجدد المتجدد الذي فتح الطريق واسعا لشعر الحنطش بنطش الذي يقع بين الوزن وضده.
وأما تهاني المسعود صاحبة الرائية المشهورة التي سار ذكرها في البلاد، فقالت لنا قبل أن تصعد: منذ سنتين لم أرَ السلم، ومنذ سنين لم أصعده..
واهتز رابح البع فوق الدرجة الثالثة فنادى إني واقع فأنقذوني، فأسرعنا لتثبيته ودفعه ورفعه وربطه وسحبه.
وأما سعاد كاتبة العمود اليومي في جريدة “يا فتاح يا عليم” فأظهرت رشاقتها وخفتها ومرونتها فقد تقافزت على درجات السلم كالفراشة مما أبهر المتابعين ونال استحسانهم…
وتابع محمد ابن أبي جمال مناداة الأسماء، وتابعت القلوب والعيون مراقبة الصاعدين والصاعدات، وهم يتعثّرون ويهتزون ويتثاقلون.
وللتاريخ أقول إن أكثر من أديب قد تطوع للإمساك بالسلم كيلا يتحرك، أو يتزحزح أو يهتز مع اهتزازات أرجل الصاعدين والصاعدات والمرتبكين والمرتبكات والخائفين والخائفات، وكنت أنا محمد ابن أبي جمال آخر المتطوعين حين اقترب مني صوت أنثوي على استحياء ووشوشني بحذر.
نظر محمد ابن أبي جمال القابض بقوة على الدعامتين الخشبيتين إلى السلم نظرة حسرة، ثم نظر إلى الراقد على عتبة الباب نظرة غضب، ولم يقل شيئا للظل الأنثوي الذي أدبر بثوبه الفضفاض …
كان محمد آخر الصاعدين وآخر النازلين، وكان الوحيد الذي حاول منع الرجل صاحب المعطف الرمادي من الصعود إلى المنصة والإمساك بالمجهار، وإمساك الشعر من أطرافه وذيله:
هاتي نهارك كي يطل نهاري إني بحبك قد نسيت مساري
والوحيد الذي حاول منع الحضور من التصفيق الحار له، وما تركته وسكت وتوقفت وجلست مع الجالسين إلا حين رأيت أن كلامه قد استُعذب واستُملح، وأن حديثه قد استطيب…
ولما نزل عن المنصة جلس إلى جانبي، وسلم عليّ بحرارة، وبهدوء وبثقة وبغرور قال لي: تأخرتم كثيرا يا دكتور محمد، الأصل أن يحترم المثقفون الوقت!