في زاوية غرفة مظلمة، حيث لا يجرؤ ضوء القمر على التسلل، يجلس هو… لا يخاف الظلام، لكنه لا يحبه أيضاً. الظلام بالنسبة له ليس عدواً، بل رفيقٌ صامت يعكس فراغاً يعتمل في صدره. البرد يعضّ أطرافه، وأنفاسه تخرج كسحابة بيضاء تتلاشى بسرعة، كما تتلاشى أحلامه في كل ليلة.
الجدران من حوله صامتة، لكنها تحمل أصداء ذكرياته المكتومة. يحدّق في السقف، عيناه جافتان ولكنهما تحملان بحراً من الدموع المحبوسة. العالم خارج نافذته يتحرك، يضحك، يحيا… بينما هو هنا، معلّق في فضاء لا نهائي من العدم. لا حزن يعرف طريقه إلى قلبه، ولا فرح يستطيع اختراق جدرانه النفسية. كل شيء في داخله… مخدَّر.
الساعة تدق، كل دقة كمطرقة تضرب أعصابه. لكنه لا يبالي. الصوت الخارجي، رياح الليل، عواء كلب بعيد، خطوات متسارعة على الرصيف… كلها أصوات لا تعني له شيئاً. يتشبث بيديه، كأنما يحاول الإمساك بشيء ملموس في هذا العالم الذي يذوب أمامه. لكنه لا يجد سوى جلده البارد.
العلاقات؟ مجرد رهان خاسر مع الزمن. الأصدقاء الذين كانوا يوماً ملء قلبه، الآن مجرد أسماء تتلاشى في ذاكرته كالضباب. يتساءل: هل شعر أحدٌ من قبل بهذا الفراغ؟ فراغٌ ليس مجرد غياب، بل وجودٌ ثقيل، كأن الكون نفسه قد تجمد داخل صدره.
يستلقي على سريره، كجثة تنتظر دفنها. يحبس أنفاسه، لا لأنه يخشى إزعاج الآخرين، بل لأنه يخشى أن يسمع نفسه. الكهرباء مقطوعة، والظلام يلفّ الغرفة كعباءة ثقيلة. في هذه اللحظة، تنهار حواجزه. الدموع التي حبسها لأشهر، لسنوات، تنفجر فجأة. ليست دموعاً صاخبة، بل أخرسَ، كأنها تخشى أن تُسمع.
لا أحد يسأله: “لماذا تبكي؟” لا أحد يرى تلك العاصفة التي تعصف بداخله. يتخيل أحياناً أن شخصاً ما قد يجلس بجانبه، لا ليتحدث، بل ليشاركه الصمت. صمتٌ يحمل الفهم، صمتٌ لا يطالب بالتفسيرات. لكنه يعلم أن هذا مجرد وهم. العالم لا يفهم من يريد أن يكون وحيداً… ومحاطاً في آنٍ واحد.
الأفكار تأتي كإعصار، تدمر كل شيء في طريقها. ذكريات قديمة، أحلام مكسورة، كلمات لم تُقل، وأخرى ندم على قولها. يحاول أن يتذكر متى كان آخر مرة شعر فيها بشيء حقيقي. لكنه لا يجد إجابة. البكاء يشتد، ليس لأسباب واضحة، بل لأن روحه مُثقلة بحمولة لم يعد قادراً على حملها.
في لحظة يأس، يتمنى أن يدفن وجهه في الوسادة ولا يستيقظ أبداً. ليس لأنه يكره الحياة، بل لأنه لا يعرف كيف يعيشها. الليلة تبدو أبدية، والفراغ يبتلعه ببطء. يتخيل أحياناً أن هناك راوياً يراقبه، يكتب قصته، لكنه حتى ذلك الراوي لا يستطيع فهمه.
وفجأة، وسط دموعه، يتوقف. يشعر بشيء غريب… إحساسٌ بأن شيئاً ما قد انكسر بداخله، انكسارٌ لا رجعة فيه. ينظر إلى النافذة، حيث لا يوجد سوى الظلام. يدرك أن الليل لن ينتهي، وأن الصباح لن يحمل معه أي أمل. يغمض عينيه، ويترك نفسه يغرق في بحر الفراغ، تاركاً خلفه قلباً تحطم تحت وطأة صمت العالم.
ليلة تعيسة، أيها العالم الذي لا يرى… ليلة أخرسَ، حيث ماتت الروح ولم ينتبه أحد.