
أغْزِلُ الذِّكْرَياتِ
عَلى حَبْلِ الْغَسِيلِ
أُقَشِّرُ أَحْلامِي الْيابِسَةِ
وأُغَنِّي لِصُورَةِ الرَّجُلِ الْمُعَلَّقَةِ عَلى الْجِدارِ
أُسافِرُ إِلَيْهِ مُمْسِكَةً بِخَيْطِ الْعُمْرِ
أَعُدُّ …وَاحِد ٌ…اِثْنانِ …ثَلاثَةٌ
أَعُدُّ الْمارَّةَ الْمُتْعَبينَ
مِنْ وَقْعِ خُطُواتِهِمْ
بَيْنَ الطُّرُقاتِ
يَرْتَقونَ الْأَحْزانَ عِنْدَ مَحَطَّةِ البَاصِ
يَتَسابَقونَ
لِأَخْذِ مَكانٍ قَبْلَ أَنْ يَسْرِقَهُمُ الْوَقْتُ
مُثْقَلِينَ بِالْحَياةِ وَالْخَوْفِ
عَادَةً .. هَكَذا هُمْ كُلَّ صَباحٍ !
يَقْتَفُونَ أَثَرَ رَغِيفِ الْعُمْرِ
مُبَلَّلِينَ بِالْعَطَشِ
لَنْ تَكْفِيهِمْ شَمْسُ هَذا الصَّباحِ ؟
لِيَرْتُقوا جُيوبَهُمُ الْفارِغَةِ
وَلِأَنَّهُمْ طَيِّبٌونَ جِدَّا
سَاذِجُونَ …
يَسْرِقونَ الْفَرَحَ
لِيَلْعَبوا لُعْبَةَ الْحَياةِ
الَّتِي نَتَسابَقُ كُلَّ صَباحٍ عَلى بَابِها
مَنْ مِنّا سَيَصِلُ مُتَأَخِّراً ؟
مَنْ مِنّا سَيَتَعَلَّم ُ كَيْفَ يَشْرَبُ نَخْبَ الْمَوْتِ وَالْحَياة
فِي كَأْسٍ وَاحِدَة ٍ؟
لِيَتَذَوَّقَ طَعْمَ السُّكَّرِ
تَارِكاً وَجْهَهُ مُلْقًى
فِي الْمَحَطّاتِ …. وَ الطُّرُقاتِ
عَلى مَقاعِدِ الْبَاصِ…. وَالتَّاكْسِي
وَعَلى حَافَّةِ الرَّصِيفِ
مَنْفِيٌّ فِي الْفَراغِ
الَّذِي يَدُورُ حَوْلَ جَسَدِه ِ …..
جَسَدُهُ الَّذِي يَخُوضُ حَرْباً
مَعَ أَشْباهِهِ كُلَّ صَباحٍ
يَمْتَطِي حِصاناً أَعْرَجَ سُرِجَ
عَلى سَاعاتٍ الاسْتِقَاظِ
اَلْعَمَلُ … اَلرَّكْضُ … اَلْمَلَلُ…
اَلنَّوْمُ….اَلْخَوْفُ…
لِيَحْمِلَ أَوْجاعَ اَلْإنْسانِ فِي الْكَوْنِ .
—
– تمهيد: الشعر كأداة وجودية:
إن نص “الرقص على الجراح المكشوفة” للشاعرة ثورية الكور هو انزياح جمالي عن القول التقليدي، وبوحٌ تشكيليّ نابض يتّكئ على الحزن بوصفه طاقة رؤيوية. هو ليس مجرّد سرد شعري، بل نسيج سردي شعريّ يُعيد إنتاج الواقع في مشهدية تخترق جدران الإدراك. وهنا يحضرنا قول باشلار: “الشعر هو اللغة التي تسترجع الحلم الذي أضعناه”.
– المنهج البنيوي – تحليل الشكل والنسق
يبني النص معمارَه على ثنائية الحزن/الحلم، الحضور/الغياب. ويفتتح بصورة غرائبية: “أغزل الذكريات على حبل الغسيل”، حيث تتحول الذكريات إلى ملبوسات تُعرض في العلن، بينما يُفكّك الغسيل وظيفته المألوفة لصالح التعرية العاطفية. اعتماد الجملة الفعلية يولّد إيقاعاً متسارعاً، يحاكي لهاث الحياة اليومية.
التركيب الإيقاعي مرن، يعتمد على التكرار (“أعدّ… أعدّ”)، والتوازي النحوي، ليعكس التكرار العبثي للحياة. القصيدة تنفتح على مفاصل الزمن وخرائط الحزن.
– المنهج السيميائي – قراءة العلامات
“محطة الباص”، “خيط العمر”، “رغيف العمر”، “كأس الموت والحياة”، جميعها علامات مشحونة بدلالة وجودية. محطة الباص هي معبر الزمن، والرغيف ليس غذاء الجسد بل استعارة للكرامة المهدورة. الصورة المعلقة على الجدار هي للرجل الغائب/الحاضر، وقد تحوّلت إلى أيقونة ألم.
السيمياء هنا تُظهر الإنسان في صراعه الأبدي، كما في عبارة: “يمتطي حصاناً أعرج” – صورة تجمع بين البطولة المبتورة والهزيمة اليومية.
– المنهج النفسي – تداعيات الداخل
القصيدة تنزف من وعي أنثوي مثقّل بالخذلان، تمارس الشاعرة طقس التطهير النفسي عبر اللغة. “أقشّر أحلامي اليابسة” تعبير عن فشل الخصوبة الرمزية، واستبدال الأمل بحسرة محسوسة. النص لا يروي فقط، بل يعالج الذات عبر الكتابة، كأنها تكتب لكي لا تنهار.
– المنهج الاجتماعي –استبطان الطبقة والهوية:
تمثّل الشاعرة هنا صوت الجماعة المرهقة. “يقتفون أثر رغيف العمر” تصوير بليغ لفئة مسحوقة، تركض خلف المعاش، خائفة من الوقت، مثقلة بالخوف. النص يُشبه مجازياً الكائن المعاصر: عامل/موظف/إنسان تتكالب عليه شروط البقاء.
– بلاغة الصورة وتكثيف المجاز:
الصور متوالدة من بعضها البعض. من صورة الغسيل إلى الرغيف إلى الحصان الأعرج، كلها تسافر في حقل دلالي قوامه الانكسار والتكرار. المجاز هنا لا يزيّن بل يُفكّك الواقع، كما في قولها: “يسرقون الفرح ليلعبوا لعبة الحياة” – إذ تتحول الحياة إلى لعبة قسرية.
– قيم النص الفنية والرمزية:
اللغة: متوترة، مشحونة، بسيطة في ظاهرها، عميقة في باطنها.
الإيقاع: مرن، يتكئ على التكرار والتقطيع البصري، مما يولّد تنفساً سردياً داخلياً.
الموضوع: وجودي، لكنه ينسحب على الجماعة دون أن يفقد فردانيته.
– ختاما:
لغة النص تنفتح على التأويل، وصوره تنتمي إلى الشعر العالمي الجديد، وتقاطعاته الوجدانية تتماس مع تيارات الحداثة وما بعد الحداثة.
كما يقول رولان بارت: “الكاتب العظيم هو من يترك فجوات يملؤها القارئ”، وهذا ما تفعله ثورية الكور. نصها ليس شعراً فقط، بل اقتراح لرؤية، وتوقيع أنثوي على جدار الحزن الإنساني.