
تبدأ القصيدة بتحديد زمني دقيق: “السابعة صباحاً”، وكأن الذات الشعرية تُحاصر نفسها عمدًا داخل لحظة يومية شديدة التكرار. هذا الزمن الذي يفترض أن يكون لحظة انبعاث، بداية، انفتاح على العالم، يتحوّل في النص إلى مشهد من الرتابة الوجودية، حيث “كوب قهوة” و”طريق يلتهم المسافة”، في صورة تختزل الحياة اليومية في طقس ثابت لا يحمل وعدًا بالتجدد.
في هذا السياق، تصبح فكرة التكرار مركزية: “التكرار يحجز موعدًا لصباح آخر”، ما يعني أن الزمن يعيد إنتاج نفسه في شكل دائري، خالٍ من الدهشة، حيث لا جديد إلا التكرار نفسه. هذا التكرار لا يُنجب سوى ماضٍ يعيد نفسه، وذاتًا محاصرة في ما يشبه فخ الزمن والعادة.
إزاء هذا الإحساس بالرتابة، تبرز حركة داخلية مناقضة، حركة رفض وتمرّد، تتجلى في العبارة: “لنركض هذا الصباح نكايةً في الحظ”، وكأن الذات تحاول أن تخلخل الإيقاع، أن تُحدث شقًّا في هذا النسق المغلق، أن تعلن تمرّدها على قدرٍ يُفرض عليها ببطء وقسوة.
يمضي النص ليرسم مشهدًا داخليًّا متخمًا بالخسارات، فـ”الوقت فوق الكراسي يضبط أسماء الجروح والمخاوف”، وهي صورة ذكية تختزل لحظة الانتظار أو الفراغ كحيّز يُرصد فيه الألم، وتُسجَّل فيه الخيبات. فالكراسي هنا لا تحيل إلى راحة، بل إلى لحظة ترصُّد، إلى طقس إداري بارد تُفرَز فيه الجروح وتُعنون المخاوف. ثم تأتي عبارة “العمر يرقص ويعد خيانات الرفاق المتعمدة” لتكثّف شعورًا بالخذلان من جهة القريب، من جهة من كان يُفترض أن يكون سندًا. إنّها رقصة ساخرة للعمر، تُؤدى على إيقاع الخيانة.
رغم هذا الانكسار، تعود الذات الشعرية لتستجمع شتاتها، وتدعو إلى الفعل: “لنركض”، “لنحمل أعمارًا جديدة تحت الشمس”. هنا يظهر الأمل كفعل إرادي لا كتوق عابر، وكأن الشاعرة ترى في الحركة -حتى وإن كانت عنيفة أو فوضوية– وسيلة للنجاة من ثقل الزمن ومن غدر الذاكرة.
ذروة القصيدة تتجسد في الاستعارة الكبرى: “الحياة امرأة مشاغبة تراقب من بعيد، تفكر كيف تنصب فخاً”. هذا التوصيف يُحوّل الحياة من مجرد مجرى كوني إلى كائن حي، أنثوي، فيه الإغواء والمكر والحضور الغامض. فالمرأة هنا ليست موضوعًا تقليديًا، بل بنية رمزية للحياة ذاتها، بما تحمله من فتن ومكائد ومباغتات. هذه المرأة/الحياة “نبتت زهرة على خدها”، أي أنها لا تخلو من جمال، لكنها تخبّئ في قلبها “جرحاً غائراً”، ما يجعل كل جمال فيها مرهونًا بالألم، وكل إغواء مشروطًا بالخطر.
بهذا الشكل، يتحول النص إلى بنية مغلقة على نفسها، يتداخل فيها الشعري بالوجودي، والرمزي بالحسي، بحيث تصبح كل صورة مرآة للأخرى، وكل لحظة امتدادًا لما سبقها. الصور لا تُستهلك في ذاتها، بل تكتسب معناها ضمن شبكة العلاقات التي تنسجها القصيدة من البداية حتى النهاية.
من حيث اللغة، لا يعتمد النص على إيقاع كلاسيكي، لكنه يتكئ على موسيقى داخلية نابعة من توزيع الجمل وتراكم الصور والانزياحات الدلالية. كما تتكرر بعض البُنى النحوية لتمنح النص إيقاعًا خافتًا لكنه مستمر، مثل: “لنركض… لنحمل”، مما يخلق وحدة عضوية ويؤسس لإيقاع تصاعدي ينتهي بإعلان الحياة كخصم أنثوي ذكي لا يُواجه إلا بالحذر والعناد.
في الختام، يمكن القول إن “السابعة صباحاً” ليست مجرد لحظة زمنية عابرة في حياة امرأة، بل هي صورة مكثفة عن الوجود نفسه، عن تناوب الجمال والخيانة، التكرار والتمرد، الرتابة والركض، الخذلان والأمل. إنها قصيدة تنبض بالحياة كما هي: فوضوية، غامضة، مؤلمة… ومغرية في آن.
النص :
السابعة صباحاً بقلم: ثورية الكور/ المغرب
السَّابِعةُ صَباحاً
كُوبُ قَهْوةٍ ،
الطَّريقُ يَلْتهِمُ الْمَسافَة
التِّكْرارُ يَحْجزُ مَوْعداً لِصَباحٍ آخَر ،
اَلْوقْتُ فَوقَ الْكَراسِي يَضْبِطُ أَسْماءَ الْجُروحِ والْمَخاوِفِ
اَلْعمْرُ يَرْقُصُ ويَعُدُّ خِياناتِ الرِّفاقِ الْمُتَعَمِّدَة
لِنَرْكضْ هذا الصَّباحَ نِكايَةً فِي الْحَظِّ
لِنَحْملْ أعْماراً جَديدَةً تَحْت الشَّمْسِ ،
اَلْحَياةُ اِمْرأةٌ مُشاغِبَةٌ تُراقِبُ مِنْ بَعِيدٍ ،
تُفَكِّرُ كَيْفَ تنْصبُ فَخّاً
عَلى خَذِّها نَبتَتْ زَهْرَةٌ
وَ في قَلْبِها جُرْحٌ غائِرٌ ،