منذ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها؛ ظهرت معها عشرات الأسماء النسوية ـ تحديداً ـ التي نشرت المئات، بل الآلاف من النصوص التي لم يُحددن أجناسها وإنما تركن الأمر عائماً، وإن أضمرن ـ حسب ظنّي ـ الدخول في مملكة الشعر العاجّة بالشعراء، منذ عصر ما قبل الإسلام إلى يوم الناس هذا، ولِمَ لا ما دامت المشاعر الإنسانية تضجّ في أعماق كل كائن بشري مع ما يرافقها من أحاسيس وتأملات وعواطف، وتدفع لإخراجها إلى العلن بلا تردد من جهة، ولا تجد ما يمنع قبول تلقّيها أو عدمه ما دامت الأمزجة وعوامل التلقي مفتوحة للجميع وأمامهم، من جهة ثانية.
من هنا أتاح الجنس الأدبي الذي أخذ مصطلح (قصيدة النثر) في السنين الثلاثين (العقد التسعيني من القرن الفائت فالعقدَين الفارطَين من هذا القرن)، هذه الانطلاقة لفيض المشاعر والأحاسيس النسوية، بغض النظر عن مشاعر الرجال الذين اتخذوا من هذا الجنس الشعري وسيلة لإطلاقها والتعبير عبره عن أحاسيسهم، والذين نجح كثيرون منهم ـ هنا في العراق وبقية البلدان العربية ـ في الإمساك به بقوة، حتى لقد تجاوز عديدون ممن أعرف من أصدقائي الشعراء، شعراء كثر ظهروا في أواخر العقد الخمسيني من القرن الفائت؛ عدا عن اسمين أو ثلاثة ممن حفروا أسماءهم عميقاً في ميدان هذا الجنس الشعري، لا أجد بي حاجة هنا للخوض في تفاصيل صارت معروفة.
ما دفعني إلى هذه المقدمة الموجزة؛ إنني ـ شخصياً وكثيرون غيري بلا شك ـ صرنا نتوقف أمام نصوص من قصائد النثر النسوية تحديداً، فيها ما يُثير الدهشة والإعجاب حدّ الانبهار بها أحياناً، وفيها ما لا يعدو أن يكون محدود الشاعرية، بل يندرج ضمن ما أطلقت عليه في عتبة قراءتي (العواطفيّة الساذجة)، وترتضي ناشراتها اللواتي تجاوزت أعدادهن العشرات، سفح مشاعر وأحاسيس لا تتجاوز موضوعة الحب ولواعج القلب، وإن أراد عدد غير قليل منهن “زحزحة” هذه الموضوعة قليلا، فحاولن اعتماد تركيبات لغوية معقدة ـ بدعوى “ارتكاب” الغموض ـ وفي ظنهن أنه سبيلهن الأمثل لبلوغ “الشعرية” المطلوبة لتحسين مستوى نصوصهن، فإذا بهنّ يُضفن مظاهر ابتعاد عن ميدان الشعر، فضلاً عما يقعن أو وقعن فيه من أخطاء لغوية وإملائية مرفوضة، سواء عن وعي مسبق بأن اللغة السليمة (العربية بالذات) مادة الشعر الرئيسة، أم عن عدم وعي بهذا بعد أن وجدن لنصوصهن المتخلخلة فنياً ولغوياً مصفّقين يُماثلونهن في سوء الفهم السليم للشعر، أو انسياقاً وراء أغراض خارجة عن شؤونه الحقيقية.
والآن؛ ما شأن قراءتي هذه للشاعرة المغربية ثورية الكور تقدّم؟!
إنه باختصار التقاطي من هذا الكم الكبير من النصوص المندرجة في هذا الجنس الشعري، وجدت في نصوصهما اختلافاً يستحق التوقف عليه وتبيانه، أوجزته بنشرها هموماً تضج بالعواطف ولكن لا المقتصرة على الحب ـ غزلاً أو شكوى من الحبيب البعيد… إلخ ـ بل على شؤون فيها الاجتماعي العام، وعلى شؤون بيتية أنثوية تكاد تبدو مباشرة، لكنها تدفع بالنثرية الباهتة بعيداً وتُمسك بالشعرية وتقترب منها، لا يخلو عدد منها من عناصر سردية، كنت سأتجاوزها هنا لولا توقفي على رأي نابه نشره قبل أيام الصديق الدكتور أحمد ناهم على صفحته في فيسبوك، جعل عتبته (ولادة قصيدة النثر القصصية)، وذكر أن هذا الجنس “يحمل عناصر قصيدة النثر وعناصر الأقصوصة” في الوقت ذاته، وأضاف :”فخصائص قصيدة النثر متمثلة في الاختزال والغرابة والإيقاع المتواتر والمفارقة والاكتناز والكثافة، فضلاً عن خصائص القص كالزمان والمكان والحدث والسرد والوصف والرؤية …”، مشترطاً التكامل على المستويين الشكلي والمضموني في النص (بيان شعري ـ 17 / 6 / 2024)، وهي شروط تبين لي أن ناقداً فرنسيا سبق أن أكدها ونقل عن أسماء كبيرة كجاكوبسون وسارتر ومدام دو ستايل وكثيرين غيرهم، آراء وتحليلات تتوافق كثيراً بهذا الاتجاه أو ذاك مع ما جاء في منشور الدكتور ناهم. (ميشيل ساندرا، قراءة في قصيدة النثر، تر : أ. د. زهير مجيد مغامس، دار المأمون للترجمة والنشر، وزارة الثقافة، بغداد 2012، صص 43، 55، 72، 145).
—
ثوريّة الكور :
وهذه شاعرة من المملكة المغربية، أصدرت ـ مثلما ذكرت على صفحتها في الفيسبوك ـ ثلاث مجموعات شعرية شُهرت بأولاها (هديل الحمائم) بعتبته الأولى الأخرى (شاميدوريا)، التي صارت لقباً مرافقاً لاسمها، وقد اتسمت نصوصها غالباً بنقل هموم فقيرات النساء في مدينتها، فضلاً عن هموم شخصية تتعلق بآثار التقدّم في العمر على ملامح وجهها، على الرغم من عدم تجاوز سنها العام الأربعين، وهما موضوعان أوجبا اعتماد خصائص السرد والشعر في نصوصها، ولاسيما الطويلة إلى حدٍ ما منها، فضلاً عن ندرة اهتمام شواعر كثيرات شغلهن موضوع الحب وحده ـ مثلما تابعت هذا شخصياً ـ من دون أن يعني قولي آخريات كثيرات أيضاً أوقفتني على نصوص مدهشة مغايرة، نشرت عدداً من قراءاتي لنصوصهن، في مجلات ثقافية عربية ثم في كتابي (سحر التلقي ـ قراءات في الشعر/ ج2) الذي أصدرته في العام الفائت.
تقول ثوريّة في أحد نصوصها التي استوقفتني :”هكذا صرخت امرأة في الحافلة هذا الصباح توقفوا لاُعيد ضبط وجهي في المرآة/ وأتّجه نحو طاولة المطبخ/ لقد تعبت من مدّ ذراعي./ على نوافذ الطريق أمشي بلا روح/ بقدمٍ متورّمة للعبور إلى الحلم/ الذي يلتهمني مع قطعة حلوى وكأس باردة،/ اُطلّ من نوافذ العمر على الأمس،/ وحيدةً أضحك في وجوه العابرين/ أرثي خيط التجاعيد الذي تشكّل على جسدي./ ثمة أحزان لا يكتبها الشعراء/ بل يُدخنونها بإفراط/ كي لا يحترقوا!/ وتتزاحم في جيوبهم قصائد منتحرة!”(!)
وبمثل هذا الهمّ الأنثوي تفتح الشاعرة نافذة نفسها أمام المتلقي، فيقرأ :”لديّ ما يكفي من الشامات على جسدي/ لأرمم كل هذا الخراب الذي بداخلي/ على يدي اليمنى شامتان/ على وجهي ثلاث شامات/ ساُغلق بها ثوب الذاكرة/ قبل أن يشعّ ضوؤها في المرايا المتكسرة تحت أقدامي/ واُدرّبها على ابتلاع كل التجاعيد/ التي ستظهر على وجهي/ وجهي الذي نسيتُه معلّقاً في المرآة/ وأنا اُصفّف شَعري منذ عام وأكثر”(!)
ومن بين نصوصها القصيرة التي استوقفتني، نص جريء قدمت فيه همّاً عامّاً قلّما التفتت إليه شاعرة، بل لم يُعنَ به الشعراء الذكور حتى، يدخل في هموم مَن يندرجن تحت وصف (نساء الأرصفة)، وهو همّ نسوي اتخذت منه ثيمة لعدد من نصوصها، ربما لدواعي “الانتصار” لهن حسب مثلما أظن، أحسب أن النص الذي سأنقله هنا سيختصر كثيراً مما تبنّته الشاعرة فيه :”امرأة تتوسد روحها المقابر/ تتوسّل إلى الله/ تخبره بأن الأجنّة التي تضع الجنة تحت أقدامها/ أسقطتهم./ كانوا من رجال لا تعرفهم/ تقف على باب التوبة/ تدعو الله أن يُدخل العاهرات الجنة”(!!!)
وما التقطته لهذه الشاعرة المغربية مما نشرته أخيراً؛ نص شعري مهم يعرض لما يتعرض له أهلنا في غزة، من مجازر على أيدي مجرمي الحرب الصهاينة، لم تشأ له أن يغرق في المباشرة الفجّة إذ ينطلق من هذه النافذة، التي غالباً ما تضيق أمام الشعراء، لذا نجحت في توجيهه على النحو الآتي :”الطفلة التي تدور حول الشجرة/ تمشي على أطراف أصابعها المبتورة/ كي لا تجرح الورد./ ستُزفّ هذا المساء في غزة/ لا أحد من الاخوة سيحضر العزاء/ الليل أعرج/ النساء يزغردن بصوت مبحوح./ المرأة التي نسجت من خيوط الصوف خيمة/ ونصبتها للعزاء/ لذلك ينوح الحَمام في رفح./ الرجل الذي نصب خيمة في العراء/ سقط بلا ملامح/ محلّقاً بعينيه في سماء فلسطين”(!!)
وقد وجدت من المناسب أن أتوقف على نص آخر لها طويل إلى حدّ ما، توجّه فيه خطاباً مؤلماً إلى الله سبحانه، بدأته بـ :”أنا امرأة أصابني مسّ من شيطان الشِعر يا الله/ في بريدي لكَ عدة رسائل/ سأحملها معي هذا المساء / وأجلس قرب البحر/ أقرؤها بصوت مرتفع./ هل ستسمعني يا الله قبل أن أنطفئ؟…”، وختمته بنداء واصلت به خطابها ـ الرجاء بشأن محنة الشعراء :”يااا الله/ أنا مثلهم أكتب الشعر/ أتحدث إلى السماء لكي أتحرّر/ أكتب اسمي على أوراق السفر/ وعلى سيقان الشجر/ أنا مثلهم يا الله/ أصابني مسّ من شيطان الشِعر”(!) وكأنما لتعبّر عن هذه المحنة المنغلقة أبداً، التي لا يرجو الشعراء ـ حيثما كانوا ـ أي أمل في أن تنفتح أبوابها أو نوافذها أمامهم،