لم تعد فاطمة قادرة على كتم مرضها.. اليوم قررت أن تخبر العربي بأنها لابد أن تذهب للمستشفى.. حالتها لا تُطمئن.. تعرف بأن دخله لا يسمح لها بأن تزور طبيبا خاصا.. أجرة الطبيب، وأثمنة الأدوية، وأجهزة الفحص، يلزمها مال قارون..
وقفت أمام النافذة تراقب الأطفال يلعبون في الزقاق.. تذكرت عندما كانت طفلة، تقفز مع لعبة المربعات، وأحست بإحدى أسنانها الأمامية تكاد تسقط.. عادت إلى البيت، وشكت الألم لوالدتها.. تفحصتها الأم، ثم نزعت السن على غفلة، وطلبت منها أن تخرج إلى فناء البيت، وتنظر إلى السماء، وتُلقي بها الى الأعلى، وتقول للشمس:
ـ أنا اقدم لك سن الحمار، وأنت امنحيني سن الغزال؟!
كادت تسقط دمعة من عينيها..
عادت إلى المطبخ.. ظل ألم الاختناق يجثم على صدرها.. في المساء عندما أخبرت العربي طلب منها أن تذهب رفقة أخته ليلى التي يمكن أن تساعدها في التعرف على مرافق المستشفى لأنها زارته من قبل..
بعد يومين استيقظت باكرا.. نصحتها ليلى بألا تنسى بطاقة التغطية الصحية..
المستشفى كبير.. وهي تنتظر ظهور ليلى بين الفينة والأخرى، لم تتخيل بأنها ستجد هذا المحشر من البشر الذي يشبه يوم القيامة، كأن البلد كله مريض.. بعد نصف ساعة جاءت ليلى، وطلبت منها أن ترافقها.. احست وهي تقتحم الزحام من الباب الخاص بالمرضى كأن وحشا يشبه الغول يفتح فمه ليبتلعها..
سألت ليلى إحدى الممرضات عن الجناح الخاص بأمراض الصدر، فأشارت عليها بأن تصعد السلم، وتدور على اليمين ثم اليسار، وتسأل هناك.. مضى أكثر من نصف ساعة، وهما تبحثان عن الجناح، وعندما وجدتاه تفاجأتا بطابور كبير يحتج أمامه على الكاتبة المسؤولة عن النظام.. ربما أدخلت مريضة قبل أن يحل دورها.. سجلت فاطمة اسمها في المكتب المجاور، وطُلب منها الانتظار.. الوقت يمر بطيئا..
فجأة توقف الدخول إلى مكتب الطبيب عند الساعة الثانية عشرة بعد الزوال.. عندما سأل البعض لماذا توقف الدخول، قيل لهم بأن الطبيب ذهب لإجراء عملية في الجناح الخاص بذلك، ولا أحد يعرف متى سيعود..
مر أكثر من ثلاث ساعات، وبدأ المرضى يتضايقون.. البعض أحس بالجوع، والبعض لازال ينتظره جحيم العودة إلى البيت في حافلات النقل العمومي..
سمعت فاطمة امرأتان تتحدثان بصوت ضعيف.. قالت إحداهما للأخرى:
ـ لو كنت أملك سلطة لفاجأت الآن هذا الطبيب الذي ننتظر بركته، يعمل في العيادات الخاصة أكثر مما يعمل في المستشفى؟!
أجابتها الثانية كأنها متيقنة من صواب رأي صاحبتها:
ـ المسؤولون متواطئون مع أرباب المصحات، لذلك يقدمون أجورا هزيلة لموظفي الصحة حتى لا يستقبلوننا بشكل لائق..
أضافت المرأة الأولى:
ـ أغلب أجهزة الفحص في المستشفيات العمومية فاسدة، ولا تعمل حتى ولو كانت جديدة، كأن الجن من عطلها.. الله يأخذ فيهم الحقّ!..
الشهر الماضي مررت رفقة زوجي بالشارع الكبير، فاصطدمنا بحشد من الناس يتظاهرون ويرددون: “هاد الدولة فاسدة”.. حكى لي أن صديقا له، لما أراد إخراج أمه من إحدى المصحات طلبوا منه أداء الفاتورة أولا.. قدم لهم شيكا بالمبلغ المطلوب، فرفضوه، صرخ حتى تعب، وفي النهاية جاء لهم بالمبلغ نقدا رغما عنه.. أتعرفين لماذا؟
ـ أجابت المرأة الثانية بدهشة، وهي تنتظر الجواب:
ـ لا.. ومن أين لي أن أعرف!
ردت المرأة الأولى بابتسامة:
ـ قال ابن المريضة لزوجي: أولاد الكلب يتهربون بهذه الطريقة من أداء الضرائب؟!
ثم أخبرت صديقتها بأن من أراد أن يُعالج في المستشفى لا بد أن يتوسط له مسؤول كبير، أو عليه أن يسقط أرضا، ويتظاهر بأنه فقد الوعي، وسينقلونه رغما عنهم إلى المستعجلات.. هذه هي الحيلة الوحيدة التي يمكن أن يستقبلك فيها الطبيب من غير وسيط أو طابور أو انتظار؟!
في المساء رجعت فاطمة الى البيت خائبة.. وعدتها ليلى بأن تعود معها في الغد.. ركبت الحافلة جلست بجانب امرأة مسنة.. وهي تنظر من النافذة إلى الأضواء وضجيج المارة في الشارع، استعادت حديث المرأتين.. قالت لنفسها والمرارة تعتصر قلبها:
ـ كل هذا يحدث في البلد يا فاطمة، وأنت في دار الغافلين.. يبدو أن التغطية الصحية مجرد تمثيل في التلفزيون..
أخرجت البطاقة من الحقيبة، وفحصتها كأنها تراها للمرة الأولى:
ـ هذا اسم زوجك وصورته، وخلفه اسمك. وهذه صورتك.. والختم بالمداد الأزرق.. والمادة من البلاستيك وليس الورق.. البطاقة صحيحة لا شك فيها.. لكن أمام ذلك الحشد والطبيب الذي خرج ولم يعد، والأجهزة الفاسدة التي تحدثت عنها المرأتان لا يبدو أنك ستستفيدين من أي علاج لا اليوم ولا غدا؟!
مراكش 29 / 07 / 2025