تشكّل قصصُ (شواهدُ الأشياء) ـ إصدارات جيم، البصرة 2007 ـ للقاصّ الراحل باسم الشريف، بنى نثرية لعوالم البحر ومرفأه شطّ العرب، بمكوّنات سردية لها أنساقٌ تُشاكِلُ المدَّ الموجيَّ وإيقاعَه. مدوّنات قائمة بين تخوم الشعر والنثر، اتخذت من الحنين موضوعاً لها في صيرورة خطابها ومبناها ومحمولاتها المكتظّة بالإيحاءات.
ضمّت المجموعة ثماني قصص متوسطة الحجم في اثنتين وتسعين صفحة، مجموعة صغيرة بحجمها، قليلة بنصوصها، لكنها واسعة بعالمها البحري. والبحر ـ بما يُمثِّلُ من اتساع الحياة وكونه المائيَّ البعيد ـ حاضرٌ طاغٍ يحتضن أرخبيل موانئ البصرة بموجودات السفن المحطَّمة والراسية، وبساتين الجزر، وبيوت السواحل الطينية، وحيوات الماء، وزوارق المهرّبين، وصيّادي الأسماك، وأشباح الغرقى، وأشياء أخرى عتيقة مشبعة بالذكريات والتواريخ والأزمنة. وكلّ ما يعنيه الماء من دلالات تتعلّق بأصل الخلق والنماء وديمومة الوجود.
واللافت للنظر منذ البدء أنّ الطبيعة، بصورها التي رسمها القاصّ في مدوّناته ونمت لوحاتها بجمالية وعمق بصري، تطلّ علينا أحياناً عبر انثيالاتِ مخيلةِ السارد، لا من سياق مجرى الأحداث. ينطلق من حُلمِ يقظةٍ، يُرحِّلُ الحاضر، يمزج الصور الواقعية بالأخرى المتخيّلة، ويشكّلها كتابةً، يردّ إلى ماضيه وخزينه الحياتي. كلّ شيء في عالمه يلتفت إلى الوراء مستدعياً حنيناً إلى ما مضى، حنيناً يُؤنِسُ الذاكرة ويُؤرِّقُها.
ويقول:
«ذاكرتي تُفاجِئُني دائماً وتجتذبني ممالكها الشاسعة: مدنٌ وتواريخُ وأحداث، متاهاتٌ هُلاميّة من أشكال وهيئات ما عادت تؤولُ إلى شيء، سوى ضروبٍ من رموز وطقوس جامحة ما انفكّت تُطارِدُني».
السارد يُقَلِّصُ الحاضر ليُعطي للماضي انفتاحَه الذي استأنسته الذاكرة المتوهّجة بالحنين الذي لا يُستَبدَل ولا يهدأ: إلى بيته القديم، فتوّته الضائعة، ضفاف الأنهار، روائح البساتين، زهور الماء اللامعة، وشواهد كثيرة تغني وتتكلّم في داخله وتتراءى طريةً خلف أسوار الذاكرة. فالماضي في مسروداته يكتسب الحياة ويمسي حاضراً.
وعنوان المجموعة (شواهدُ الأشياء) يوحي بقوة للأشياء وشواهدها، خشية أن يغيبها النسيان الذي يسعى القاصّ للتحرر من سطوته. لذا حمل السرد نمطين من الاستذكار: تداعي الأشياء وتداعي الذكريات، لأناس وحكايات وصور وأساطير وفضاءات تمثّلت بزخم حضورها الإنساني. وقد مزجها القاص كمتون سردية مع مرتكزات بنى النص الأساسية، واستخدمها أقنعةً ووسائلَ تعبيرية تسهم في صنع النص وتحديد ملامح النسق السردي وحركته الداخلية.
فنصوص باسم، مثلما هي أسفارٌ في الحادثة القصصية، فإنها أسفارٌ في الحُلمِ والتخييل؛ بغية تحويل ثيمة الواقع، وإيقاظ الوعي لإحضار الشواهد الحية في وجدان بطله الحالم، الباحث عن رؤى الطفولة البعيدة: سكون البساتين ودروبها الضيقة الظليلة، أشباح المساءات، وغابات النخيل، حكايات الأمّ وإيحاءات طقوسها وخرافاتها وبراءة معتقداتها، وأشياء أخرى تلتقطها الذاكرة قبل أن تتوارى في أفق النسيان. فيتفتّت الزمن كأنّنا في أجواء صوفية، حيث يبقى البطل:
«ملتحماً بحالاتِ ظلٍّ مشدوداً إليها، متشبثاً بذيول أزمنةٍ خلت، أزمنةِ صَحبٍ تقاسموا الموت مثلما تقاسم الآخرون منهم الغربة والضياع».
دأب القاصّ جاهداً على تقديم رؤية خاصة ونسق أسلوبي له لغته وإيقاعُ نثره. خلق نصوصاً ممهورة بطابع الشعر أو النثر ذابت حدودها الأجناسية، فغدت نثراً مُصفّى، كتابةً حداثية جديدة أزاحت ضغوط الحاضر وما هو ماثل في الواقع، بدافع إقصائه وإدانته، عبر تمجيد الحياة التي خلت وما زالت تحمل وهجها وبريقها في مخزون ذاكرته ومكنون وعيه. فالايغال في الحُلم من قبل “أنا” السارد لم يكن في حقيقة الأمر إلا محاولة لاختزال مجريات الواقع، باستخراج الكامن في متن الموروث وتفجير قواه بما يملك من غنى تتجاوب أصداؤه في نفوس الأبطال.
وهنا يجب الإشارة والتوقف عند جانب يمكن معاينته في تجربة القاصّ باسم الشريف: إنّ شخوصه ـ بالمقدار الذي يرفضون فيه واقعهم المعيش ـ يستدعون واقعاً بديلاً يثقل أرواحهم مفعماً بمادة الحياة وسحرها، يتسع إلى الحد الذي لا يُخامِرُنا شكٌّ فيه بأنّ هذا الواقع الآخر قد امتلك حضوراً جلياً يوشك أن يُوهِمَنا أنه حقيقة. وهذا ما يؤكد أنّ أبطال القاصّ أناسٌ حالمون، يرتحلون في أسفار التخييل، يشدّهم الحنين إلى شواهد ومدن تتراءى في مرايا الأحلام، ويرتحلون مع الماء المرتحل، فهم أبناء الشطّ، يكلمونه ويسألونه، بعضهم ربابنة للمراكب والسفن.
علاوةً على ذلك استند القاصّ إلى تعميق فضاءات قصصه بالموروث الشعبي والقصص الديني والأسطوري، وما تستحضره مخيلة المسافر على متن البحر، وما يملأ أذهان سكان السواحل من حكايات تُتَداول شفاهاً، في عملية توليف للمتن الحكائي وصولاً إلى تحديث النص بمتون الثقافة الشعبية الميثيولوجية، بما فيها حكايات الجدّات والأمّهات كوسائل تعبير. يقول:
«لفحتهُ ظنونُ أمِّه التي كانت ترزح تحت نير مخاوفها، رآها تدفن صدرَها المرصَّعَ بالأوشام نحو السماء، تنساب من بين شفتيها ترنيمات لها واقعٌ قدسي، تنعكس عبر مرايا أرواحها المتلفّعة بالتمائم والأدعية التي كانت تجلبها له مشفقةً عليه بها».
في قصص باسم الشريف تتوهّج الروح المحلية مشيرةً إلى تضاريس وعوالم الجنوب: ميناء البصرة، البيئة المائية، البحر، الصيد، والتأمل الإنساني. نسمع إيقاع الموج ونشمّ رائحة الساحل، لندخل في قلب الأشياء، صوراً رسمها القاصّ بمهارة تشفّ عن انتمائه لهذه البيئة وتنمّ عن خبرته ومعرفته بأسرارها وعوالمها الخفية.
انظر قصص (المسفن)، (مقبرة الدوب)، (المد.. مرايا انعكاسات)، (عوالم جنوبية) وغيرها، حيث نرى بطله ملتحماً بالمياه والأمكنة والأشياء على صعيدَي الواقع والحُلم.
وهكذا، تبدو (شواهدُ الأشياء) مثل أصداء الموج على ضفاف شطّ العرب؛ قصصاً تُمزج فيها الذاكرة بالحُلم، والواقع بالخيال، حيث يظلّ البحر مرآةً للروح، وتبقى الشواهدُ حيّةً ما دام الحنين يفتح أبواب الذاكرة ويُبقي الأشياء نابضةً بالحياة.