تردّد صدى صوت المذيع بين جدران الغرفة الواسعة حيث جلس أبناء أبي جمال بعشوائية عجيبة حول التلفاز، وفي زاوية قصية جلس أبو جمال يراقب عائلته بحب وحنان.
المذيع بصوت متهدج فيه حشرجات مصدور:…وقتل ثلاثون طفلا من طلاب تلك المدرسة…
محمد ابن أبي جمال بغضب: “غيروا القناة، سيبدأ باب الحارة الآن!”
قالوا له: والله يا عم، وقف ابنك محمد بثقة وثبات أمام المعلم، وبلا خوف مدَّ يده، وفتح كفه، ونظر نظرة فيها كثير من التحدي والزهو!
“كيف لا أقف بثبات وطمأنينة وأنا قد فعلت كل ما قيل لي؟ خضّبت راحتي يديّ بدم الحرذون، وغمست أصابعي فيه، ثم رفعتهما وعرضتهما للشمس حتى يجف الدم، ثم غسلتهما بالتراب؟ نعم، أنا فعلت كل ما هو مطلوب، فقد اصطدت حرذونا ضخما أسود من بين صخور الجبل بعد أن أنهى استراحته فوق إحدى الصخور الضخمة…”
تابعت الأفواه المتعجبة المصدومة المستغربة الحديث بجد واندفاع: والله يا عم، مدّ محمد ابن أبي جمال يده، وفتح كفه كما طلب المعلم الغاضب، أمسك المعلم كف محمد ابن أبي جمال وانهال عليها ضربا بالعصا…
طالب بحماس:
“استمتعت كثيرا بعدّ العصي: واحدة اثنتين ثلاث، أربع، خمس، ست…
طالب بحماس: ظل محمد ابن أبي جمال باسم الوجه، وكأن ضربات عصا المعلم القاسية الشديدة دغدغات أو تربيتات كف حنون.
“كلهم رأوا قوتي، وابتسموا وهم يرون وقوفي الشجاع الثابت أمام ضربات العصا المتتابعة الكثيرة وأنا لن أحرك يدي، ولن أحاول سحب كفي من قبضة يد المعلم…
طالب بإعجاب: …ولم تدمع له عين، بل لم تطرف له عين، ولا سمعنا له تأوها…”
خرج المعلم من الصف وهو غضبان آسفا، يقلب كفيه على ما وصل إليه محمد ابن جمال من تمرد ورفض، وعدم إحساس بالعقاب، وتجمع طلاب الصف حول محمد ابن أبي جمال يمدحون بطولته وقوته ليسألوه.
قال لهم بزهو: تدربت كثيرا على احتمال الألم…
لم يصدقوا كلامه على سبب قدرته العجيبة على احتمال ضربات عصا المعلم، وتعسسوا لذلك الأخبار، وبحثوا وتقصوا وبحثوا، فعرفوا أنه قد خضب يديه بدم الحرذون.
تحلّقت عائلة أبي جمال حول التلفاز بشغف ولهفة:
صوت متأنق فيه بحة ناعمة تدفعه المذيعة إلينا بذكاء وحنكة: …وواصل جنود الاحتلال تنكيلهم لشباب القدس على أبوابها، وعلى الحواجز الطيارة التي نصبوها على الطرقات المؤدية إليها.
تابعت عائلة أبي جمال المشاهد المبتورة الحمراء التلفاز بعيون متلهفة مترقبة
محمد ابن أبي جمال: “باقي خمس دقائق لباب الحارة!”
صوت المذيعة وهي تغير من إيقاع عباراتها ونبرة صوتها: سبعة شهداء، وخمسة جرحى…
محمد ابن جمال بجدية صارمة: بدأ باب الحارة بدأ!
أم جمال بعيون دامعة: الله ينتقم…
استفزت محمدا ابن أبي جمال دموع أمه: اقلبيها دراما
استمع أبو جمال بحرص إلى المذيعة وهي تصف ما فعله المستوطنون بعائلة الدوابشة، وتابع صور الدمار والموت التي خلفها الطيران في حارة الياسمين…
نظر إلى ابنه محمد بحزن وغضب، وصوت حزين يتردد في صدره: محمد لم يتأثر، لم يحزن، لم يشعر بأي شيء.
ترك أبو جمال الجلسة الصاخبة المتلهفة المترقبة، وقف ساكنا على عتبة بيته يراقب موكب السيارات التي أطلقت العنان لضجيج أبواقها ليحتل الشارع بزهو مع الصيحات المليئة بالعبث وفوضى المشاعر..
استل روحه من بين الصخب والعنف ولوحات الإعلانات المبرقة وسار حزينا مقهورا بين رصيفين يسيران بمرح وتيه وعينا ابنه محمد تبرقان بفرح ومرح في وجوه كثيرة عابرة لتضعاه فوق نار سؤال ضخم الجثة عريض المنكبين طويل اللسان يتردد في دمه ويرتطم بدماغه، يمسكه من عينيه اللتين حطتا على شاشة عرض كبيرة واسعة جدا عميقة جدا اتكأت على حائط هرم عال، تبث مشاهد شرسة من حياة البراري، مليئة بالحراذين والعقارب …