ظهر من العدم رجل يعرج في مشيته، في أوائل الثلاثينات، متغضن الوجه، أشعث الشعر، عيناه مرهقتان بالسهاد، هزيل البنية، ضامن العضلات، مرتديا قميص بهت لونه وسروال جينز قديم، يتحرك بحذر غير واثق من نفسه، من نظرة الآخرين له بإشمئزاز أو شفقة، عمره فائض بالقبح والقهر، واهن العزيمة، خائب الأمل، كثيرا ما ينسى أنه لا زال يتنفس.
كان همه بعد أن يأكل بقايا الطعام من صحون المطاعم، الطواف الشاق بأرجاء المدينة، بحثا عن مهجع مريح وآمن يحميه من تطفل وعدوانية المترنحين السكارى الذين لا يرون غضاضة في ازعاجه كتسلية لهم وترفيه، مما يحدو به أن يتوخى الحذر والحيطة، فيقضي ليلته مصغيا لهمهمات الريح الكئيبة وهي تصفع بقساوة جسده المرتعش حتى تلوح تباشير الصباح، أحيانا يستكين لغلبة الوسن الطاغي، فيستفيق مذعورا من وقع مطاردة مفاجئة للشرطة، إما بتحريض أحد المارة أو تبليغ حارس، فيبادر بالهرب متفاديا محاكمته بجنحة التشرد، وأحيانا أخرى يبتسم الحظ له فيغفو دون أن يحدث طارئ، فيتشبث بمضجعه كأنه ملتصقا به، وقد تستصعب وضعيته لخشونة المكان الذي رضض جانبيه الأيمن والأيسر، فيعمد لتحريك أطرافه طلبا لدفء يمده بطاقة أنقى ويستشعره بمزاج أصفى.
ذات مساء ممطر، لم يجد بدا من إيجاد سقف يحميه من البلل، قادته قدماه لمجمع سكني مسور وقد انتصب على بوابته حارس متجهم الوجه، تجاوزه بخطى سريعة، ليفضي لمكان خال من أي مرفق، غير سيارة قديمة مرابضة في أقصى ركن منه، بعد معاينتها عن كثب،استوضح أن هيكلها لم يتآكل بعد، أبوابها لم تصدأ، مقاعدها لم تتمزق، زجاج نوافذها لم ينكسر، سقفها لم يتلف، فانحشر بخفة داخلها، وتكور على مقعد بها، أحس بخدر و دوار يكتسحه كأنه على متن أفعوانيةمتحركة، إلى أن استفاق على وهج ضوء النهار.
استبشر خيرا بتلك العربة المهجورة، وتوالى الإقامة فيها، بعد علمه بأمر صاحبها الذي هاجر دون رجعة، من قريبه الرجل الطيب الذي عامله بلطف و توسم فيه الثقة، فاستوصى الناس عليه، بتوليه حراسة سياراتهم، نظير أجر زهيد كارتزاق ظرفي لتدبر شؤونه، مما حفزه لتحويل مقصورتها بعد تأثيثها كغرفة للنوم ونقطة مراقبة لموقف السيارات، فارتقى عبرها من تشرد طويل إلى استقرار مقيم.