لما أعلنت البنيوية مع “رولان بارث ” عن موت المؤلف كان ذلك طرحا جديدا أراد ت به البنيوية وسط زحمة التنظير النقدي الجديد الذي شهد تطور النظرية الجمالية وبزوغ نظرية التلقي من جامعة “كونسانطس” الألمانية ، لتتم إعادة الاعتبار للقارئ الذي ظل مهمشا في الأوساط البنيوية منذ أن أرست الشكلانية طرحها القائم على أدبية النص ، ما جعل البنيويين يقصون كل المناهج السياقية الخارجية ولا يلتفتون بشكل مطلق إلى القارئ ، وتوالت خطابات الموت في النظريات النقدية لتعلن عن موت الناقد في مرحلة لاحقة لما أصابه من اعتلالات منهجية في تعامله مع النص الآخذ في التطور على مستوى الطبيعة ، متجاوزا حدود كونه بنيات لسانية إلى اعتباره أنساقا ثقافية تقوم على ازدواجية الظاهر والمضمر ويتحكم في إنتاجه فعل القراءة الجديد لتنفسح الدائرة أمام النقد الثقافي كممارسة جديدة، ثم بدأت موجة أخرى بدت أخطر من سابقتها تتحدث عن موت النقد، بعد أن تشكل وعي عميق بالأزمة النقدية في العالم العربي ،وعي أدرك أن المركزية الغربية ظلت متحكمة في توجيه دفة النقد العربي من خلال مناهجها وأدواتها الإجرائية وأجهزتها المفاهيمية ومصطلحاتها التنظيرية فظل الاحتكام إلى الفرنكفوني والأنجلوساكسوني واضحا في الممارسة النقدية الأكاديمية وحتى لدى بعض النقاد من خارج أسوار النقد الأكاديمي مع بعض التفاوت في إمكانات الالتقاط والتوظيف ، ما أعاق تلقي النقد العربي الذي ظل سجين المركزية الغربية بكل مكوناتها في محاولة لإسقاط جهاز النقد الغربي من رحم النظرية التي ولد فيها منذ البنيوية وما قبلها إلى الوقت الراهن بما شهدته النظرية من تطورات وتنظيرات جديدة مستفيدة من تطور الدرس اللساني والسيميولوجي ومن الأسلوبية ولسانيات الخطاب إلى النقد الثقافي الآن الذي غدا موضة النقد المعاصر ، وها نحن ننفتح الآن على تصنيف جديد من النقد يتخذ من الإيكولوجيا بؤرة اشتغال محورية ما يدل على حركية النسق النقدي وجريانه المتسارع في ظل ما بعد الحداثة وما تنتجه من مستجدات متلاحقة ، ووسط هذا الخضم ظل النقد العربي يبحث عن نفسه ويلتقط الأدوات من هنا وهناك ، دون التفكير في مرجعية نقدية عربية بعدما ترسخ في وعيه الفصل المنهجي والتاريخي بين النقد الغربي والنقد العربي بحمولته التراثية ليعلن عن قطيعة إبستمولوجية مع التراث النقدي العربي الذي لم يعد صالحا لمقاربة النصوص الحداثية خاصة تلك المتشظية والمعلنة عن الفوضى داخل المتن النصي، فكان من الضرورة للنقد العربي أن يساير التحولات الجارية في النظرية الغربية لتمده بالأدوات التي يحتاجها في الممارسة النقدية ويلتقطها بوعي إبستيمي يؤهله لممارسة نقدية دقيقة وكاشفة.
وفي ظل هذه التحولات توجهت الأنظار إلى الناقد نفسه بعدما توجهت من قبل إلى القارئ عندما أعلن” بارث ” عن موت المؤلف وكأنه فتح النار على الناقد من حيث لا يدري ليبدأ الحديث عن سيناريو جديد لم يسبق إليه وهو موت الناقد وموت النقد خاصة بعدما ألف الكاتب البريطاني كتاب ” موت الناقد” بعدما أرست ما بعد الحداثة شروطها الجديدة على الثقافة والفكر الإنسانيين، وتغيرت أدوات الناقد ومنهجيته في التعاطي مع النصوص في ظل انفتاح النص أكثر على عوالم ورؤى جديدة تغذت بروافد معرفية متعددة منحته ليونته وانسيابيته التي أغنت عن دور النقد بقدر ما أصبح للذائقة القرائية دورها في التأويل والفهم والنقد أيضا ، ما جعل الناقد يفقد دورا محوريا كبيرا كان يؤديه من قبل ، ويتم توجيه النظار نحو القارئ عينه الذي سيضلع بدور النقد وإنتاج النص ليبدأ الحديث عن أنماط القراء في صلب نظرية التلقي من قبيل القارئ المثالي عند إيزر والنموذجي عند إيكو وغيرهما من الأنماط ، ومن هنا سيتم تعويض الناقد بالقارئ الذي سئم من ترديد الأسطوانات النقدية المسيجة بالأدوات النظرية والمنهجية الثابتة والمعقدة والمتشابكة.
إن جماليات التلقي وما أرسته من مفاهيم جديدة للقراءة، فسحت الطريق أمام القارئ معيدة له الاعتبار بعد تهميشه في الأدبيات البنيوية وما قبل البنيوية ليضطلع بدور النقد خارج أسوار النقد الأكاديمي مادام أنه قد تم إحلاله محل المؤلف لتتلاشى الوساطة التي مارسها الناقد من قبل في ظل الفعل الهيرمينوطيقي الممارس من قبل القارئ، فعل تتحكم فيه الثقافة والموسوعية والذائقة ولا تتحكم فيه أدوات النظرية النقدية ولا منهجياتها ولا طرائق تحليلها وتعاطيها العام مع النص، خاصة في ظل التطور الرقمي وما استجد فيه من مواقع التواصل التي توسعت دوائر نشاطاتها عبر إحداث المجموعات والمنتديات والرابطات وغيرها من اشكال التجمع الثقافي والأدبي ، عاملة على خلق تنشيطات جماعية للنصوص سواء إبداعا أو نقدا وهو ما أسهم في خنق دور النقد وحصره في دائرة أكاديمية نخبوية ضيقة ، إذ أصبح النقد خاضعا للانطباعات والآراء الذاتية التي يبنيها القارئ على أسس جمالية وفنية تشكلت لديه وتخزنت فعل قراءات سابقة دون أن يكون على دراية بأبسط أبجديات المدارس النقدية ومناهجها ، ما جعل صلته بالنقد الأدكاديمي تتحطم على أسوار ما بعد الحداثة وتشيد لنفها معمارا جديدا جعل النقد النخبوي موسوما بالمحاباة والمجاملات أحيانا والانحياز البادي لأعمال قد لا تروق القارئ العادي أمرا متجاوزا في مفكرة القارئ الجديد الذي يمارس حقه في الـتأويل المشروع لما يتيحه النص بمفهوم نظرية التلقي من امتدادات ومساحات شاسعة للتأويل.
وحتى نكون منصفين فإن الإعلان عن موت الناقد ما هوـ في نظري ـ إلا موت رمزي استدعته مرحلة ما بعد الحداثة، فرغم المتغيرات الجديدة التي أثرت فعلا على دور النقد ونقلته من المركزية إلى الهامش فإن النقد يظل ذا سطوة وسلطة على النص سواء ظل في حصنه الأكاديمي أو اخترق أسواره صوب القارئ عبر تليين خطابه والابتعاد عن التعقيد والنأي عن فعل المحاباة والتمجيد والإطراء، لأن القارئ الجديد صار يمتلك وعيا نقديا كونته جماليات جديدة أفرزتها الحداثة وما بعد الحداثة، حتى يضطلع النقد دوره كما كان في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ويلعب دور التوجيه والحكم النهائي على الأعمال في محاولة لإعادة الثقة بين الناقد والقارئ فتتكامل الأدوار وتتناغم في إيقاع واحد، إذ لا يمكن للنقد أن يسير عكس التاريخ على نحو رجعي ليؤسس نفسه على الانطباع والذوق كما بدأ ، وإنما لابد له من علمية ومعيارية يرتكز عليها لتمنحه مشروعيته الإبستمولوجية في صلب المعرفة الإنسانية ، فإذا اجتمعت الحكم الممارس من قبل القارئ مع تنظيرات وأحكام النقد العلمي الرصين والمنفتح على مفكرة القراء تكامل الفعلان وحققا المقصد الكلي للنقد ، لذا أرى أن الناقد الأكاديمي ملزم بالانحدار إلى القارئ العربي ليخرج نقوده من دائرتها النخبوية الضيقة فتكون أكثر انفتاحا على القارئ الذي ينبغي له أن يخضع للحكم النهائي للممارسة النقدية الأكاديمية باعتبارها السلطة العليا حين تجمع على عمل ما من الأعمال ، ولابد للناقد في الآن نفسه من الإنصات لصوت القارئ الذي قد يتحول هو الآخر إلى موجه جمالي جديد للنقد لما قد تبوح به القراءة بما فعل يعيد الإنتاج والكتابة.
إن هذا التناغم بين الأدوار هو الطريق الأوحد نحو بعث جديد للنقد في الساحة العربية ودونه سيظل الاستعلاء لغة النقد الأكاديمي يتحرك في دائرة ضيقة النطاق لا تنفتح أبدا ولا تمتد إلى معانقة دوائر جديدة في انحياز الناقد إلى الممارسة التقليدية المسيجة بالمصطلحات والمفاهيم والأدوات الإجرائية الملتقطة من عمق النظرية النقدية الغربية، ما يجعل الهوة سحيقة بين النقد والقارئ الذي يفضل الانطباعات وتحكيم الذوق الجمالي الذي راكمه عبر قراءاته التاريخية، ما يستوجب من الناقد الإنصات بعمق لرغبات القراء واحترام قراءاتهم التي لا تخلو بفعل الدربة والاحتكاك المكثف مع النصوص والنقود من رؤى جمالية أكاد أجزم أنها قد تغيب عن مفكرة الناقد الأكاديمي المهووس بلعبة الاستعلاء في الوقت الذي يمكنه أن ينحدر بنقده إلى القارئ فيحدث ذلك التواصل المفقود وتلتحم الجسور بينهما في سبيل تأسيس مشروع نقدي شديد التفاعل بين كل الأطراف، يمنح النقد حياته ويبعثه من جديد ليؤدي دوره التاريخي الفاعل في الحياة الثقافية والأدبية كما كان عليه من قبل.