توطئة : الضوء كـ “يوتوبيا” ممكنة ومنشودة .
يأتي ديوان “مسارات للضوء” للشاعرة المصرية إيمان إمبابي ليقدم خارطة طريق للذات المعاصرة في مواجهة زمن الخذلان والانكسار. منذ العنوان، تترسخ فكرة الضوء كغاية قصوى و”يوتوبيا ممكنة على الأرض”، وكـ “معراج” روحي للخلاص. الديوان ليس مجرد مجموعة قصائد، بل هو رحلة صوفية ووجودية تتراوح بين وجع الذات السير ذاتي وقسوة الواقع السياسي، معلنة التمرد كشرط لازم لـ “صوغ البعث من جديد”.
تعتمد الشاعرة على لغة شعرية مكثفة ومشحونة ضمن إطار قصيدة النثر، حيث تتجاوز السرد لصالح بناء معماري للصورة يعتمد على كثافة الرمز والإيقاع الداخلي العالي. هذه الكثافة اللغوية تمنح النصوص قوة تعبيرية تتناسب مع حمولة التجربة القاسية التي تنقلها، مستخدمة مفردات ذات رنين عالٍ مثل: “السدم”، “المقصلة”، و”نعيق الصمت”.
تجلي (1): المقصلة والتحطيم… الخذلان كـ “تشييء” للذات
تُعد قصيدة “حينما جَرَّبْتُ المقصلة” الأثر الأعمق لتجربة الخذلان العاطفي في الديوان، حيث يتحول الحب إلى ساحة إعدام رمزي للذات المانحة. تستخدم الشاعرة حقلاً دلالياً عنيفاً ومباشراً: النصل، الجراح الهوجاء، المقصلة، الخواء. إن “المقصلة” هنا ليست مجرد أداة إنهاء للعلاقة، بل هي أداة إعادة تشكيل قسري للذات عبر اختبار الموت والخواء.
تلجأ الشاعرة إلى استخدام الأقنعة لتعميق الإحساس بالجحود، فتتقمص دور الأم الكفيفة: “أنا يا حبيبى / كنتُ يوماً أمَّك الكفيفة / أوزع كلَّ يومٍ خبزَ الحياةِ”، ثم دور الشرنقة الفدائية: “صرتُ أحْلكَ فى شرنقتى / أطعِمُكَ ذاتى / لتخرُجَ للحياةِ بأجنحتى”. هذه الأقنعة ترفع التضحية إلى مستوى القداسة العطاء المُطلَق، الذي قوبل بالخذلان. وفي لقطة حداثية، تستخدم الشاعرة رموزاً ثقافية (أم كلثوم ونجاة) ليصبح صوتهما الكلاسيكي شاهداً ساخراً على المهزلة العاطفية. أما النتيجة النهائية، فهي التثقيب والتشظي: “كلُّ جزءٍ منها ينغرسُ فى جسدى / ويحدث ثقباً / تتسرب منه أشياءٌ / وتدخل أخرى”.
تجلي (2): صرخة المتمرد… بين “بلادة الوقت” و”عنفوان النار”
يتحول الألم الذاتي إلى غضب نقدي عميق في قصيدتي “بلادة الوقت” و “تمرُّد”، حيث تواجه الشاعرة الجمود السياسي والفساد الاجتماعي بـ “عنفوان النار”.
أ. “بلادة الوقت”: نقد الوعي والسلطة المهترئة
تصف القصيدة حالة من الركود الأخلاقي والسياسي. فالفساد يرتفع إلى مستوى التلوث الوجودي، ويتجلى ذلك في التشبيه المركزي لـ سكب “القار” في أدمغة الحكام، ما يرمز لتجميد الوعي وتلويث الفكر. ويُوصف خطاب السلطة بـ “الكلمات المُفَيْرَسَةَ”، في ربط ذكي بين العدوى الفيروسية والخطاب الذي يدعو للخضوع (السجود للصاروخ المستورد).
وتبلغ الإدانة ذروتها عندما تُذكر أن “كل قضايا الأمة / تُناقَشُ فى الأَسَِّةِ”، ما يؤكد أن الخيانة السياسية تزامنت مع انهيار القيمة الأخلاقية، ليصبح التاريخ بأسره “ملوثاً ببلادة الوقت”.
ب. “تمرُّد”: إعلان العصيان وتدمير الشرنقة
تأتي “تمرُّد” لتقدم الحل الثوري لهذا الركود، وهو الرفض المطلق للخنوع. تعلن الشاعرة ترفعها عن مصير “الضحايا المجبولة على الخنوع”، وتبديل الضعف بالشدة: “الكونُ لا يعرف إلا عنفوان النارِ / لا يلتفتُ إلى براءةِ الزهرِ”. يبدأ التمرد بتدمير الذات السابقة عبر “صوغ بعثي من جديد”، ورفض “الشرنقة” التي صارت رمزاً للحبس، والإصرار على خوض التجربة الجديدة بـ “صرخة” تُذيق الصمت “نكهة الانفجار”.
تجلي (3): الغريبة وفعل المقاومة… الانعتاق بالغناء والتحليق
تجسد قصيدة “الغريبة” الذات التي اختارت المنفى والاغتراب كشرط للانعتاق، مؤرخةً بوجعها الشخصي للخيبات العربية الكبرى. الاغتراب هنا ليس سعياً للترف، بل هو ضرورة فرضها “الجرح”، لكنها تصر على التحليق: “أحَلق حتى على أنقاضِى المخنوقة بالسدم”.
تنتقل الغريبة إلى الوعي التاريخي، وتربط اغترابها بـ “حريق القاهرة” و “موت يناير ممدداً”، وتوجه الاتهام المباشر للقيادات التي تلوثت بـ “النفط الملوَّثِ بالخنوعِ والأمركة”. وفي الختام، ترفض الغريبة البكاء، وتعتمد على الفعل الفني الثوري، حيث “لم أبكِ بل أغنى على وتر الحقيقة / وأنفخُ فى بوقِ التمرُّدِ”، ليكون الغناء وسيلة لإرهاب “لصوص الحياة”. إنها تختتم مهمتها بزرع “إقحواناً” يؤمن بـ “أن فى النورِ لُبُّ الحياة”، ليكون هذا العزم هو الإنجاز الوجودي الأسمى للذات المتمردة.
رؤية نهائية : “مسارات للضوء” بين الانكسار والانعتاق
إن ديوان “مسارات للضوء” هو صرخة شعرية قوية تُدين القسوة على المستويين العاطفي والوطني. تكمن عظمة النص في قدرة الشاعرة إيمان إمبابي على تحويل التشرذم والوجع إلى طاقة شعرية متوهجة ترفض السقوط.
النص يدعو القارئ إلى مشاركة الذات الشاعرة في رحلة البحث، عبر كثافة الصور وجرأة الأسلوب، ليثبت أن التمرد هو قرار، وأن “مسارات للضوء” يمكن أن تُصاغ حتى من حطام القلب وخراب الأوطان.
[ بطاقة تعريف بالشاعرة ]
الاسم: إيمان إمبابي
المؤهل العلمي: ليسانس آداب وتربية – جامعة أسيوط (بتقدير جيد جداً)
الأعمال المنشورة:
شعر: ديوان بعض من زوايا الروح (دار الأدهم، 2015)، ديوان مسارات للضوء (دار المفكر العربي، 2020).
النشر الصحفي: نُشرت أعمالها في عدة جرائد ومجلات، منها: الجمهورية، الأهرام، روزاليوسف، سماء عربي.
الأعمال قيد النشر:
شعر: ديوان سنوات رمادية، وديوان صوفي خطوات بلا طريق.
رواية: فراشة في صدري.
المراجع والمصادر:,
1-مسارات للضوء، إيمان إمبابي، دار المفكر العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020.
2-النقد الأدبي الحديث: قضايا واتجاهات (بالإشارة إلى تقنيات قصيدة النثر والرمزية في الشعر المعاصر).
تقنية القناع في الشعر العربي المعاصر (كمرجع لدراسة استخدام الأقنعة كـ الأم الكفيفة وفان جوخ).