ملخص:
تسعى هذه المقالة إلى تحليل العلاقة الجدلية بين أبنية السرد ورؤية العالم في الرواية الحديثة، مركّزة على الآليات السردية التي أنتجت تحولًا معرفيًا وجماليًا في فن الرواية، مع الاستشهاد بنماذج روائية عربية وعالمية معاصرة.
تنطلق المقالة من فرضية مفادها أن بنية السرد ليست شكلًا محضًا، وأن رؤية العالم ليست مضمونًا مستقلًا، بل إنهما يتفاعلان بنيويًا لإنتاج الجمالية الروائية.
توطئة :
تُعدّ الرواية أحد أهم الأجناس الأدبية القادرة على احتواء تعقيد الوجود الإنساني وتمثيله عبر حوارات الفكر والزمن والوعي.
وقد شهدت الرواية العربية والعالمية، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، تحوّلًا عميقًا في بنيتها ورؤيتها، إذ لم تعد الحكاية محورًا ثابتًا، ولا الشخصية مركزًا وجوديًا متماسكًا، بل صار النص فضاءً معرفيًا مفتوحًا يستوعب تشظي الإنسان وتصدّع العالم.
من هنا تأتي أهمية دراسة العلاقة بين أبنية السرد
ورؤية العالم بوصفهما محركين رئيسيين للجمالية الروائية الحديثة.
أولًا: أبنية السرد ،
التحليل البنيوي للجماليات السردية.
1. تفكيك الزمن وتمثيل الوعي.
أصبحت الرواية الحديثة تعمل على إعادة صياغة الزمن لا كما يجري، بل كما يُدرَك.
فقد قدّم مارسيل بروست في البحث عن الزمن المفقود نموذجًا تأسيسيًا لتفكيك الزمن عبر الذاكرة والاسترجاع.
وعلى المستوى العربي، تتجسد التقنية ذاتها في ميرامار و أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، حيث يتحول الزمن إلى شبكة من الطبقات التي تكشف الخلفيات الاجتماعية والفلسفية للشخصيات.
وتعتمد هذه الروايات على:
1-تقطيع زمني
2-استرجاعات متداخلة
3-توتر بين الزمن الموضوعي والزمن الداخلي، وهي آليات تكشف هشاشة الوعي الإنساني وإيقاع العالم المأزوم.
2. تعدد الأصوات والمجتمع الحواري.
قدّم دوستويفسكي في الإخوة كارامازوف والجريمة والعقاب مثالًا مبكرًا على الرواية الحوارية (البوليفونية)، حيث تتعارض الأصوات وتتقاطع لتشكيل عالم مفتوح على احتمالات متعددة.
في السياق العربي، كرّس عبد الرحمن منيف في مدن الملح و الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال بنية تقوم على تعدد الرؤى، مما جعل الرواية مساحة للتفاوض بين الخطابات الاجتماعية والسياسية.
يمكّن تعدد الأصوات من:
1-تفكيك السلطة الأحادية
2-كشف البنى الاجتماعية
3-مساءلة الحقيقة عبر منظور نسبي.
3. اللغة بوصفها مكوّنًا معرفيًا.
تجاوزت الرواية الحديثة استخدام اللغة بوصفها قناة محايدة، لتغدو جزءًا من البنية السردية. في مئة عام من العزلة لماركيز، تلعب اللغة الشعرية دورًا في تأسيس عالم غرائبي متجاوز للواقع. بينما نرى في اللجنة لصنع الله إبراهيم لغة تقشفية توثيقية تعكس انحباس الإنسان داخل مؤسسات السلطة.
تحوّلت اللغة من وظيفة توصيفية إلى:
1-بنية دلالية
2-حامل معرفي
3-فضاء لتشكيل رؤية
4. تداخل الأجناس الروائية:
في الرواية العالمية المعاصرة، مثل اعترافات ماسك ليوكيو ميشيما، والعاشق لمارغريت دوراس، نجد تداخل السيرة الذاتية مع الروائي.
وفي العربية، يتجلى هذا التداخل في الخبز الحافي لمحمد شكري، والوشم لعبد الرحمن مجيد الربيعي، حيث تُدمج الاعترافات والوثيقة واليوميات داخل البناء الروائي.
ثانيًا: رؤية العالم ،التحليل الفلسفي والأنطولوجي للرواية.
1. الإنسان في مواجهة المصير: الوجودية الروائية
تعكس العديد من الروايات رؤية وجودية للعالم، كما في الغريب لألبير كامو، حيث يظهر الإنسان كائنًا معزولًا، عاجزًا عن إيجاد معنى. وفي العربية، نجد هذه الرؤية واضحة في رجال في الشمس لغسان كنفاني الذي يجعل الإنسان في مواجهة المصير حين يسأل سؤاله الشهير: “لماذا لم تدقّوا الخزان؟”
2. السلطة: البنية العميقة للصراع الروائي.
تحضر السلطة بوصفها بنية تُشكّل الوعي وتعيد تشكيل العلاقات. ففي 1984 لجورج أورويل، تصبح السلطة كيانًا شاملًا يحدد اللغة نفسها. ويقدّم صنع الله إبراهيم، في شرف و اللجنة، نقدًا للسلطة العربية الحديثة وآلياتها.
هذه الروايات تشتغل على:
1-كشف القمع
2-تفكيك خطاب الحكم
3-فضح الأنساق الاجتماعية
3. المجتمع بين التفكك والتحوّل:
تقدم رواية مدن الملح نموذجًا عميقًا لقراءة التحولات الاجتماعية في الخليج العربي. كما تكشف ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي هشاشة المجتمع الجزائري بعد الاستعمار، عبر لغة شعرية تمزج الفردي بالجماعي، والخاص بالعام.
4. الأمل والعبث بوصفهما رؤيتين متقابلتين:
في حين تميل روايات مثل الحرافيش لنجيب محفوظ إلى رؤية إصلاحية اجتماعية، تنحاز روايات أخرى كـالطاعون لكامو واللص والكلاب لنجيب محفوظ إلى رؤية عبثية للعالم، مما يخلق خطابًا يوازن بين الانهيار وإمكانية التجاوز.
ثالثًا: جدلية البنية والرؤية
الجمالية الروائية العميقة.
تُظهر القراءة أن:
1-التشظي الزمني في البحث عن الزمن المفقود ليس مجرد تقنية، بل رؤية للعالم بوصفه كيانًا عصيًّا على الاستعادة.
2-تعدد الأصوات في موسم الهجرة إلى الشمال يعكس رؤية ما بعد استعمارية تسائل العلاقة بين الشرق والغرب.
3-اللغة الشعرية في مئة عام من العزلة تترجم رؤية لعالم تتداخل فيه الأسطورة مع الواقع.
4-التداخل الأجناسي في الخبز الحافي يعكس رؤية لذات ممزقة تعيش على الحدود بين الاعتراف والتمرد.
وهكذا، لا تُقرأ البنية السردية إلا بوصفها تجسيدًا لرؤية فلسفية، ولا تُفهم رؤية العالم إلا داخل بنية تؤطرها.
رابعًا: القارئ بوصفه منتجًا للمعنى.
تُسهم الرواية الحديثة في إعادة بناء علاقة جديدة بين النص والمتلقي، بحيث يصبح القارئ شريكًا فعليًا في إنتاج الدلالة.
وقد أكّد إمبرتو إيكو في نظريته حول “القارئ النموذجي” أن النص لا يكتمل إلا بعملية التلقي.
ويظهر ذلك في روايات مثل اسم الوردة لإيكو، أو عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، حيث يتطلب النص قارئًا مشاركًا يفكّ شفراته المتعددة.
رؤيتي النقدية:
تؤكد الدراسة أن الجمالية الروائية الحديثة تتأسس على التفاعل الجدلي بين أبنية السرد و رؤية العالم. فالتقنية ليست حيادية، بل هي تعبير عن موقف فلسفي، والرؤية ليست أفكارًا مجردة، بل تنبني داخل هيكل فني يحدد شكلها النهائي.
وبذلك تظل الرواية جنسًا قادرًا على احتواء التحولات الكبرى في الوعي الإنساني، لأنها تحوّل الأسئلة الوجودية إلى بنى سردية حيّة، وتحوّل البنية إلى رؤية ممتدة للعالم.
مراجع أساسية
1. ميخائيل باختين. الخطاب الروائي.
2. جيرار جنيت. خطاب الحكاية.
3. إمبرتو إيكو . حدود التأويل.
4. ألبير كانو . الطاعون، الغريب.
5. نجيب محفوظ ، اللص والكلاب، ميرامار.
6. عبد الرحمن منيف . مدن الملح.
7. غابرييل غارسيا ماركيز. مئة عام من العزلة.
8. مارسيل بروست . البحث عن الزمن المفقود.
9. إبراهيم صنع الله، اللجنة، شرف.
10. أحلام مستغانمي ، ذاكرة الجسد.
11. الطيب صالح ، مواسم الهجرة من الشمال ، عرس الزين .