انتهى الاجتماع. الان بدأت مراجعة القرار.. أشعل احمد سيجارة.. نفث سحابة كثيفة من الدخان، والتفت ناحية مريم، وقال بتهكم:
ـ “غيزت لمُّٓو”!
مريم تستمع أكثر مما تتكلم.. ما يهمها هو القرار.. تشد بأصبعيها سيجارة الكترونية تخشى ان تسقط من بين شفتيها، وتنفث دخانا خفيفا. قالت مبتسمة:
ـ حتى الشيطان يا أحمد سينحني، ويقدم لك التحية!
رفع محمد حاجبيه إلى الأعلى، وغمز عامر وهو ينظر إلى أحمد الذي يجلس على يساره، ثم قال:
ـ أزل المقبس، واطفئ الكاميرا.. لقد انتهى الاجتماع.
لم يستجب عامر للطلب في حينه.. كان مشغولا مع آلة عصر القهوة.. ونسي الجميع أن الكاميرا لازالت تعمل..
رئيس مجلس الإدارة لا يثق في أعضاء اللجنة، وهم أيضا لا يثقون في الرئيس.. هنا لا أحد يثق في أحد.. لهذا تم الاتفاق على نصب كاميرا خاصة بتسجيل الاجتماعات، حتى تراقب المالكة كل ما يجري..
العزبة ضيعة كبيرة في ملكية امرأة أرستقراطية.. عينت فريقا من المهندسين والتقنيين لتسيير المزرعة.. كل مجموعة تُشرف على قطاع معين.. تمة أسرار تتعلق بتربية المواشي، وزراعة الفواكه يجب أن تبقى حبيسة المزرعة. وأي تسريب قد يؤثر على المردودية والأرباح، ويؤدي في النهاية الى انتكاسة..
حمو تقني متهور.. لسانه يسبقه دائما.. خلق مشاكل للمزرعة.. تم توقيفه.. وفي انتظار بث المحكمة في قضية رفعتها شخصية كبيرة ضده.. قررت الإدارة طبخ ملف له وعرضه على صاحبة المزرعة التي طلبت اتخاذ إجراء حاسم وسريع في الموضوع..
أحس حمو بالظلم.. الرجل أقسم بأنه بريء، ولم يخرج قيد أنملة عما يسمح به قانون المزرعة.. لم يفش أسرارا تخص المواشي أو الفواكه.. لكنه بين الحين والآخر يشتم صديقا لصاحبة المزرعة في أعلى هرم السلطة، ويُنسب إليه أفعالا تخدش سمعته..
قرروا ايقافه عن العمل وحرمانه من أي تعويض يضمنه القانون.. وأضافوا تُهما أخرى وهمية تُحرمه من العمل مستقبلا مع أي مزرعة..
نفذوا الأمر بنجاح، وانتهى الاجتماع.. بعد ذلك عادوا للضحك والبسط.. أشعل أحمد سيجارة أخرى، وهو يصف حمو بألفاظ سوقية..
ضحكت المرأة صاحبة السيجارة الالكترونية، وكأنها تشجع أحمد على استعمال ألفاظ أقبح..
كانوا على علم بأن زوجة حمو تعاني من مرض خطير، وأنه في حاجة إلى المال لإنقاذها..
قال العجوز رئيس اللجنة لقد أغلقنا في وجهه كل أبواب الرزق.. سيقضي في السجن ما بين سنتين أو ثلاث.. وعندما يعانق الحرية، وإذا أراد أن يصرف على أسرته عليه أن يتحول إلى بائع متجول تطارده القوات المساعدة وأعوان السلطة من زنقة إلى زنقة..
انفجر أحمد ضاحكا! وقال بعد أن نفث سحابة كثيفة من دخان السيجارة:
ـ أتخيله الآن يجر العربة، ويقف عليه أعوان السلطة، فيتجادل معهم حول القانون والحق في الشغل وحقوق الانسان، وفي النهاية ينزعون منه العربة، ويأخذونها إلى الملحقة..
لاحظت مالكة الضيعة، أن سمعة المنتوج الفلاحي لا زالت تنخفض من سيء إلى أسوء.. موظفو الإدارة أنهكوا ميزانية التسيير من غير أن يقدموا نتائج ملموسة.. السوق كله انقلب ضد المزرعة..
جلست مع خبير اقتصادي، وقدمت له تقارير مفصلة حول تراجع ثمن الإنتاج في السوق، وعدم إقبال الناس عليه كما كان يحدث في الزمن الجميل.. بعد دراسة الوثائق صارحها الخبير بأن المشكلة في التسيير.. عليها التخلص من الفريق الذي يعمل في الإدارة واستبداله بفريق جديد وشاب، يعرف كيف يتواصل مع الشباب العامل والشباب المستهلك..
دقت ساعة الحساب.. أوقفت الموظف الذي يترأس الإدارة..
كل المشرفين والرؤساء تتوفر على ملفات فساد تُدينهم.. السيدة مغرمة بأفلام المافيا.. شاهدت عشرات الأشرطة.. أعجبتها الطرق الناعمة للابتزاز والضغط على الأصدقاء والأعداء.. وتعلمت أيضا متى يجب استعمال فاضح الصوت والصورة.. السيدة نسجت علاقات ونفوذ مع ناس كبار يحكمون التجارة في البحر والبر والجو..
استدعت عامر وطلبت منه تسجيل نسخة من الفيديو.. بعد لحظات تفكير، عادت إلى عامر وخاطبته برقة:
ـ لديك خدمة نقية.. أوصل هذا الفيديو إلى حمو، واترك ذلك سرا بيننا..
وقبل أن يستيقظ من دهشته، أخرجت من الدولاب ظرفا به مبلغ من المال، وقدمته له..
أخذ الظرف، تحسسه، ثم فتحه وألقى نظرة على حجم الأوراق الزرقاء.. أقسم على أنها تتجاوز عشرة آلاف درهم.. قال لنفسه:
ـ يا عامر لن تعود إلى البيت هذا المساء.. منذ شهر لم تدخل علبة، لم ترقص ولم تشرب خمرة فاخرة.. ولم تأت إليك فتيات الحانة يحطن بك من كل جانب.. اللعينة كأنها قرأت أفكارك..
دق الباب.. تفاجأ حمو بعامر يبتسم في وجهه ويصافحه.. لم يصدق نفسه! دخلا معا إلى الصالون.. عرض عليه أن يجلس لتناول كأس شاي فاعتذر.. أدخل يده في جيبه، وأخرج ذاكرة تخزين صغيرة وقال:
ـ جئتك بهدية ثمينة طلب مني فاعل خير أن أقدمها لك، وأتكتم عن ذكر اسمه! ستجد فيها كل ما يبرئ ساحتك..
ثم أضاف قبل أن يسلمها له:
ـ بشرط، لم ترني، ولم أرك!!
تفاجأ حمو بالهدية المقدمة له.. بمجرد ما انصرف عامر، اشعل الحاسوب وفتح الذاكرة على فيديو الاجتماع، وما تلاه من سخرية من شخصه وقذف وسب وحط من كرامته.. لم يصدق بأن زملاءه في العمل يكنون له كل هذا الحقد والشر، رغم أنه لم يؤذهم في شيء..
اتصل بصديق يعمل كمؤثر.. بعد نشر مقاطع من الفيديو والتعليق عليها، أحدث ذلك زلزالا من التعاطف مع حمو في وسائل التواصل الاجتماعي..
في الأسبوع الموالي، وهو في الطريق إلى المحكمة، قال لنفسه:
ـ قبل أيام كنت قضية رأي عام، أما الآن فسيطوي الناس صفحتك كما تُطوى علبة فارغة، وتُرمى في حاوية النفايات..
لم يعد يهمه ما سيقوله القاضي.. أصبح الآن على يقين بأن العدالة الحقيقية قد توجد في الضغط على زرّ هاتف أو في كاميرا بقيت مفتوحة سهوا..
مراكش 24 نونبر 2025