تقديم/ جاسم العايف/ حوار خالد السلطان :
* أستهجن عدد من المثقفين العراقيين ،وبخاصة في محافظة البصرة ، مما طرحه صاحب كتاب ((خريف المثقف في العراق )) وبالتحديد قوله بأنك من المثقفين العراقيين الذين أعلنوا تأييدهم للحرب أو الاحتلال الأمريكي للعراق ، ما تعقيبك على ذلك الزعم ؟.
** سأورد ما كتبته، قبل فترة وجيزة، عن كتاب (خريف المثقف في العراق)، ضمن مقابلة طويلة أجراها معي الصديق الشاعر معتز رشدي، ستصدر في كتابٍ، مهيأ للطبع، لكي يكون موقفي واضحاً، وأعم مما هو خاص بي. بدءاً أودّ أن أقول إن موقف التأييد غير صحيح، وإن الكتاب يمتلئ بالمغالطات والاستنتاجات الخاطئة. وهو ليس سوى سرد صحفي لوقائع وتفصيلات لا قيمة لها في البحث، وبعضها من ابتداع الكاتب، وإن كان بعضها صحيحاً، وما يستنتجه الكاتب ، مفتخراً، منذ الصفحة الأولى باعتباره “قناصاً”، و”بحّاراً مفككاً للذهنيات” (هذه التعابير له) وهو لم يغادر الضفة، ولعله كان مدركاً نواقصه، مما جعله يبدو محترساً مهاجماً معارضيه المتخيلين مسبّقا بقوله :”لست متشائماً لكنني أظنّ أن الكتاب لن يرضي الكثيرين وأكاد أجزم أنّ أول من سيعترض عليه هو المثقف العراقي الذي نشأ وعيه في ظل الإيديولوجيات المتصارعة في النصف الثاني من القرن العشرين”. وبما أن المثقفين المستقلين “ما أقلهم” على حد تعبيره فإن هذا يعني أنه لن يُقنع في كتابه هذا إلاّ نفسه لأنه الوحيد الذي لم ينشأ وعيه في ظل الإيديوجيات المتصارعة!. مما يدفعنا إلى التساؤل :” أين إذن نشأ هذا الكاتب؟”. حين بدأت علائم الحرب تلوح في الأفق أثارت مجلة “الثقافة الجديدة” محوراً طبع فيما بعد في كرّاس خاص، اتسع لمختلف الآراء وقد شاركت فيه بمقالة (في انتظار الشيطان) بينتُ فيه موقفي الرافض للحرب والاحتلال بوضوح. كما شاركت في ملف طلبت مني جريدة “القدس” المشاركة فيه عن الموضوع ذاته. موقف التأييد غير صحيح. سأترك الرد على ما حرّفه عني، مؤقتاً، ولأبدأ بالوقائع التي يعرفها الجميع ولا يعرفها الكاتب الذي صرف سنتين من عمره في التنقيب في الوثائق والشهادات، للتدليل على ما ذكرته من تزييف للوقائع، ومن استنتاجات خاطئة: يقول مستشهداً بحازم صاغية في كتابه عن بعث العراق دون أن يضع كلمات صاغية بين مزدوجين: “إن أوّل لحظة خصام تفجرت بين سلطة البعث والحليف الشيوعي كانت انطلقت على خلفية اكتشاف خلايا ماركسية في الجيش أعدم على أثرها ثمانية وثلاثون شيوعياً”ص101، وهذا الكلام غير صحيح فالخصام تفجر قبل ذلك بسنوات. والدلالة على ذلك الاغتيالات الكثيرة لأعضاء الحزب الشيوعي العراقي ومن بينهم شعراء سنشير إليهم فيما بعد بالأسماء، دون ذكر أسماء العشرات من الشيوعيين البسطاء، وحتى من قادة اللجنة المركزية نفسها كالشهيدين شاكر محمود ومحمد الخضري. كذلك فإن الواقعة غير صحيحة لأن اللجنة المركزية تخلّت، منذ زمن، عن تنظيمها في الجيش، منذ توقيعها على ميثاق الجبهة، سنة 1973، بل عن كل تنظيماتها الديمقراطية، فيما بعد، مما سبب إرباكاً في داخل التنظيم. لذلك فإن القول التالي يبدو مغرضا: “بدا مبرر السلطة شرعياً، للوهلة الأولى، لجهة أن تأسيس خلايا ذات طابع سياسي في الجيش، يعد، حسب الأعراف التي تقوم عليها مبادئ مثل تلك المؤسسات التابعة للدولة انتهاكاً لأحد أهم المعايير التي سارت بموجبها الدولة العراقية منذ تأسيسها على اعتبار أنّ الدولة هي الوحيدة التي من حقها احتكار العنف وممارسته بدنيا ورمزيا” ص101. الغريب أن الكاتب يروي الواقعة باعتبارها واقعة حقيقية، ويعلق عليها باعتبارها خرقاً من الحزب الشيوعي، وردّ فعل مبرر من السلطة. يؤكده تعليقه الآخر: “وعلينا التذكير هنا بالعبارة التي راجت في كواليس المفاوضات التي جمعت الشيوعيين بالبعثيين للوصول إلى صيغة لتحالفهم. العبارة تقول ببساطة أن على من يريد الالتحاق بركب الثورة “الالتزام بعدم إيجاد ولاءات خاصة داخل القوات المسلحة غير الولاء للثورة”ص102 ولا يكتفي بذلك بل يعود مرة أخرى إلى تأكيد ما سبق، بلا أي شك يراوده في ادعاء السلطة، أو في ما أورده حازم صاغية:” وفق هذه الرؤية تبدو لحظة اكتشاف الخلية الشيوعية رمزية ومناسبة تماماً لإعلان نهاية الكرنفال الجبهوي الشيق، الكرنفال الذي لم يمنع الرفاق الشيوعيين من زرع خلاياهم في المؤسسة العسكرية المحمية جيداً” ص105. إذن هو خطأ الشيوعيين الذين زرعوا خلاياهم في المؤسسة العسكرية. كيف لباحث عراقيّ معنيّ بالشأن العراقي وأمامه أطنان من الوثائق والشهادات أن يورد استشهاداً خاطئاً من دون أن يصححه أو يشير، على الأقل، إلى شكه بما أورده حازم صاغية؟. ولا أدري لم استشهاده بحازم صاغية الذي أورد الواقعة خطأ أساساً، وبلا تصحيح وهو العراقيَ العارف كما يدعي ببواطن الأمور. الواقعة الأخرى هجرة المثقفين العراقيين فهو يرى:”أن مثقفين قلائل فقط هم الذين هاجروا بطرق غير شرعية، كما جرى مثلاً مع الشاعر برهان الشاوي الذي هرب مشياً على الأقدام بعد تعرضه لتجربة رهيبة على أيدي رجال الأمن” ، “أما الأغلبية المطلقة فقد سافروا تحت سمع السلطة وبصرها وانطلاقاً من مطار بغداد، بجوازات سفر رسمية أو حتى بإيفادات من قبل السلطة” ص76. ثم يضيف ” وإذ يتساءل المرء عن علة هذا الصمت البعثي ستتبادر إلى الذهن فوراً تلك الفكرة التي ترى أن سلطة البعث لم تكن معنية يوماً بهجرة المثقف أو بقائه، هي لا تتعامل كما تتعامل مع الساسة السابقين مثلاً- فهؤلاء الأخيرون يقيدون في سجلات منع رسمية تصدرها الجهات الأمنية وتعمم على مكاتب إصدار الجوازات، كذلك مع الضباط وعلماء الذرة وغيرهم ومن المستحيل أن يفكر هؤلاء مجرد تفكير في السفر من العراق”ص77. هذا الكلام لا يجرؤ أن يكتبه حتى البعثيون وأعداء الثقافة. لاحظ التعبير المغرض” الأغلبية المطلقة”. سأورد ما افتقده الكاتب من سجلاتِ منعٍ تصدرها الجهات الأمنية، ولن أكتفي بكتاب واحد بل سأورد كتابين، الأول أمر قبض برقم 4225 وتاريخ 5/12/1981، وهو صادر من مديرية أمن محافظة البصرة إلى مديرية أمن محافظة دهوك جاء فيه (أنقله بأخطائه كعادتي في نقل النصوص الأخرى أيضاً):”اصدر السيد قاضي تحقيق أمن البصرة أمر القبض بحقّ العناصر الشيوعية الهاربة والمدرجة أسمائهم أدناه. يرجى التحري عن المذكورين إلى مناطقكم وعند العثور على أحدهم إرساله إلينا مخفوراً ونرفق طيّاً بعض من صورهم. نرجو إعلامنا … مع التقدير” ثمّ يورد الأسماء ومن بينهم اسمي تحت رقم 145 ومعه التعريف التالي: “يسكن البصرة – نظران كان مسؤول الفنانين والأدباء هارب إلى الكويت”، أما الكتاب الثاني فهو حجز أموال برقم 1022 وتاريخ 1/5/1982. أمّا الأدباء الذين اغتيلوا على أيدي الأمن فهم: الشاعر خليل المعاضيدي “والكاتب أشار إلى ذلك في صفحة لاحقة (ص110)”، وقد تمّ اختطافه من المتوسطة نهاراً من قبل أمن ديالى، وبعد أكثر من شهر تمّ إبلاغ عائلته بإعدامه كونه شيوعياً، من دون أنْ تسلم جثته لهم، ومنعهم من إقامة عزاء له، ولم يتم العثور على جثته حتى الآن(هذا ما نقله إليّ الصديق جاسم العايف نقلاً عن الشاعر إبراهيم الخياط، لمعرفته بما تربطنا، أنا وجاسم، بالشاعر الشهيد من علاقة حميمة)، الشاعر مهدي طه الذي اغتالته عناصر الأمن الطلابي في جامعة البصرة، الشاعر جواد الربيعي، الشعراء الشعبيّون: فوزي قاسم السعد، هادي عداي، صبري شامخ، فالح الطائي، القاص غضبان عيسى الذي أعدم خلال 1980، الشاعر قيس حيدر وهو بعثي انحاز إلى التيار السوري، تمّ إلقاء القبض عليه قرب الحدود العراقية السورية، الشاعر رياض إبراهيم الهارب سيراً على الأقدام إلى مدينة زاخو برفقة عائلته: زوجته، وأطفاله الأربعة، وقد أدى به وضعه الصعب هذا، وفقره في هذه المدينة إلى الموت فدفن هناك. الشاعر عبد الحسن الشذر، وعنه يروي صديقي المخرج والناقد المسرحيّ والصحفيّ المعروف خالد السلطان رئيس تحرير جريدة الأخبار البصرية سابقاً الرواية التالية: اعتقل خالد ومعه الشاعر فالح الطائي، ووليد حنون شقيق الشاعر مؤيد حنون، وشقيقا زوجة الفنان المعروف طارق الشبلي(أمجد ونضال عبد الواحد)، في نهاية 1979، ثمّ تمّ نقلهم إلى مديرية الأمن العامة ببغداد، وهناك التقوا بالشاعر عبد الحسن الشذر وقد أصبح هيكلاً عظمياً، ثم يذكر خالد أنه في أحد الأيام نودي على عبد الحسن الشذر، وفالح الطائي، وشقيقي زوجة الفنان طارق الشبلي: أمجد ونضال عبد الواحد، ومعهم ثلاثة من الموقوفين، فاقتيدوا من التوقيف دون أغراضهم ولم يعودوا,وبعد فترة أُخبر خالد أنهم أرسلوا لغرض إجراء تجارب عليهم في مختبرات النظام، لمعرفة فعالية الأسلحة الكيماوية، وقد نجحت تلك التجارب، والذي أخبره بذلك مَنْ كانت له علاقة بهذه التجارب، طالباً منه الكتمان. بعد أن توثقت علاقته به في السجن. وقبلها بفترة قصيرة التقيت بالشذر، هذا الشاعر الجميل الذي كان ينبئ بمستقبل شعريّ باهر، في شارع الرشيد، أثناء هربي من البصرة وبحثي عن وسيلة للهرب من العراق، وهو ذاهل يبطئ في المشي، كسائر في نومه، دون أن يتعرّف عليّ. وقد كتبت عن تلك اللحظة المؤرقة لي قصيدة نشرتها في مجموعتي (دقات لا يبلغها الضوء). ما الذي وجدوه من خطورة في هذا الشاعر الشبح ليودعوه السجن ثم يسوقونه إلى تجاربهم الكيمياوية؟.أما الأدباء الهاربون من السلطة في السبعينات فمنهم: فاطمة المحسن التي هربت على بغل إلى كردستان. زهير الجزائري الذي هرب إلى كردستان أيضاً سيراً على الأقدام، مدة أسبوعين، مهدي محمد علي، وعبد الكريم كاصد اللذان هربا عبر الصحراء لمدة سبعة أيام، على جمل ثم في تنكر ماء لمدة أربع ساعات مع عشرين هارباً إلى الكويت، اختنق اثنان منهم في الطريق ولم ينجوا إلاّ بأعجوبةٍ. أما الذين هربوا في الحافلات بين بغداد ودمشق أو عمان فهم عديدون، من بينهم، الصحفيّ المعروف عدنان حسين الذي هرب متخفياً في الباص الذاهب إلى سوريا، على السقف بين الحقائب، تحت تحت(الجادر) الذي اضطر إلى ثقبه بأسنانه لكي يتنفس قبل نقطة الحدود، والأديب عبد الغني الخليلي الذي كتب عن رحلته المروعة من النجف إلى إيران حاملاً أمّه على ظهره طوال تلك الرحلة الشاقة وسط الطرق المزروعة بالألغام، ومخافر الحدود، هذا بالإضافة إلى عدد الكبير من المثقفين الذين اعدموا أو اعتقلوا كالقاص مجيد جاسم العلي والذي أعتقل من قبل مديرية المخابرات العامة في البصرة، ثم حكم عليه بالسجن خمس سنوات أمضاها كاملة في سجن (أبو غريب- قسم الأحكام الخاصة)، وهاشم حاتم، وأيوب عمر، وباسل راضي، وفهد هاشم، وعلي عبد الواحد، وعبد الباقي شنّان وآخرين. يروي جعفر كمال الذي هرب بدوره بعد مطاردة طويلة مع رجال الأمن عن أخيه عبد الباقي شنّان المقيم حالياً في كندا أنّ رجال الأمن حين قدموا إليه سألوا أمّه التي كانت تشجر تنورها أمام البيت: هل عبد الباقي موجود؟. فأجابتهم وقد ظنت أنهم أصدقاؤه: “إي يمه كاعد يشرب عرق ينتظركم”. لقد أعدم من طريق الشعب، جريدة الحزب الشيوعي، وحدها، أكثر من محرر، بعد إغلاقها مباشرة عام 1979 ، منهم إسماعيل خليل، طه ياسين، سامي العتابي، إبراهيم كزار. أما من جُنّ بعد اعتقاله، أو أدعى الجنون فهم كثر من بينهم الأديب المعروف خضير ميري. هناك من حاول الهرب متأخراً فتمّ القبض عليهم وأعدموا منهم: القاص الشيوعي كريم نجم ، ألقي القبض عليه قريبا من الحدود العراقية-الكويتيه، وأعدم سنة 1981، المسرحيّ سامي زبون: ألقي القبض عليه عند الحدود العراقية التركية وأعدم سنة 1985. الشاعر الشيوعيّ مناضل عبد المنعم، أعدم سنة 1983. (بعض هذه الأسماء عرفت تفاصيل اعتقالها أو إعدامها من الصديق القاص قصي الخفاجي).وحتى المثال الوحيد الذي ذكره ألا يكفي وقد أشار إليه نقلا عن هاديا حيدر ناعتاً إياه بالتجربة الرهيبة وكأنه لا يعرفه إلا من خلال هذا المصدر، وهو المثال الذي يعرفه الجميع.أية سلطة هذه التي تودع شاعراً السجن وتغتصبه!. ما الذي يمنع سلطة كهذه من ممارسة مثل هذا السلوك مع غير برهان, كم أديبٍ لم يصرح بهذه الحقيقة ربما. لقد أكبرنا وقتها شجاعة الشاعر برهان الشاوي، وجرأته في الإعلان عما يصعب التصريح به. إن في عبارات الكاتب استخفافاً في تناول تجارب المثقفين، استخفافاً يدعونا إلى التساؤل عن حدود أخلاقية الكاتب ونزاهته؟. أما هذه السهولة في إطلاق الأحكام فهي لا تدلنا على براءته من الإيديولوجية، كما ادعى في مقدمته، بل على التشكيك بما هو أبعد من هذا التبرؤ. إنه يضع آراء طارق عزيز ورعد بندر في مستوى واحد من آراء معارضيهما دون أن يرف له جفن متوهماً أن هذا حياد منه:”وبغض النظر عن صحة ادعاء هذا الطرف أو ذاك، كانت كثيرة لكن أقربها إلى الحقيقة أنّ السلطة حين فعلت ذلك، في السبعينات، فلأنها أرادت التخلص من آخر بقايا التعددية في الثـقافة العراقية بعد أن قضت على التعددية ذاتها سياسياً” (ص78 ) وبدورنا نسأله أين تلمس هذه التعددية في الأدب إذا تجاوزنا الحديث عن السياسة؟. ولماذا استعادت السلطة التعددية ثانية فيما بعد بجيل الثمانينيات الذي عارضوا السلطة، كما استنتجت، بقصيدة النثر؟. لكنه يرجع بعد ذلك في الصفحة 79 ليقول:”بدل الصراع الثقافي البارز والتعددية اللذين كانا سمة السبعينيات، كان ثمة أحادية مطلقة في الثمانينيات والتسعينيات” كاتب لا يعرف ماذا يقول. قناص يخونه الهدف كثيراً. يرسم لوحات ساذجة متخذاً سمت الباحث العارف في صفحات لا معنى لها كما في الصفحتين 83 و84 . ثمة رغبة مريبة في وضع الأمور المتعارضة في سلة واحدة، والإصرار على الاستنتاجات البائسة مثل حديثه عن: “الأجيال الأحدث التي وجدت نفسها مهددة بين القطب والرحى، قطب المسدس البعثي ورحى الضحية اليسارية الناشطة خارج البلاد”ص119. كنّا إذن دون أن ندري نهدد الأجيال الأحدث، كما البعثيين؟. إنه الحياد الأنقى لـ “لقناص” ماهر الذي لا يكف عن استنتاجاته التي يطلقها كالقذيفة بيقين أين منه يقين الإيديولوجيّ: “وفي هكذا سباق نشأ انطباع سيكون له تأثير بالغ في مجريات الأمور لاحقاً. إنه الانطباع الذي يفيد أن موت الثقافة العراقية، إذا كان ثمة إمكانية للحديث عن مثل هذا الموت، إنما راجع إلى هذا الصراع الإيديولوجي الذي غذته التناقضات بين اليساريين والقوميين”(ص119 ).إذن ليس خريفاً ما يتحدث عنه بل (موت الثقافة العراقية) فلماذا هذا العنوان العريض المبهرج (خريف المثقف في العراق )؟. كان الأولى به أن يعنونه بـ (موت المثقف في العراق) من أجل أن يبدو حداثوياً على الأقل فقد يذكّر بـ “موت المؤلف “. لقد غدا الكاتب دون أن يدري أكثر تطرفاً من الإيديولوجيين أنفسهم في ترديد نظرية الانعكاس الشهيرة، بل أن الإيديولوجيين يبدون أكثر مرونة ووعياً منه حين يختلفون حول نظرية الانعكاس، ويرجعون إلى مصادرهم في إنكار كون الثقافة انعكاساً مباشراً للصراع الإيديولوجي ومرجعهم غرامشي، وجورج لوكاتش بل وأنجلز وماركس نفسيهما في نصوص لهما تنكر مثل هذا الإنعكاس المباشر. ولعله فعلاً لم يع ذلك لأنه يؤكد وما أكثر تأكيداته، واستنتاجاته المختلطة أن ثمة مثقفين خارج هذا الصراع اتجهوا إلى ما يمكن تسميته بـ “التصوف الثقافي ” ثم يعدد أسماءهم ومن بينهم ويا للغرابة شيوعي هو رشدي العامل، وبعثي حتى وإن لم يكن بعثياً، هو علي الحلي مدير الرقابة في عهد صدام الذي منع قصائد عديدة في مجموعتي (النقر على أبواب الطفولة) من النشر، لأن واحدة منها بعنوان (عبر بيوت الأرمن) وأخرى ورد فيها( ثلاثة خراف ترعى) وقصائد أخرى لمبررات مختلفة، وحين قابلته لأعرف لمَ المنع؟. قال لي إن لفظة(الأرمن) تجرح مشاعر القوميين العرب. أما (ثلاثة خراف ترعى) فقد أخبرني من هو قريب من لجنة الرقابة، لأنها قد ترمز إلى (الوحدة والحرية والاشتراكية) . وعلي الحلي ، بعيداً عن هذه الواقعة الشخصية، هو أول من استعدى السلطات البعثية على بدر شاكر السياب بمقاله الرهيب الفضائحيّ الذي نشره في مجلة الآداب، في العدد الذي أعقب العدد الذي نشر فيه السياب قصيدته الهجائية السيئة الصيت لعبد الكريم قاسم، فلم يشفع للسياب حتى ولاؤه للبعثيين، ففصلوه من عمله وأجاعوه ومنعوا ديوانه (المعبد الغريق) الذي احتوى على قصائد في هجوهم، أما الأربعة الآخرون الذين ذكرهم وهم محمود البريكان ومحمد خضير وطهمازي ومحمود جنداري وهم أصدقاء حميمون فأترك الحديث عن تصوفهم للآخرين، فأنا لا أرى أنهم كانوا بمعزل عن الصراع القائم في أدبهم على الأقل، أما نظرية الانعكاس المباشر والربط بين الموقف الشخصي والأدب فأتركه للامنتمي كاتبنا القناص. هذا الرجل يكتب وكأنه في صحراء لا شهود فيها. إنه يورد أيضاً حواراً له مع صديق يتحدثان فيه عن فرار مثقفين بلا سبب، وهو الذي يورد أمثلة على القتل، وعلى إجبار شعراء كثيرين من بينهم الشاعر سعدي يوسف أن يوقّع ليصير بعثياً.هل حقّاً يعرف هذا الرجل عمّا يتحدث؟. والأغرب من ذلك يتساءل:”ما معنى اختيار سامي مهدي البقاء في البلاد في وقت كانت الأمور تسير باتجاه التضييق على الحريات الفردية، فضلاً عن حرية التعبير؟”. وكأنّ سامي مهدي كان شيوعياً أو لا منتمياً مثل كاتبنا.أو كأن الخلاص من الديكتاتورية يمكن يتحقق بالإجابة عن السؤال: كيف احتملت العيش في ظلّ الدكتاتورية كلّ هذا الزمن؟ أقول لهم بيسر: كنت أرعى الجمال وأكتب الشعر”ص118. كيف لم يدرك هذه الحقيقة الأدباءُ الذين أعدموا وبعضهم أدباء لا علاقة لهم بالشيوعية، ولا بصراع الطرفين، إن لم يكونوا ساخطين عليهما معاً. الإجابة لابدّ يعرفها من هو لا منتم مثلهم، أقصد كاتبنا القناص الضالع في عبث الكلمات. تقرأ الكتاب وكأنّ ثمة مؤلفين عديدين ينقضّ بعضهم على بعض، فمن الإعلان عن موت الثقافة العراقية، إلى الإعلان مباشرة بعد صفحتين أو ثلاث،عمّا هو نقيض التصريح السابق، عند حديثه عن انقسام الثقافة العراقية إلى ثقافتين:” واحدة في المنفى، وأخرى داخل العراق، الأولى يسارية متفتحة وذات أفق، بينما الأخرى قومية، متحجرة وذات اتجاه واحد ووحيد.” من نصدق إذن؟. أما الصفحات الخاصة بجيلي الثمانينيّات والتسعينيات وما يرافقها من فوضى في الأحكام والاستنتاجات فهي وحدها تستدعي صفحات وصفحات لتبيان اعوجاجها وتهافتها. سأورد في الأخير، متجاوزاً الكثير من التفصيلات، من أجل أن أعود إلى فحوى سؤالك، ما نقله الكاتب عن أحمد مهنا وفالح عبد الجبار وهما من منفييّ السبعينيات (وليس من مهاجري السبعينيات كما يحلو للكاتب أن يردد هذه التسمية مراراً) حول رفضهما القول بانقسام الثقافة العراقية بين داخل وخارج، ليستنتج نقيض ما أورده محدثاه: “الفكرة إذن ذات منشأ سياسيّ، لكن الأمر قد لا يقف عند هذا، فثمة امتيازات أدبية واجتماعية كانت ارتبطت بذلك المنشأ: أن يكون المثقف شيوعياً ومنفياً، في الوقت نفسه، فمعنى ذلك أن يحوز على شرعية تمثيله للثقافة العراقية الحقيقية”ص132 رغم موافقته على حديث محدثه الشيوعيّ الذي هو فالح، ظاناً أن كلمة يساري التي وردت على لسانه تعني شيوعياً، بينما هي تعبير يحاول أن يدل به المتحدث على نفي اقتصار كلمة يسار على الشيوعيّين وحدهم. التفاصيل، كما يبدو، مرهقة، ففي كلّ صفحة ثمة عثرة أو أكثر من عثرة، إلاّ حين يستطرد في صفحات مملة مكرورة عن الشعوبية والموالي لا علاقة لها مباشرة بموضوعه، وإنما لإضفاء صفة البحث العميق على كتابه. دون أن يتخلى عن أوهامه واستنتاجاته النزقة حين يتحدث عن إدوارد سعيد بهذه الخلاصة الفجة:”كانت حرب الخليج كادت تقع حين خيّل للفلسطينيين أن الدجاجات تتلو آيات قرآنية وأنّ وجه صدام ينطبع على وجه القمر مرات عديدة”. ثمّ يضيف: “إدوارد سعيد لم يكن بمنأى عن تلك التخيلات، رغم أنه يعيش في الولايات المتحدة، فهو يشترك مع أبناء بلده بـ “لاوعي” واحد. ولا أحد يجرؤ اليوم على القول أنه لم يكن أبناً باراً لفلسطين بكل الأسطوريات التي أنتجها وضعها الاستثنائي: الهوية الخيالية، الهيجان العاطفي، النظر إلى الآخر بوصفه عدوّاً، تنحية الجانب الفردي، والالتصاق الأبدي بلغة الضحية، وانتظار المخلص” ص181 دون أن نعرف في أية صفحة من كتبه استدلّ على هوية إدوارد سعيد الخيالية، وهيجانه العاطفيّ ، ونظره إلى الآخر بوصفه عدوّاً …إلخ وأشكّ أن الكاتب على معرفة بهذه الكتب، لأنه لو اطلع عليها لما كتب مثل هذا الهراء الذي هو أبعد ما يكون عن إدوارد سعيد. لقد تجاوز إدوار سعيد، مفكك الأساطير الصهيونية الذي أراد الكاتب القناص أن يفكك ذهنه، لا الفهم الذي يطرحه أو يتوهمه، والذي يسميه بالوطن الأسطوريّ، وإنما تجاوز حتى ما يسميه بالوطن الحقيقيّ، لدى أستاذه كنعان مكية، منذ بداياته وحتى كتابه الأخير، متعالياً بالأساس على مفهوم الوطن نفسه، بأية صيغة كانت، وليس ما يطرحه الكاتب هنا إلاّ امتداداً لتفسيرات القوميين والإسلاميين الخاطئة للعديد من مفاهيم إدوارد سعيد، وكذلك بعض المستشرقين الديماغوجيين كبرنارد لويس. يقول إدوارد سعيد في كتابه (تأملات في المنفى)، مرددا عبارة فيكتور هوغو البليغة:” إنه لمصدر عظيم، إذاً، من مصادر الفضيلة لدى العقل المتمرّس أن يتعلّم في البداية، شيئاً فشيئاً، تغيير نظرته إلى الأشياء الظاهرية والعابرة، كيما يتمكّن بعدئذٍ من تركها وراءه إلى الأبد.. فمن يجد وطنه عزيزاً وأثيراً لا يزال غرّاً طريّاً، أمّا الذي يجد موطنه في كلّ أرض فقد بلغ القوّة، غير أنّ المرء لا يبلغ الكمال قبل أن يعتبر العالم أجمع أرضاً غريبةً، فالنفس الغضّة تركّز حبّها على بقعةٍ واحدةٍ من العالم ، والرجل القويّ يشمل بحبّه كلّ الأماكن، أمّا الرجل الكامل فهو الذي يطفئ جذوة الحبّ لديه “. ويكرر هذه الفكرة في آخر كتابٍ له (الإنسية والنقد الديمقراطيّ)، بقوله: ” لو كنت مجبراً على أن أختار لنفسي دوراً، بما أنا مثقف إنسانيّ، بين أن أدلي بـ ” شهادة توكيد ” لصالح بلدي بعصبية وطنية، كما فعل ريتشارد رورتي مؤخّراً (وقد أستخدم عبارة “الإنجاز” لا “التوكيد” على أنها تؤدي المعنى ذاته، في نهاية المطاف) أو أن أضع بلدي موضع التساؤل،لاخترت دور المتسائل بلا أدنى تردّد”. وسبق أن رددها في كتابه (القلم والسيف) الذي يقول فيه وكأنه يردّ على عبارة الكاتب الإنشائية “وانتظار الخلاص”: الأفضل أن نستمر في ترحالنا، كما أعتقد أحياناً، من سماع تصفيقات مصاريع عودتهم الرهيبة المجلجلة، العنصر الدنيويّ المقترح وليس تناظر الخلاص”ص44. وحين يُسأل إدوارد سعيد عمّن يتحدث هناك؟ يجيب:” إني أتحدث عنّا نحن على نحو رئيسيّ. أعتقد أنّ الفلسطينيين نوعان الآن. فمن ناحية هم حركة مستقلة، يغذيها نوع من الإيديولجيا القومية، وهي شكل مقاومة الاضطهاد، وبهذا المعنى فكيف لي إلاّ أدعمها؟ فأنا جزء منها. ولكن فيها كل محدوديات القومية، وخاصة تلك الرؤية ذات التمركز الفلسطيني والتي أصابتنا كلنا بالعدوى. هناك نوع من رهاب الأجانب تتعلق بها، شوفينية هي جزء حتمي من أيّ وطنية مقاومة، لذلك فنحن هذا من ناحية. والناحية الأخرى إننا حركة منفى. وأنا أكثر شعوراً بالراحة بكثير في هذا.. يبدو لي أن علينا أن نبحث عن صيغ جديدة من المجتمع وصيغ جديدة من الوجود غير مبنية على الحنين إلى الوطن”(ص44).هل يمكن أن نطلق على مفكّرٍ كهذا نعوتاً مثل: النظر إلى الآخر بوصفه عدوا، (من هو العدوّ؟)، تنحية الجانب الفردي (ما معنى تنحية الجانب الفردي؟)، والالتصاق الأبدي بلغة الضحية وانتظار الخلاص؟” أين وجد الكاتب لغة الضحية في مؤلفات إدوارد سعيد؟.وهل يصحّ حقّا أن يقال عن إدوارد سعيد إنه لم يكن بمنأى عن تخيلات الفرد الفلسطينيّ الذي رأى وجه صدّام ينطبع على وجه القمر، وهو الداعي إلى محاربة الأساطير لأنها ألصق بالمجتمع الصهيوني، والناقد الأكبر للأنظمة العربية جميعاً، بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية، وعرفات الذي انتقده لموقفه خلال حرب الخليج ، وطالبه بالاستقالة، وقد ضمت مقالاته النقدية مؤلفات عديدة مترجمة إلى العربية وبعضها لم يترجم بعد. أليس هو القائل عن النظامين العراقي والسوري: “لا شكّ أنّ انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الحكومتين العراقية والسورية ضدّ شعبيهما مرعبة ومروعه؟”(تأملات في المنفى ص281)، والذي سخر، في موضع آخر، من القيادة الفلسطينية الممثلة بثاني شخصية بعد عرفات لثقتها المفرطه بالنظام العراقي وانتصاره على أمريكا؟.أما القول بالتصاقه الأبديّ بلغة الضحية فلا يدل إلاّ على جهل مطبق بكتابات( إدوارد سعيد). لنقرأ ماذا يقول إدوارد سعيد عن الضحية في داخل إسرائيل:” أنا لم يسبق لي أن رأيت فلسطينيين مع إسرائيليين داخل إسرائيل، وقد دهشت وتشجعت. إنها ملاحظة دنيوية، ولكنني رأيت أنها رائعة تماما. وكنت أظن أنّ الفلسطينيين سيحاولون أن يكونوا غير متطفلين. لم أشعر بذلك أبداً شعرت أن الفلسطينيين داخل إسرائيل يتصرفون ويتكلمون وكأن البلد بلدهم. لم يكونوا هناك بسبب التسامح أو السماح. إنهم هناك لأنهم ينتمون إلى المكان. كنت سعيداً برؤية ذلك وقد شعرت بكلّ تأكيد أنّ عليهم أن يشعروا ويتصرفوا بتلك الطريقة وقد فعلوا ذلك. لم تكن لديّ أيّ فكرة كيف كانت عليه الأمور” (القلم والسيف ص86-87). كم يبدو الفارق شاسعاً بين كاتب يهرف بما لا يعرف، وآخر يعرف ما يقول، واضعاً كلّ حرف في مكانه الصحيح. يقول إدوارد سعيد:”الفلسطينيون ليسوا أغبياء، وهم لا يتطلعون إلى صدّام حسين كمنقذٍ لهم. ما”يطنطن” له بصخب على أنّه حماس فلسطينيّ لصدّام ما هو سوى تعبير عن الإحباط واليأس من الوضع المفروض علينا من قبل إسرائيل والولايات المتحدة. يعلم كلّ فلسطينيّ أنّه لا يمكن لطاغية ورجلٍ مغامرٍ متهوّر له تاريخٌ سخيف في العالم العربي أن يمثّل أيّ أملٍ بالنسبة إلى الفلسطينيين، والأكثر من ذلك، يعلم كلّ فلسطينيّ لديه ذرّة من المنطق أنّه إذا نفّذ صدّام تهديداته بقصف إسرائيل بصواريخ كيميائية، فسيؤدي ذلك، على الأقلّ، إلى قتل العدد ذاته من الفلسطينيين والإسرائيليين. لذلك، نحن غير شاكرين له بتاتا” (السلطة والسياسة والثقافة ص377). أين إذن الأسطوريات والهوية الخيالية؟ أليست هذه “طنطنة”؟. إن موقف إدوارد سعيد المعني بالحقائق التاريخية المحددة لهو أوضح بكثير من المواقف المتسترة على النظام البعثيّ الهمجيّ، بوقائع لا يزال بعض أبطالها وشهودها أحياء. إنّ مقارنة إدوارد سعيد بكنعان مكية خطلٌ كبير، لا لأنّ فكر إدوارد سعيد يخلو من التناقضات، ولكن لأن المقارنة لا تصحّ أبداً، بين فكر مؤسَّس، جدليّ، رحب، وفكرٍ ضيقٍ، ملتبسٍ، انعزاليّ، منحسر، وبلا تأثير، وليس هنا مجال مناقشته فكتابه (القسوة والصمت)، المبعثر بأفكاره وأحاسيسه، يشي بهذا الضيق والالتباس، ولعل التباسات هذا الفكر هي أحد أسباب التباس الكاتب نفسه، في تقييماته المتلاحقة، فلا ندري كيف يتسق كلام الكاتب:”وليس من قبيل الصدفة أبداً أن يغدو مكية منظر المفهوم الجديد، دولة الفيدرالية، خصوصاً أن الشيعة والأكراد اعتبروه فقيههما المشترك”ص152، بما قاله قبل بضع صفحات “العلة كما يرى مكية أن الفكرة – صيغت توصّلاً إلى بروز فيديرالية لا تقوم على الإثنيات في العراق لكن ظهر أنّ المدافع الأقوى عن الإثنية كأساس للفيديرالية إنما كانت المنظمات الكردية نفسها-“ص148 ، ويبلغ الشطط بالكاتب حدّاً لا يتورع فيه من القول: “فإنّ مفهوماً للوطن أو الدولة كان في طريقه إلى التبلور، لدى أغلبية الإنتلجنسيا العراقية التي خرجت من العراق هرباً من قومية البعث المتطرفة”ص152 مفترضاً أنّ منظرها هو “الفقيه” مكية، الذي لم يعد فقيهاً للشيعة والأكراد حسب، وإنما لأغلبية الإنتلجنسيا العراقية. هل يمكن أن يكون هناك لغو كهذا؟، ثمّ لا يتورع ثانية بالذهاب خطواتٍ أبعد في شططه لتشتمّ من حروفه طائفية بغيضة حين يستنتج:”سيكون أمامنا بالأحرى انقسام سافر، ثقافيّ وسياسيّ وحتى جهوي وطائفي: مقابل التحالف الاستراتيجي الذي سيربط الشيعة العراقيين بالكورد، ثمة تحالف سينشأ بشكل مفاجئ بين القوميين، سواء كانوا عراقيين أم عرباً، من جهة، وبين الإسلامويين المتطرفين السنة، من جهة أخرى. وسيكون من الطبيعي أن تتفجر معركة جديدة/ قديمة كانت مقدماتها قد بدأت بالفعل بواجهة أخذت طابعاً رمزيا أكثر من كونه شخصانياً”ص152.لأعد إذن إلى فحوى سؤالك. يقول عنّي في كتابه: ” وما قاله فالح عبد الجبار تلميحاً قاله عبد الكريم كاصد تصريحاً فأتى بالاستفتاء ذاته على أسماء عرب كمحمد عابد الجابري ويوسف إدريس ونزار قباني مذكراً بمواقفها من حروب صدام وكان مجرد ذكر تلك الأسماء بالطريقة التي ذكرت بها إعلاناً واضحاً بتأييد الحرب”ص188. وما قلته هو:”وفي الأمم المتحضرة يتأسف الكتاب وعلماء النفس لأنهم لا يستطيعون الكشف عن السيكوباثيين مبكراً منذ صغرهم، بينما يصفق كتابنا وعلماؤنا وشعراؤنا للسيكوباثي المكشوف مجسداً في نموذجه الأوضح: ابن العوجة صدام، ابتداءً من الجابري الذي وقف مأخوذاً، عند زيارته العراق، أمام مزاعم البعثيين عن زراعة القمح بعد حصاد الرزّ، دون أن يدري وهو الذهن الموسوعيّ أنّ زراعة القمح في مناطق الرزّ المغمورة بالمياه غير ممكنة، وأنّ البلدان لا تستفلح تبعاً لخصوبتها، بل لحريتها على حدّ تعبير مونتسكيو في (روح الشرائع)، ونحمد الله الذي وفّر لنا جورج طرابيشي ليكشف لنا أنّ “زمخشريّ التاريخ” هذا ما هو إلا مثقف مغشوش، ليس في السياسة وحدها وإنما في التاريخ أيضاً، رغم موسوعاته الضخمة وطبول مريديه الضاجة، مروراً بالمرحومين: نزار قباني الذي رأى في عيني صدام ما لم يره في عيني عشيقاته، ويوسف إدريس العائد بالحقائب المنفوخة بالدولارات، والمتبرع بسخاء بجزء منها لحرب العراق مع إيران، وانتهاء بالجمهرة الواسعة من المثقفين العرب ولاسيما الناطقين منهم بما بعد الحداثة، والمسحورين منهم بتكنولوجيا صدام القادم من روث القرى البعيدة، والأميّ الذي لم يستطع بعد كلّ سنواته في السلطة أن يقوّم لسانه المعوج الذي أُلّفتْ عن لغته “البليغة كتب المصطلحات والقواميس”. إنني أسأل حتى من لديه نصف عقل هل يمكن الاستنتاج من هذا المقطع أنني مع الحرب؟. إن ما قلته، ببساطة، بعيد بعد السماء عن الأرض عمّا يطرحه الكاتب من ثنائيات مملة : وطن أسطوريّ، وطن حقيقيّ .. وكأنه يكتشف قارة جديدة، فأنا لم أنظر إلى محنتي ومحنة الناس من خلال هذا المنظور، بل من خلال الزاوية الإنسانية الصرف. أي أن محنتي، أنا فاقد الاختيار، ومحنة غيري هي محنة إنسانية قبل أن تكون وطنية، بأيّ مفهوم كان، وهذا ما هو واضح في هذا المقطع: “إنّ ما يقلق في هذه الحرب ليس بقاء الأمريكان، وهذا محال، وإن حاولوا أو اشترطوا على معارضة لا حول لها ولا قوة، بل استخدام الأسلحة الفتاكة من الطرفين الشريرين التي سيذهب ضحيتها الآلاف من شعبنا وأطفالنا، أي أن محنتنا إنسانية قبل أن تكون ذات طابع وطني، في تاريخ فقد معناه مثلما افتقنا اختيارنا فيه، غير أن بعض مثقفينا لا يزال حريصاً على تسجيل مواقف تاريخية هي لا تاريخية أصلاً، لأنها لا تستند إلى واقع ولا إلى إمكان، وليست لها قابلية التأثير أبداً، في وسط جماهيري تخاطبه، ومن تخاطبه هم: الإعلام العربي المنافق الذي تتسابق حكوماته لتقديم فروض الطاعة إلى الولايات المتحدة، الشرائح العربية المثقفة التي لم يستطع معظمها أن يعير قضيتنا انتباهاً، الجماهير المضللة بأوهامها عن صدّام ونظامه، وربما الأجيال القادمة التي يتصور البعض أنها ستصفق طويلاً لهذه المواقف العاجزة “الاستشراقية”، وليس أدلّ على استشراقها من مطالبتها بانتخابات ديمقراطية بإشراف الأمم المتحدة، وفي ظل هذا النظام الوحشيّ القائم”. هذا الوضع الملتبس الواضح في آن واحد، كأساطير رولان بارت التي يتحدث عنها في كتابه (أسطوريات) هو محنتنا القائمة حتى هذا الوقت حيث تتداخل الأشكال فلا تتعرف على مضامينها إلا بصعوبة، ودليلنا ما نناقشه الآن من فكر ملتو متعرج لا يستقر على صورة وكأنه في سيرك. ما يريد أن يقوله هذا الكاتب، باختصار، وببساطةٍ أنّ وقوف المثقف العراقي إلى جانب الدعوة إلى الحرب، يعني ضمناً إقراره بالاحتلال الذي يعمل الكاتب حتى الآن في مؤسساته (قناة الحرة)، ومن قبل كان يعمل، بعمان، في مؤسسات المعارضة العراقية القريبة من المحتل أيضاً (مثلما يلمّح إلى ذلك في كتابه)، وإن كان لا يستوقفني كلّ ذلك، أي أنه معنيّ ب “تصنيع الموافقة” من خلال تعميم موقفه المتوهم، وحشر الثقافة العراقية في ثنائياته المملة وكأنّ المثقفين العراقيين تتوزعهم كتلة أو كتلتان عنوانها، أو عنوانهما الموقف من الحرب. وهذا محال، ليس في الثقافة وحدها، بل و في السياسة أيضاً، وهي الأشدّ خبثاً حتى من الواقع. وبعد هذا وذاك فإن محتوى الكتاب لا علاقة له بالعنوان على الإطلاق، فلم أر خريفاً ولا ربيعاً بل عبثاً بالكلمات لا حدّ له، في ظرف لا يتحمل مثل هذا العبث، وادعاء بالوقوف خارج الإيديولوجيات وهو المغمور بها حتى العنق، متغافلا عن أن الإيديولوجيا لا يعلنها المؤلف بل النص. ولا أدلّ على ذلك من المؤسسات الإعلامية التي هو قريب منها، والتي تدعي الحياد، دون أن تخفى إيديولوجياتها على أحد.