طه حسن :
لا جدال في أن التسول ظاهرة قديمة جديدة، غير معزولة عن أسبابها المعلومة. يقترن وجودها بوجود الإنسان على وجه هذه البسيطة، إذ لم تنفلت المجتمعات من هذه الظاهرة التي تناسلت أشكالها وتعددت أساليبها في الزمان والمكان على حد سواء. وقد استشرت مظاهرها بشكل فاضح في الوقت الراهن بسبب غياب الإرادة السياسية وشح النصوص وهشاشة أسباب الاستئصال. فالمعاينة اليومية تفيد بأن حرفة التسول تجاوزت المعوزين الحقيقيين إلى بعض شرائح المجتمع التي كانت بمنأى عنها لأسباب اجتماعية ونفسية وأخلاقية..، علما بأن هذا التجاوز ليس مرتبطا دوما بالفقر المادي، إلا أن يكون فقرا معنويا، لأن الأصل هو التعفف في الحال والمقال، ومن غير إلحاف في المسألة.
وقد ترتبت عن ذلك سلوكات مرضية وتصرفات مذمومة تستفز الضمائر والمشاعر صباح مساء. فبمجرد استغراقك في قراءة جريدة ما داخل مقهى، تفاجئك يد ممدودة استجداء. وفي الطريق، تصادفك أغلب نماذج المتسولين: منهم من يحدق بنظرات لها أكثر من دلالة، ومنهم من يجهر بالسوء احتجاجا على من وضد من، ومنهم من يتسول باستعمال أحداث غير الفروع أو كبار غير الأصول، أو وريقات تبرر احتراف التسول مشفوعة بالدعاء للمتصدقين العرضيين… . فلا تستغرب إذا رأيت متسولا انتصب أمامك لينفث دخان لفافته، أو رفض نقودا بدعوى أنها زهيدة، أو رغب عن الطعام لتفضيل النقود عليه. وقد يستوقفك للتأمل والأسى “قميص من النار” يرتديه المتسولون عند التزاوج فيما بينهم لينجبوا أطفالا متسولين. ويغفل جلنا موقف الفقه من مثل هذا الزواج، إذ ذهب الفقهاء إلى أن النكاح تعتريه الأحكام الخمسة (واجب،…)، كما أشار إلى ذلك العلامة الكتورأحمد الخمليشي في كتابه المتعلق بالأسرة. وهذا النوع من الزواح يطرح أكثر من سؤال على مستوى إجراءات النكاح ومستلزماته وآثاره الاجتماعية والنفسية… . ويعلم بعضنا ما تنص عليه القوانين، خصوصا القانون الجنائي، في مسألة التسول التي تحولت إلى إشكالية تستلزم النظر والعمل لإبطال سحرها وفك ألغازها. فما يؤخذ على تطبيق النصوص بشأن التسول ينسحب على كل الظواهر التي تفتقد إلى نجاعة القوانين وفاعليتها.
وفي بابي الشهادة و المشاورة، قيل بعدم قبول الأولى من الرجل الذي بلغ به الفقر أن يسير حافي القدمين، وبالنهي عن طلب الثانية من كل من لا دقيق له في مأواه لشرود العقل المطبق عندهما. و لا يغيب عنا في هذا السياق صيغة الدعاء الذي ورد فيها الفقر والكفر وعذاب القبر مجتمعين. ونعوذ بالله وإياكم منهم جميعا في هذا الشهر العظيم.
و لا تقل هذه الآفة خطورة عن الظواهر السوسيو- اقتصادية الأخرى بسبب ما أصبحت تنطوي عليه من “تقنيات فنية” جعلت منها أحيانا مهنة مربحة يتفرغ أفرادها لصنعة “الإثراء على حساب الغير”، إذ استطاب البعض منهم في اليوم الواحد الطواف بالعديد من الأماكن والطرقات المحفزة لسعيه، حتى ألف الخمول والكسل والعزوف عن العمل. فتكشف ادخاره للمال بعد الوفاة. ناهيك عن جرأة الاستزادة من الكسب التي تفتق عنها دهاء من أتاهم الله بسطة في الجسم، فلا يتورعون عن استعطاف كل الناس، بما فيهم الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. الشيء الذي يفضي لا محالة إلى التشكيك في مقولة “العقل السليم في الجسم السليم” إن أدركنا أن سلامة الجسم والقلب “حاجة” وسلامة العقل والدماغ “حاجة ثانية”.
وفي حديث الزمان، أصبح يا ما أصبح من الصعوبة بمكان إدخال يدك في جيبك وإخراجها سالمة بيضاء في لحظة ما، إلا وامتدت إليها يد غريبة من جهة ما. ولما استأنس أحد المصلين بعد التراويح برؤية متسولين من غير المعوزين، تساءل إذا ما كان يجوز له أن يتصدق أم لا على هؤلاء الذين ينتظرون أمام المسجد ولا يصلون ! وبما أن تساؤله كان أكبر مني إفتاء، اهتديت إلى أن أرشده بتوجيه سؤاله إلى إمام المسجد وإلى أهل الذكر. واكتفيت بالإنصات إليه وهو مازال مغتاظا، فحكى لي أنه ذات يوم تصدق على متسولة بعلبة حليب، فأعادتها إليه بذريعة أنها لا تستسيغ شربه. فانصرف بالصدقة كارها لنفسه وغاضبا على المجتمع، ثم أسر إلي قائلا: “لا تستغرب إن أصبحت القهوة بيضاء والحليب أسود، ولم يبق للثالث المختلط أي معنى”. فأضاع صاحبي تلك الكلمة الطيبة التي يرد بها، وبقي له مثلها.
وعليه، يكون من الأهمية القصوى التطرق إلى معضلة التسول وتحذير الأثرياء وشجب الإفقار، مع تحديد أسبابها الرئيسية وحصر أشكالها وانتهاج سبل مكافحتها بلا هوادة. و مما لا ريب فيه أن الحلول نجدها في أكثر من رأي وأن التدابير العملية لا تنقص الأمة الإسلامية التي لها – والحمد لله – من الموارد الطبيعية والبشرية ومن الفضائل الأخلاقية ما يطهر ذاتها من مثل هذه الآفة. وحتى نظل مكتوفي الأيدي تتفرج “بالتزام” على مأسسة التسول، يبدو الاستعجال في مقاومة المعضلة أشد إلحاحا وأكثر راهنية من أي وقت مضى، اللهم إذا كانت “الدروشة” اختيار مقصود كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة. فلتخرج خير أمة أخرجت للناس على هذه الظاهرة مستنبطة أدوات عملها من القرآن الحكيم والمواثيق الإنسانية، لتنهض بواجباتها نحو الفقراء والمحتاجين، مع الحب والدنو منهم – عملا بوصية سيدنا محمد (ص) لأبي ذر الغفاري – حتى يطول فرح السائل والعائل ولا نعاقب حرمانا بحرمان.