هناك إجماع عام من قبل النقّاد بأن الكاتب السوري “زكريا تامر” يعدّ رائد الحداثة في القصّة العربيّة المعاصرة فهو لم يتقيد بمذهب أو منهج فنّي محدّد، بل أسّس لتيّار جديد اتكأ فيه على الرمز والحلم والأسطورة لإضفاء مزيد من الحيويّة والتنوّع على خطابه القصصي، نظراً لما يتمتَّع به الرمز من طاقة إيحائيّة، تفتح آفاقاً خلاقة أمام المبدع والقارئ على حدٍّ سواء.
وبالإضافة إلى الأسباب الفنية الجمالية؛ لجأ تامر إلى الرمز لدواعٍ قسرية متعلقة بالكبت وقمع الحريّات والرقابة، ليحول دون التعرض للقصاص والملاحقة، ولاسيّما حين تناول الممارسات القمعية للمؤسّسات السّلطويّة القائمة، معتمداً على الأدوات والوسائل الرمزيَّة، ليعبّر عن عناصر العالم الواقعي عبر صور إيحائيّة.
“ظلمات فوق ظلمات” قصّة من مجموعة “سنضحك”، مشبعة بالإسقاطات والإحالات السياسيّة والنفسيّة، يحاول “تامر” من خلالها التعبير عن هموم المواطن المقهور وفضح ممارسات القِوى الحاكمة وما نتج عن تسلطها من دمار وخراب إنساني واجتماعي واقتصادي.
وتأتي القصّة على شكل ومضات وصور غير مترابطة تسلّط الضوء على آلام الشعوب المنكوبة وأزماتها بشكل يثير الوجدان الإنساني ويهيّج المشاعر، لتتحوّل هذه الصور والمشاهد إلى أيقونات خالدة لمعاناة البشريّة الرازخة تحت حكم الطغاة على مرّ العصور.
وتبدأ القصّة -التي تنطلق من عناصر واقعيّة قبل ظهور الصور والمشاهد اللاواقعيّة- بالإشارة إلى الفوارق الطبقيّة المتفشّية في المجتمعات العربيّة، فهناك من يعيش في ثراء فاحش ويصفهم الكاتب بـ “ساكني الطوابق العليا”، وهناك من يقبع تحت وطأة الفقر والعوز، ويرمّز لهم بـ “ساكني الأقبية المشبعة برائحة الرطوبة والمرض”.
وحين يلمح سكَّان الأقبية جارهم في الطابق السابع، يطلقون صيحات متوسّلة تطالبه بالنزول ليتسكَّع معهم في الشوارع، ويشاهد ما لم يكن يتوقع يوماً رؤيته. وبنزوله إلى الشارع، تبدأ الحقيقة بالظهور على شكل مشاهد كابوسيّة مشبعة بالمعاناة والآلام، متمثّلة بصيحاتٍ مخنوقةٍ لأطفال وعصافير أعدموا على المشانق بغير ذنب، ومشاهد لأناسٍ عاشوا وماتوا في المقابر ولم يتذوَّقوا طعم الحياة خارج القبور، فقد انقلبت الأحوال، وعم الخراب والضياع في كلّ مكان؛ كما يظهر في المقطع الآتي:
(رأينا مشانق يتدلى منها أطفال وعصافير…
رأينا ورداً أبيض تحوّله الدماء المسفوكة ورداً أحمر…
رأينا أمهات يرمين أطفالهنّ في صناديق القمامة…
رأينا طيوراً نسيت كيف تطير…
رأينا أمماً تولد في القبور وتموت في القبور).
ويُلاحظ أنّ القصّة غنيّة بالصور، والرمز فيها مكثّف في محاولة من الكاتب الإحاطة بأكبر قدر ممكن من المشاهد المعبّرة عن هول المعاناة الإنسانيّة المشبعة بالتعقيدات والتناقضات، ولاسيّما معاناة المناضلين التقدّميين؛ كما يظهر في المقطع الآتي:
(رأينا أجمل الكلمات تُخنَق…
رأينا سجناء يكرهون يوم خروجهم من السجن…
رأينا شعوباً معصوبة العيون تنتظر لحظة إعدامها، ويتأخر جلادوها في التنفيذ حتى يتمتعوا برؤية رعبها).
ولعلّ أكبر هاجس للكاتب يتمثّل بالكشف عن الممارسات التعسفيّة ضدّ المثقفين الثوريّين، فأيّة محاولة للتعبير عن الرأي والمناداة بالديمقراطيّة والمطالبة بنيل الحريّات العامّة، تواجه بسيل من الإجراءات الأمنية والعسكريّة المتمثّلة بالاعتقال والتعذيب وجميع الممارسات التي تهين كرامة المرء وتدنّس إنسانيّته.
وكما يرى الدكتور “سمر روحي الفيصل” في كتابه “السجن السياسي في الرواية العربيّة” فالواقع (الاجتماعي – السياسي العربي غير ديمقراطي، سيطرت عليه سُلطة استعماريّة ثمّ سُلطة وطنيّة، ورغم أنّ السُّلطة الوطنية قدّمت للمواطن إنجازات عديدة، ولكنّها كبّلته وحجزته عن دائرة الفعل وفرضت عليه تنظيمات سياسيّة تابعة لها، لتمنعه من حريّة الرأي والتعبير).
وينتقد “تامر” حالة الخنوع والاستسلام التي يحياها أبطاله، فالثورة غائبة عن قاموسهم، ولا يسعهم إلا البكاء والنواح تحت أردية سعادة زائفة؛ يقول الكاتب:
(رأينا صخراً يبكي…
رأينا مدناً تنتحب طوال الليل، وتمسح دموعها في النهار مطلقة الضحكات…
فنظرنا بفضول إلى جارنا العليم بكل شيء، فإذا هو واجم غاضب كأن الذين رآهم يتعذَّبون هم أبناؤه العاجز عن نجدتهم، ولم يحاول في أيّ يوم الرجوع إلى حيث كان يقيم).
وأخيراً؛ نلحظ مدى تأثّر الجار الثري بهذه المشاهد المروّعة، لتتحوّل هناءة عيشه إلى غصّة، وهدوؤه إلى غضب جامح فيثور بطريقته الخاصّة رافضاً العودة إلى برجه العاجي.
ولكن ما الذي يرمي إليه القاص عبر وصفه الجار بـ “العليم بكلِّ شيء”؟
هل ينتقد مثقّفينا ودورهم السلبي في المجتمع وخنوعهم وتحالفهم مع قِوى الفساد؟
أم رمَّز إلى كون الجار هو القائد المخلّص والمسيح المنتظر؟
أم هو ببساطة يمثّل قوّة روحانية فوق قوّة البشر تستنكر ظلم الإنسان لأخيه؟ وتستهجن شريعة الغاب السائدة التي تتناقض وشرائع الأنبياء.
أسئلة كثيرة يضعنا “تامر” بصددها ليترك الإجابة مفتوحة على الكثير من الاحتمالات، علنا نستوعب الواقع المأساوي، والصور السوداويّة، التي تبدو وكأنّها خارجة من لوحة سرياليّة، حيث الدهشة والألم والعبثيّة، فهي لوحة عصيّة على الفهم ولكنّها مدهشة بقدر ما هي مرعبة.
——————-
* المراجع:
1- تامر، زكريا: مجموعة “سنضحك”، دار الريس، بيروت- لندن، ط1، 1998.
2- الفيصل، د.سمر روحي: السجن السياسي في الرواية العربية، دار جروس برس، لبنان، ط2، 1994.