طه حسن :
لقب “السي جواليق” في المدينة برجل من “الألبًة” (*). أوتي بسطة من الثراء والهيبة وفراعة الطول. جعلته هذه “المزايا” أن يكون من أعيانها، إلا أنه كان مختلفا عن أثريائها، معلوما بالمغايرة بين ظهرانيهم، مؤمنا بمبدإ “خالف تعرف” حتى النخاع، بحيث إن أسراره الحميمية هي أشياء معروفة لدى الداني والقاصي. يضع عند النوم ليلا قدميه على الوسادة بدل رأسه. عند القيلولة، يضع رأسه بدل قدميه. حسب تأويله المشاع بين الناس، إن أسلوبه الأول سبب بشارة خيره وثراه، وشأنه الثاني سبب طرد حسد الناس والشيطان عنه. في تلك المدينة، يتداول البسطاء والسكان العاديون فيما بينهم ما يصدر من أفعال وأقوال عن الأعيان والأغنياء الذين يتنافسون فيما بينهم. وكان الأثرياء يعلمون أن هؤلاء الناس يهابونهم ويعرفونهم بأسمائهم وألقابهم ويلمون ببعض أسرارهم.
ككل الأثرياء، يمتلك السي جواليق كلبا جميلا، ذا جودة عالية كما هو متعارف عليها في الثقافة البيروقراطية. عندما استورده من الخارج، أصبحت بينهما علاقة وثيقة لا توازيها رابطة الإنسان بأخيه الإنسان. كان الكلب يحمل لقب “مونامور”. ويناديه السي جواليق تارة بالفرنسية وتارة بالعربية: تعالى يا حبيبي، تعالى. جعله يفهم اللغتين معا حتى يكون عاقلا. عندما يمشي مونامور وصاحبه على أحد الأرصفة، يمشي الناس على الرصيف الموازي لهما إذ يكنون لهما شيئا من الوقار المدثر بالخوف.
قدمت إلى تلك المدينة امرأة اسمها “زروالة” لزيارة مريض لها. بعد أيام، اكترت مسكنا للإستقرار. كانت مشرفة على سن اليأس، وعلى قدر من الجمال رغم شفتيها السميكتين. ميسورة دون الأغنياء، مفتونة ب “الألبة”، تتقرب إليهم أينما كانوا، وتسعى إلى الاستزادة من الثراء كلما أتيحت لها الفرصة إلى حد التمسح بعتبات أهله. لم تكن تعرف السي جواليق و لا تعلم عنه أي شيء. فبمجرد ما أن مر بجانبها على نفس الرصيف، نادى على كلبه: مونامور، تعالى. التفتت إليه زروالة مبتسمة. تساءلت في نفسها: “إن الذي يطلق مثل هذا اللقب على الحيوان، فبماذا سيتفوه إزاء أخيه الإنسان، خصوصا الأنثى؟ لكن السي جواليق الذي كان له مظهر مغر يوحي بالبذخ، كما جودة كلبه التي تثير الانتباه، لم يعرها أي اهتمام، ولم يشعر بها قط. فعقبت على مناداته الثانية قائلة: حرام عليك أسيدي أن تنادي عليه بتلك الدلاعة. نحن في مدينتنا نرمي الكلاب بالحجارة وكفى. فهو ليس بإنسي يحتاج أو يستحق مثل هذه المناداة. لكن السي جواليق الذي أفسدت عليه زروالة عالمه الخاص المسيج بتعالي الإنسان، واقتحمت حرمته المرتبطة بالمغالاة في محبة الكلب والدفاع عن حقوق الحيوان على شاكلة “بيرجيت باردو”. رد عليها بعنف وازدراء: هذا الحبيب مونامور أفضل منك بألف درجة، وأرقى من المدينة التي قدمت منها بكاملها، وأوفى من أصولك وفروعك وأترابك ومن هم منك في العدم. إنه حارسي الأمين وأنيسي الوحيد. أحبه ويحبني. أقبله ويقبلني. إنه رائع يهتدي إلى ما أريد، يقتفي آثار أمثالك، وتفوق حاسة الشم عنده كل حواسك بكثير. يميز بين رائحتي الطيبة والروائح الأخرى، بين الصالح والطالح. سأبني له قبرا إن مات قبلي، وسيحرس قبري إن مت قبله. وأنت أمية جاهلة لا تعلمين و لا تميزين. وإذا لم تنسحبي من أمامي، سأعمل على إعادة تربيتك بطريقة لا تحمد عقباها، وسيلقنها لك مونامور… صار يكيل له المديح حتى ساوى بين وزن جسدها الضخم وقيمة الكلب الذهبية.
لكن زروالة التي أضاعت هذه الفرصة، ولم يعد يخيفها أي شيء، وليس لديها ما تخسره، استجمعت أنفاسها، ولاذت بقاموسها الشخصي المليء بمستحضرات الشتم والسباب، الذي تعمل على تجديد كلماته اللاغية كلما تقادمت أو نضبت أو عن لها ذلك. فانهالت عليه بصوت عال أمام أعين الناس بكل ما جاد به لسانها من نعوت وأوصاف وشوارد اللغة الدارجة، حتى المخلة منها بالحياء. تدخل كل من يعرف السي جواليق ليعيدها إلى جادة الصواب. لم يرد عليها، وظل يتفرس ويحدق في أسنانها التي انفرجت عنها الشفتان السميكتان ليتبين أنها مكسوة ذهبا. فانتهى إلى أن زروالة في تلك اللحظة كانت تختار من الشتائم ما يساعدها على إظهار أسنانها للجموع. تمرست بهذا الأسلوب حتى الإتقان والتلقائية. حاول السي جواليق أن لا يخرج عن طوره إلا قليلا، وأن لا يظهر غضبه الكبير للناس. حافظ على هدوئه الذي اعتاد عليه في الحالات الاستثنائية واللحظات الحرجة. غادر الرصيف منذرا إياها بقوله: سترين ماذا سأفعل. فردت عليه: إني أكره الكلاب المندسة بين كل الكائنات.
عاد السي جواليق إلى بيته الفخم في غاية الغضب. لم يستسغ ما حدث. أسدل الليل ستاره. وضع هذه المرة رأسه على الوسادة بدل قدميه. لم يغمض له جفن. أحس بالإهانة تقض مضجعه. أخذ يحدث نفسه في سكون الليل قائلا: لابد لي من أمرين أقوم بهما بحق تلك اللعينة “الانتقام و رد الاعتبار”، و لم لا مادام أن كلبي يساوي وزنها ذهبا؟
بعد ثلاثة أيام من التفكير، قرر منح الكلب وضعية غير منتظرة، لا يستفيد منها آنذاك إلا الأثرياء. اتصل بصانع الأسنان الوحيد والمعروف باسم “شمشوم” في المدينة. طلب منه تزيين كل أسنان مونامور بالذهب بالشكل الذي يميز طقم فمه عن أسنان زروالة مهما كلفه الثمن. سارت الركبان بأسنان الكلب الذهبية، وثارت ثائرة زروالة التي غدت تخفي أسنانها قدر الإمكان. غبط بعض الناس كلبه، وحسده البعض الآخر، إلا أن فرحة السي جواليق اتكست قليلا. بلغ إلى علمه وفاة شمشوم الذي رد إليه شيئا من الاعتبار ومكنه من الانتقام. بكى بمرارة على منقذ ماء وجهه. فتساءل: لماذا لا تبكي السماء على مثل شمشوم وهم قلة قليلة؟ !..
ظل الكلب ينبح في الشوارع فرحا بأسنانه النفيسة. زادته الصياغة الذهبية قيمة مضافة للظفر باحترام الناس أكثر فأكثر، وبالتالي بسطوع نجم مالكه ومحبته له، والحصول على المزيد من الذهب عند الاقتضاء مقابل الوفاء الدائم.. ما أن مرت شهور قليلة حتى شاع في المدينة خبر اعتقال العون “لعباني” الذي كان يغسل الموتى بالمستشفى المركزي بالمدينة مقابل أجر هزيل. ضبط متلبسا باقتلاع أسنان الموتى الذهبية خلال غسلهم والاتجار فيها بعيدا عن المدينة. كانت آخر ضحاياه زروالة التي توفيت في حادثة سير في الطريق بين مدينة السي جواليق ومسقط رأسها… . استمر مونامور في التبجح بأسنانه. وظل السي جواليق يمن على الحبيب بجوده وعطائه، وببقائه على قيد الحياة بعد وفاة زروالة، واقتلاع الذهب من فمها مع بعثرة الأسنان..
قضى لعباني العقوبة الحبسية من نحس أسنان زروالة. بعد أسبوع، مات الكلب بفعل المرض والشيخوخة. يؤكد السي جواليق أن كلبه وافته المنية بحضور الأجل، وأنه سيحاول أن يواري جثمانه الثرى بعيدا عن زروالة. بكى بما فيه الكفاية. اتصل بالعون لعباني قصد نزع أسنان الكلب برفق. لكن لعباني الذي أصبح يخشى حالة العود وظروف التشديد والسوابق، رفض طلب السي جواليق بلباقة حتى لا يعود إلى السجن بسبب الكلب العدو اللدود لزروالة. لم يجد السي جواليق في ذلك الحين من يقتلع أسنان حبيبه الهالك، وهو الوريث الأول والأخير. سار يبحث عمن يسترجع له الذهب لاستعماله ضد إهانات الأشخاص القادمين من مسقط زروالة، واحترازا من بؤساء مدينته الذين سيحاولون اقتلاع الأسنان ذائعة الصيت..
—————–
(*) كلمة تتداول لوصف شخص يجمع بين الثراء والأناقة والنخوة إذ يظهر ذلك من
كلامه وسلوكه ولباسه، وهي في مجملها وصف للقدح أوالمدح بحسب الأحوال.