عصام القدسي :
يوم ربيعي، مشرق جميل . والساعة تقارب العاشرة صباحا ، كانت أمي تجلس قبالتي خلف الطاولة تصوب بصرها ، مرة نحو المطبخ في نهاية الصالة ، لتعود تتأمل ومن خلال النافذة الملاصقة للطاولة ، عصفورا يدور مضطربا داخل شجرة في حديقة المنزل . أما أنا فقد كنت أتظاهر بالانشغال بأوراقي التي أمامي ، اقلبها أو أدون فيها شيئا غير مفهوم . لقد كنت في حقيقة الأمر منشغلا باختلاس النظر إليها. كان وجهها شاحبا ، وعيناها غائرتين . كانت تراقبني بصمت من خلال نظارتها القديمة .وكدت اسألها عن سبب زيارتها المفاجئة هذه .لكنني عدلت عن الفكرة في اللحظة الأخيرة .لقد خشيت ان تفسر سؤالي خطأ ، فتحسب انني متضايق من وجودها معي . انها في الثالثة والسبعين الآن .قبل سنوات كانت تنتقل بين ابنائها في بيوتهم .وتقضي اياما بينهم .وذلك بعد رحيل ابي عن الدنيا وبقائها وحيدة . اما الان فقد ناءت اخيرا بعبء العمر .وارتج المرض عليها باب السكينة والاختلاء إلى نفسها فآثرت ان يكون مستقرها الاخير، بيت ابنها الاصغر وزوجته (الطفلة) كما يحلو لها ان تدعوها تحببا ساعة الرضا ، وإشارة الى جهلها بامور الحياة ساعة الغضب . لذا يقوم ابناؤها بزياتها بين آونة واخرى مع اطفالهم. آخذين لها معهم بعض الهدايا . وخشيت ان يكون قدومها هذا بسبب خصام شب بينها وبين زوجة اخي . وتجاوز الحد المألوف . ممادفعها الى ترك البيت دون علم اخي واللجوء الي. ولم اكن اجرؤ على الاستفسار منها عما اذا كان حصل شيء من هذا القبيل . الا انني عمدت الى التلميح بذلك ، حينما رحت الح بالسؤال عن اخي وزوجته ، كانت ترد علي بارتياح وسرور مما جعلني مطمئنا سعيدا بزيارتها..لم يكن هناك ما يعكر الصفو الذي بيني وبين امي يوما ما. فمنذ الطفولة وانا اقرب ابنائها اليها فانا الاكبر . ولطالما كانت تخصني برعاية تفوق رعايتها لبقية اخوتي . الاانها كثيرا ما تبدي ألمها حينما يفضي الحديث بنا الى مسألة رفضي الزواج ، برغم بلوغي سنا متاخرة . كنت احسب ان الحديث في هذا الموضوع قد اصبح مكرورا بعدما تحدثنا به مرات لاتحصى . ولم تجد لدي الا الرفض اما هي فما زالت تتعلق بامل واه ، لم يلبث ان يتبدد ليحل محله شعور بالخيبة والحسرة . قالت وهي تتأملني : ـ لقد هرمت
قلت محولا اهتمامها :ـ سأعد لك الفطور.
قالت : ـ فطرت.
قلت وانا اهب واقفا:ـ أذن سأعد لك الشاي .
لم تعترض ، الا انها سألت بتهكم : ـ وهل تجيد إعداده..!!
قلت بود : ـ سترين .
وخلال لحظات كنت اقف في المطبخ ، اضع اناء الشاي على الموقد وصوتها يأتيني ضعيفا واهنا . كانت تحدثني بامور شتى .ثم تتوقف لتسألني عن امر ما فاجيبها ببهجة مفعمة بالحب. وما انتهيت حتى رحت متناولا قدحا من سلة الصحون بقربي .وضعت السكر وسكبت الشاي ودسست الملعقة فيه .ثم هرعت اضعه امامها باعتناء .قالت وهي تحرك الملعقة في القدح :
ـ حينما كنت ولدا ، لم تكن تصنع شيئا لنفسك .كان الجميع في خدمتك .
وتشاغلت عنها بأوراقي ، وأكملت قائلة:
ـ كنت اقول مع نفسي وما الضرر في ذلك . غدا ستتكفل به زوجته بدلا عنا .
لقد كنت اتظاهر بالتفكير في الوقت الذي كنت اصغي اليها باهتمام ورأيتها ترفع القدح الى فمها الذابل بحذر وهي تتمتم :
ـ آخر الامر ، تزوجت الكتب لتغرق بالهم بدلا من امرأة تهتم بأمرك وترعاك .
وحسبت انها سترتشف منه فتبدي استحسانها الا انها ابعدت القدح عن فمها بسرعة ووضعته امامها ، وعلامات الاستياء بادية على وجهها . قلت كتلميذ يسأل معلمه عن سبب رسوبه بالامتحان : ـ ما به .. ؟
قالت بأمتعاض: لم يغل بعد .
قلت بخنوع : ـ سأعيده على النار .
قالت وهي تشرع كفها بوجهي : ـ لا. لا هذا يكفي ، فلم اعد بحاجة اليه .
ولم التفت الى كلامها .واخذت القدح وعدت لأقف امام الموقد في المطبخ من جديد . كنت مصرا على اجتياز الاختبار الذي وضعت نفسي فيه بارادتي .وتركت الشاي يغلي جيدا . ثم اسرعت املأ القدح. وهرولت اضعه امامها وانا مسرور . ورايتها تنظر الى داخل القدح من خلال نظارتها بحيرة كما لو كانت تتفحص ضفدعا وضع امامها سألتها : ـ لم تشربي ..؟
قالت بتذمر : ـ نسيت الملعقة ..( ثم ) .. واظن السكر أيضا .
اسرعت الى المطبخ . وعدت بالملعقة والسكر . وضعت السكر مرتين والملعقة في القدح . وانا متأكد من رضاها هذه المرة . تطلعت بوجهي بريبة وبالقدح وهي تحرك الملعقة فيه بيد متراخية . كانت عيناها المتعبتان يثقلهما النعاس لكن اجفانها الذابلة تقاومه . وفجأة فرقع القدح تحت وطأة كفها ، واندلق الشاي . بهتت واخذت اجفانها تختلج كجناحي عصفور اصابه الفزع ، وهي تراقب الشاي المندلق يرسم بقعا وخطوطا مختلفة على وجه الطاولة . بعدها راحت تنظر بذهول . ثم ساد الصمت والوجوم بيننا..
—