حوار: خالد السلطان :
تقديم: جاسم العايف :
في منتصف عام 1978 استوطن الشاعر(مهدي محمد علي)،المنافي، بعد هروبه برفقة الشاعر عبد الكريم كاصد ، من فظاظة النظام المنهار وتعسفه وحملته الدموية ضد القوى والشخصيات الوطنية التقدمية. وكانت رحلتهما عبر بادية العراق الجنوبية، قاسية ومحفوفة بمخاطر عدة ، و دامت ثمانية أيام، بدلالة بعض المهربين العراقيين، نحو الكويت ، ومنها بعد حوالي الشهرين، انتقلا إلى (عدن) بجوازات سفر يمانية. في عدن عمل (مهدي) محرراً في جريدة( الثوري) الناطقة باسم الحزب الاشتراكي اليمني أكثر من خمس سنوات. ثم انتقل من(عدن) وجاب منافيّ كثيرة، منها: دمشق ،وبيروت، وليبيا التي عمل فيها مدرساً للغة العربية كونه قد تخرج في كلية التربية / قسم اللغة العربية – جامعة بغداد ، وعمل سنوات مدرساً للغة العربية في البصرة وبابل ، وعاش فترة في هافانا وكذلك موسكو ووارسو. أصدر (مهدي) خلال تلك الرحلة الطويلة في المنافي المتعددة المجموعات الشعرية التالية: رحيل عام 78/ وزارة الثقافة والإرشاد القومي / دمشق 1983 /، سِر التفاحة/دار بابل/ دمشق 1987/، شمعة في قاع النهر/ وزارة الثقافة السورية 1995/، خطى العين/ اتحاد الكتاب العرب/ دمشق 1995/ ، سماع منفرد/ دار المدى للثقافة والنشر/ دمشق 1996/، ضوء الجذور/ وزارة الثقافة السورية 2001/ ، قَطْرُ الشَّذى/ الهيئة العامة السورية للكتاب 2008 ، وكذلك كتابه:البصرة جنة البستان/دمشق- دار المدى للثقافة والنشر. وسبق لـ(مهدي) أن نشر قصائده في مجلات الأقلام والأديب العراقي والثقافة الجديدة ومجلة الكلمة ومجلة ألف باء وصحف الجمهورية والفكر الجديد وطريق الشعب، وكان مهدي عضواً في إحدى اللجان الثقافية التي أسستها محلية الحزب الشيوعي العراقي في البصرة، بعد صدور جريدة (طريق الشعب) ، وساهم في الكتاب الشعري” سلاماً… أيها الحزب” الذي صدر في الذكرى الأربعين لتأسيس ” الحزب الشيوعي العراقي” عن دار الفارابي- بيروت عام 1974 ، وكانت قصيدته بعنوان” مع لوركا.. في الطريق إلى قرطبة”. وساهم أيضاً في “الملحق الشعري”الذي أصدرته مجلة “الثقافة الجديدة” بصفته ملحقاً لعددها المرقم (83 ) في تموز عام 1976 ونشرت فيه قصيدته”مواقع”. كتب عنه و قصائده الشاعر سعدي يوسف والناقد أنور الغساني والشاعر عبد الكريم كاصد والشاعر صادق الصائغ والشاعر مصطفى عبد الله والقاص والروائي فيصل عبد الحسن حاجم والكاتب جاسم العايف، وبعض الكتاب والنقاد العرب. واختير خبيراً لسلسة كتاب في جريدة الذي تدعمه المنظمة العالمية للثقافة (اليونسكو) باللغة العربية، ويصدر شهرياً مع بعض الصحف العربية و العراقية. نشر(مهدي) مقالات سيسو- ثقافية في صحف عربية ، تصدر في بعض العواصم العربية والأوربية، كما عمل ،سنوات، محرراً للقسم الثقافي في مجلة (الثقافة الجديدة) التي كانت تصدر خارج العراق. والغريب، والمدهش حقاً، انه لم يدع إلى مهرجانات (المربد) التي أقيمت بعد سقوط النظام ، وكأنه لا ينتسب للشعر العراقي أو للبصرة بالذات؟!. رغم محن المنفى وعذاباته لكن( مهدي) بقي يعيش حياته في مدينته “البصرة” ، فكتب عنها كتابه (البصرة جنة البستانْ). وقد استغرق العمل فيه ثلاث سنوات، بدأ فيها من عام 1982 حين استشرف المستقبل، ورأى انه ربما قد لا يعود لمدينته ، وفعلاً تحقق ذلك، باستثناء زيارة خاطفة للبصرة منتصف شتاء عام 2005.خلال زيارته تلك إلى البصرة ، احتفى به عدد كثير من الأصدقاء ، وخصه اتحاد أدباء وكتاب البصرة بجلسة خاصة، قدمه فيها الناقد جميل الشبيبي. الزميل الباحث الأستاذ خالد السلطان أجرى معه هذا الحوار، وكانت مسألة (ثقافة الداخل والخارج)،ومسألة(احتلال العراق) من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة( الولايات المتحدة الأمريكية)، منتشرة ورائجة ومهيمنة على الوسط الثقافي – الأدبي بين المثقفين في العراق وخارجه حينها. ( مهدي) في كل ما كتبه يعي جيدا ً انّه جزء من توجه شعري ، همه التحديق ملياً بالواقع وجدله وناسه (القابعين) في أسفل القاع الاجتماعي. ميزة هذا الحوار انه آخر حوار اجري مع( مهدي) و في (بصرته/جنة بستانه) بالذات. لفترة طويلة فقد هذا الحوار لكني عثرت عليه صدفة في أوراق قديمة ليّ، وأخبرت الزميل (السلطان) بذلك ، فالتمسته أن يسمحَ ليّ بنشره ، فوافق بشرط أن اكتب له مقدمة. في الذكرى الثالثة لرحيل ” مهدي محمد علي” في حلب انشره
*في ضوء قراءتنا لقصائد عدد من الشعراء العراقيين ( المغتربين) ، لمسنا هيمنة مفردة ( الحنين) بجميع أبعادها الإنسانية والعاطفية ، وعليه ما الجدل الممكن انجازه – طبقاً لتصوركم – بين وعي الغربة الشقي والتعالي عليها إبداعياً ..؟
** أنا – شخصياً – أرى ان جوهر الحنين للوطن هو الحنين للطفولة والصبا وما تأسس عليهما ، والوطن هو الأشياء والأحياء وما اكتنفهما من حوادث ومسارات .. الوطن هو البيوت وما فيها ، والدروب وما فيها .. هو الإنسان والحيوان والماء والشجر ، ولكن الإنسان هو العنصر الفعال في كل ذلك ، وهو في الوقت ذاته العنصر المنفعل بكل ذلك ، وعندي أن ثمّة فرقاً بين مكان الوطن وزمانه من جهة ، ومكان المنفى وزمانه من جهة ثانية ، وهو أن الأول منجز قد توقف ظاهرياً ، والثاني مفتوح يأتي بالمتوقع وغير المتوقع .. ويظل الوطن – رغم توقفه الظاهري – يتناسل في الروح ، ويستعاد مرات ومرات ، بسبب انفتاح المنفى ، وربما – أحياناً – بسبب انغلاقه وغموضه ، وفي كلا الحالين يظل الوطن يمور ويتناسل ، ولكن الأمر يختلف من مبدع إلى آخر ، فما ذكرته آنفاً ليس إلا الوصف التبسيطي المتاح. بالنسبة لي كانت البصرة – الذاكرة ، بضوئها وعتمتها كائنة في النصّ حتى وان لم يتضمن ذلك النص النخلة والبلم .. أو شط العرب وجداول البساتين .. حتى وان لم يتضمن لقلق المئذنة أو الغراب الذي يسرق (الصابونة) من أرض (الحوش) ويمضي بها إلى السماء ..!. وبالنسبة لي ، مرة ثانية ، أقول : كان المنفى ما يرسخ الوطن – البصرة – البيت – الجدار – غرفتي – منضدتي – نافذة الشناشيل .. فكلما أوغلت في الغربة أوغلت في الوطن.
* الوضع العراقي الراهن ، كما تعلم ، وضع إشكالي وممشكل بالعديد من القضايا الشادة باتجاه إحباط المشروع الديمقراطي ، وتحويل الاحتلال إلى راع دائم .. الخ . ما دور المثقف العراقي ( المهاجر) في هذه الإشكالية غير التقليدية..؟
** الوضع العراقي له ارث قديم في الالتباس .. لنقل منذ انطلاقة ثورة الرابع عشر من تموز 1958 ، مروراً بانقلاب 1963 البغيض ، ثم انقلاب 17 تموز 1968 ، ذلك الانقلاب الثعلب .. والحرب العراقية الإيرانية ، فاحتلال الكويت الذي تذرّعت به أمريكا – وهي صانعته – للإقامة في المنطقة ، إلى لحظة الاحتلال الراهنة وما رافقها ويرافقها وسيرافقها من احتدامات ملتبسة والتباسات محتدمة .. العراق محكوم بالمأزق الدائم ، ولن يحمل الصليب العراقي غير العراقيين ، ولن تخف وطأة هذا الصليب ، وبالمقابل فان إصرار الوطنيين الشرفاء لن يخفَّ ولن يبهت ، من اجل بلوغ شاطئ عراقي اقل خطراً ، ولا أقول أكثر أمنا. هنا لا أرى مهمة المقيم في المهجر تختلف عن مهمة المقيم في الوطن إلا في حدود معينة ، ربما تكمن في كونه يمتلك القدرة على ان يكون سفير الوطن في المنفى ، أو رغم المنفى ، وهو بذلك يشكل عمقاً للوطن في المنفى ، وإيضاحاً للمنفى عما يحصل في الوطن .. أقول هذا ، ونحن نعلم بأن مئات الآلاف من المنفيين والمهجرين قد عادوا إلى الوطن ، وغيرهم في الطريق نحو الوطن ، ان هذا – في رأيي – ينتظم المثقف وغير المثقف.
* كرستم كتاباً خاصاً بمدينة البصرة ، ما صورة ( البصيرة) اليوم في عيني الشاعر مهدي محمد علي ..؟
** يكاد كتابي ( البصرة .. جنة البستان) المكتوب في الأمس البعيد ان يشكل جواباً مسبقاً عن بصرة اليوم ، فلقد عكفت على رسم مدينتي بالكلمات منذ بداية عام 1982 لأنني – وبعدما تأكد المنفى – أيقنت بأنني فقدت بصرتي .. بصرة الخمسينات من القرن العشرين الماضي ، وأنني لن أرى تلك البصرة أبداً ، لذا فإنني لم أفاجأ ، بل أصابني حزن عميق ووجع مبرح ، إذ رأيتُ مرابع طفولتي وصباي قد أصابها الخراب المتناسل على نحو لا يعقل ، فمحلات مثل السيمر وجسر الملح وأبو الحسن ، ويحيى زكريا والمجصة .. وسكة حميدي والجاخور .. الخ رأيتها بيوتاً آيلة للسقوط وشناشيلات قد بادت من الشموس والرياح والإمطار والإهمال المقصود ، فدروبها عبارة عن مستنقعات وركامات من الطين والطين الأسود ، وثمة مبانِ عديدة لم يبق منها سوى شواخص تقول:( بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا..). فأين كل هذا من تسمية البصرة في العهد المقبور بـ ( مدينة المدن) ؟!. ثمة تحولات في المعالم المهمة والشهيرة في المدينة : سوق الهنود ( المغايز) لم يعد هو ، بل انقلب إلى حظيرة استهلاكية تضج بالبسطات ، فاختفت محلات الخياطين وباعة الأقمشة والصيدليات ومكتبة الجميع وباعة التوابل الهنود ..! وكذلك أصيب سوق الصيادلة بوابل من البسطات والمواد الاستهلاكية ، وكثرت فيه محلات الذهب ، ولا شئ سوى ذلك .. وثمة محل لبيع الآلات الموسيقية وتصليحها تحول إلى محل لبيع الأحذية ..!!. ومن جهة أخرى أقول : أين هو نخيل شط العرب ..؟!. أين غابة النخيل في قرية ( كوت الحجاج) ..؟! ثم إلى متى سنظل نرى المباني الكبيرة خاوية على عروشها ..؟!. لقد كان سقوط النظام وقيام الاحتلال وفوضاه الدائمة أشبه بالفرحة – الغصة ، إذ لم يكد الناس يستنشقون فرحة الخلاص حتى اختنقوا بكابوس الاحتلال والإرهاب ..!. ربما لا يشعر المقيم الدائم كل هذه السنين في البصرة ، والمواكب للتحولات اليومية غير المحسوسة في حينها .. ربما لا يشعر بما أراه أنا المنقطع عنها أكثر من ربع قرن ، فهل ستبعث تلك الأماكن من جديد ..؟. هل سيفكر أهل الضمير والحس الحضاري ، ما ينبغي له من الخصوصية .. هل سيفكرون باستعادة مثل هذه المناطق كما كانت ، زاهية بطابوقها ( خصوصية عراقية) وشناشيلاتها ( ميزاتها النادرة) فيصير لنا مكان مثل العالم والناس..؟. ان مدينة ( وارسو) عاصمة بولونيا أزيلت من أساساتها في الحرب العالمية الثانية ، فاستعيدت المدينة القديمة كما كانت بعمل استغرق ستة عشر عاماً.. وحولها امتدت المباني الحديثة المحيطة بها بطراز حديث ولكنه مقارب لنمط القديم .. أما الأبنية الأحدث فهي في المحيط الأبعد .. انني لا أطمح الآن إلى مثل هذا ، فهو طموح بمستوى الحلم شبه المستحيل ، ولكن التفكير به أصح وأصلح لنا من الانشغال عنه بحضارة (الماكدونالد) الأمريكية المتوقعة ، والتي قد تتزين بلباس مختلف ، فتذهب ريحنا ..!.
*ما الآليات التي تعتقد بضرورة إيجادها لتعشيق العلاقة العضوية بين المثقف العراقي في الداخل ، والمثقف العراقي في المهاجر ..؟.
** ان عبارة ( انتخب العراق) هي خير شعار يمكن ان يرفع الآن نبراساً للجميع : انه يمكن ان يكون صالحاً إذا كنا متفقين على عراق يوحدنا ويلامس روح العدالة فينا ، ولكن إذا كان كل فريق يرسم عراقاً مختلفاً ، فان تلك ستكون داهية الدواهي . أما على صعيد المثقفين في داخل الوطن وفي المهاجر فان مهمة المثقفين مهمة خطيرة انطلاقاً من كونهم – وكما ينبغي – ضمير الوطن وروحه المبدع ، فكلتا الفئتين عانتا مرارة الطغيان بكل أصنافه .. صحيح ان عناء المنفى مختلف عن العناء داخل الوطن ، غير ان الوطن هو هاجس الفئتين ، وعليه فان وضع جرح الوطن ضماداً على جرح المنفى ، ووضع جرح المنفى ضماداً على جرح الوطن لابد ان يتولد عنه صورة للوطن المنشود .
* كيف وفق الأستاذ مهدي محمد علي بين اشتغالاته الإبداعية والعمل الصحفي ، ولحساب من تمت تلك ( التسوية) ان جاز التعبير ..؟.
** فيما يخص سيرتي أو مسيرتي في مجال الإبداع والى جوارها نشاطاتي الصحفية .. أقول ان هاجسي الأول هو الشعر ، وكل ممارسة غيره هي على ضفاف الشعر ، إذ أنني لن أنغمس في الصحافة إلا بمنطلقات شعرية ، فليس هناك مسافة كبيرة أو محسوسة بين النشاطين ، فأنا لم اخشَ يوماَ على شعري من الممارسة الصحفية ، بل إنها كانت رافداً للشعر ، في حين كان الشعر قنديلاً يضيء دروبي في عالم الصحافة ، فلم يكن طرفاً على حساب طرف بأي شكل من الأشكال.
—