خيرالدين جمعة :
لِحبَّة المشمش من يديه طعم آخر ، كان يغمسها في الماء و بحركة من أصابعه ينزع عنها نواتها ثم يضعها في فمي مبتسما ، كانَ أول رجل أراه في الصباح ، أتناول فطور الصباح معه ، يضع قطرات من زيت الزيتون في قهوتي قائلا إنها مضرّة بدون زيت ثم يأخذ في وضع الخبز المغموس في الحليب مرة في فمي وأخرى في فمه ..ذلك كان جدِّي ، مخلوقٌ من الكبرياء المعتَّق بالندى ، ملأ طفولتي و أربك حياتي إلى الأبد ..
كانت صورته لوحات مُبلَّلة بالدفء و المطر.. .لوحات لا يمكن أن أنساها ، صوته البعيد الغامر ، طوله الفارع ، معطفه الرمادي الآسر، إمساكه الجريدة المطوية بيمناه عند جبينه اتقاءً لأشعة الشمس الحارقة و هو عائد إلى البيت….
كان دائما يذهب إلى مكتبه في سوق القرية راجلا فيترك سيارته أمام البيت فتكون خطواته موزونة تلامس التراب برفق ساحر و في الطريق كان الناس يتهافتون على تحيته وهو يبادلهم ذلك بتواضع نقيّ، كان دائما يتقدّمني في مشيته ببضع خطوات ولكنه سرعان ما يتفطّن إلى ذلك فيلتفت إلى الوراء ليتأكد أني أتبعه فيمدّ يده اليمنى إليَّ فأسرع لأمسكها و لكن سرعان ما يخفّ خطوه من جديد فأفلتُه فيقف ويلتفت إليَّ مرة أخرى ، أقترب منه ، أمسك بيده و لكني أتشبّث بها هذه المرة ….
و لكن أروع ما أتذكّره هو فترة الأصيل حينما يجلس على كرسيِّه بسيقانه الخشبية الصلبة و جلده الأخضر الوثير أمام البيت و بجانبه كلبه الذي يطارد الحافلات عند مرورها مسافة طويلة بنباحٍ غاضبٍ و كأنه غاضب من الغبار الذي يثيره في المكان بما أن الطريق كان ترابيًّا و كان جدي يقابل تصرف كلبه بابتسامة هادئة و لكن الجميل في كل ذلك أنه كان يشاركني ما يقرأ و كأنني أفهم كل ما يقول : ” شوف الأسعار يا ولدي شوفْ النار شاعلة ويقولو العام صابة ” و مرة يقول لي بتهكم مرير ” شفتْ تصويرتو هذا وينو وقت كانت فرنسا تعفّس في البلاد …بكلهم يلحّسو باشْ يُوصلو ” كان يقول كلاما أتمنى أن أتذكره بحذافيره و لكني لا أستطيع كان وجهه يحمرّ حين يتحدث عن تونس و فرنسا والصور والمشاريع والتعاضدية والزرابي و المقاولات ……مواضيع كانت أكبر من عقلي الصغير…
أما في الليل وبعد أداء صلاة العشاء ، يستمع إلى نشرة أخبار الثامنة باللسان الدارج من إذاعة تونس ثم يناديني ليستمع إليَّ و أنا أقرا له نصًّا من نصوص كتاب القراءة و رغم أنه كان يحذق الفرنسية أكثر من العربية إلا أنه في كل مرة يبدي إعجابه الكبير بقراءتي ويقول لي : “بْريما ..بْريما… يعطيك الصحة يا ولدي …يستر حالك يا ولدي ..” كانت تلك الكلمات تُرقص قلبي الصغير و تطير بي إلى عالم الغمام ..
و في ليلة من ليالي الشتاء كان المطر يهطل بغزارة أخذت كتابي و ذهبتُ إلى غرفته كعادتي كل ليلة ، وجدتُ زوجته كانت مترددة في إدخالي ولكنه حين سمع صوتي طلب مني الدخول بصوت متقطّع متعب ، سلمتُ عليه وفتحتُ كتابي لأقرأ عليه و قلت له في البداية ” أنتَ قرأتَ عليَّ في العشيَّة من جريدتك بالفرنسية جاء دوري الآن لأقرأ عليك بالعربية من كتابي فابتسم و أشار لي بالبداية بحركة من رأسه ، اعتدلتُ في وقفتي كالعادة في وضعية استعداد ، أخذتُ أقرأ وحين انتهيتُ وجدتُه قد نام ، فأخذني الحزن، عندما كانت زوجته تطلب مني الخروج ، قلتُ في نفسي ” إن جدي خدعني فأنا استمعتُ إليه في النهار في حين لم يستمع إليَّ في الليل ” و ذهبتُ للنوم وأنا حزين لأنه قد أخلّ باتفاقنا و قلتُ في نفسي غدا يجب أن يسمعني هو أولا ولن أسمح له بخداعي مرة أخرى ..
من الغد أفقتُ صباحا وذهبتُ إليه لنفطر معا فلم أجده قالت لي زوجته إنه قد خرج مع عمّي منذ الصباح الباكر و عندما عدتُ من المدرسة لم أجده أيضا بل وجدتُ جمعا غفيرا من الناس أمام بيتنا و لا أدري كيف أخذني ابن عمي الأكبر إلى منزلهم القريب فوجدتُ إخوتي الكبار هناك و عندما حل الليل أردتُ أن أعود إلى بيتنا فمنعني إخوتي وأبناء عمي كنتُ أشعر بشيء يخترقني ويؤكد لي أن هناك شيئا قد حصل ولكنني لم أستطع فهمه و بعد ثلاثة أيام رجعنا إلى بيتنا و هناك وجدتُ العديد من الأقارب و لكني لم أجد جدي بين الرجال الجالسين أمام بيتنا كنتُ قد اشتقتُ إليه كثيرا ، قيل لي إن جدّي قد ” توفّي” لكني لم أفهم تلك الكلمة ، الشيء الوحيد الذي فعلتُه هو أنني دخلتُ غرفتي ، أخذتُ كتاب القراءة و أمام أعين النسوة الجالسات تحت حائط فناء الحوش كنتُ أمسك كتاب القراءة متوجَّها إلى غرفته عندما أحسستُ كلبه يتبعني بخطى خفيفة صامتة ، وجدتُ الغرفة مغلقة ، دققتُ الباب ، انتظرتُ قليلا ثم عدتُ و طرقتُه مرة أخرى ، أحسستُ أن صبري قد نفذ و أنه ربما لن يخرج إلى الأبد ، جلستُ على الأرض متَّكئا على الباب معانقا كتاب القراءة بكل قوة أحمي نفسي من أمواج الحياة و تعثّر الخطى ووعورة الطريق ، خُيِّل إليَّ أنني أسمع نشيج أمي ورائي و لكن زوجة جدي هي التي وجدتها تحاول أن تأخذني إلى حيث تجلس النسوة لكنني لم أتحرك من مكاني ، قبعتُ جالسا على الأرض أنتظره ليفتح الباب ، اقترب كلبه مني يأكله الترقب أيضا ، كنتُ مستعدًّا أن أنتظره مدى الحياة ….و أمام دهشة الجميع رأيتُ عمّي يدخل البيت ، يتقدم نحوي ويأمرني بالخروج ….. لكني لم أتحرك من مكاني ، صرخ في وجهي ……لكنِّي لم أتحرك من مكاني ، فما كان منه إلا أن أمسكني من ذراعي و جذبني بقوة فسقط الكتاب من يدي ، سمعتُ الكلب يأخذ في نباح غاضب أعرفه جيدا …… لكنّ عمي لم يكترث لأحد ..و أخذ يجرّني نحو الباب الخارجي …في تلك اللحظة وأنا أسلّم جسمي الصغير للقدر و يده المتحجِّرة…في تلك اللحظة بالذات فهمتُ ما معنى كلمة ” توفّي ” …
توفّي معناها أنك لن تجد شخصا يستمع إليك و لا يدًا تتشبّث بها …..
العين 29- 4 – 2010
—————
من المجموعة القصصية عارية وكاره المطر – دار كلمة المصرية 2014
—