انتهي في العاصمة الألمانية برلين يوم الأحد 20 أيلول/ سبتمبر 2009 مهرجان الأدب العالمي التاسع Internationales Literaturfestival Berlin الذي دام نحو عشرة أيام مليئة بالمفاجآت الثقافية والفكرية والسياسية. وكان البروفيسور والشاعر يواخيم سارتيريوس Joachim Sartorius مدير مؤسسة مهرجانات برلين Berliner Festspiele المتذوق للأدب والثقافة العربية وأحد أهم الشخصيات المساهمة في المهرجان والمهتمين بآداب وثقافات العالم، قد أفتتح المهرجان بكلمة تحدث فيها عن أهمية الآداب والثقافة العربية وتأثيرهما علي الثقافة العالمية، مشيراً إلي أن مهرجان هذا العام موسوماً بمشاركة واسعة لكتاب من العالم العربي إذ كان العام الفائت قد خصص لأدب القارة الأفريقية. ومن ثم ألقي مدير المهرجان أولريش شرايبرUlrich Schreiber كلمة أستعرض فيها أهم الفعاليات والضيوف المشاركين. وألقت الكاتبة الهندية Arundhati Roy آرونداتي روي كلمة قيمة استغرقت أكثر من نصف ساعة تعد بياناً ثقافياً”Manifest” متميّزاً، تناولت فيها ليس شئون الأدب والثقافة فحسب، إنما السياسة والاقتصاد وحقوق الإنسان في العالم. وتحدثت عن الاحتلال و”حصار المدن” وآثار الاغتراب والتهجير قسراً، المجاعة والحروب والبيئة وحملات الإبادة الجماعية التي تقودها الولايات المتحدة بحجة الأمن ومكافحة “الإرهاب” بين مزدوجين، وضربت علي سبيل المثال لا الحصر أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال وكشمير. كما عرجت علي الاضطهاد الفكري والاجتماعي وأوضاع الصحافيين والكتاب والمثقفين ومعاناتهم وكيف سقط الكثيرون منهم بسبب النزاعات الداخلية والحروب في كثير من المناطق في العالم.
تبادل الخبرات
ويعتبر المهرجان المكان المناسب لنشر الأفكار وتحاور الحضارات والثقافات المختلفة، والملتقي الذي يتنافس المشاركون القادمون من مجتمعات متباينة حول مزاعمهم، لكنهم يتطلعون لقواسم مشتركة تعني الإنسان والطبيعة. ويفترض أن يعطي المهرجان دليلا علي أن الناس من مختلف الأجناس والثقافات والأديان، من ذوي خلفيات وتقاليد مختلفة يمكن أن يتعايشوا ويتفاهموا بطريقة سلمية وتعاونية.. كما أنه فرصة لاختبار الأفكار وتبادل الخبرات بين الكُتاب والمفكرين من جميع أنحاء العالم، ووسيلة للمزيد من القوة التعبيرية والطاقة الإبداعية علي الساحة البرلينية في الشأن الثقافي.. ويزداد جمهور المهرجان من عام لآخر حتى تجاوز ثلاثين ألف زائر، تجولوا بين رحاب برامجه المتنوعة. كـ “الأدب العالمي” قراءات أدب الأطفال والشباب “Kaleidoskop” الكتاب الدولي، “تأملات ومواجهة” وفعاليات فنية أخري، فضلا عن سلسلة من المناقشات الثقافية والسياسية التي تتناول الأوضاع المضطربة التي تعاني منها المجتمعات في كثير من المناطق والبلدان سيما دول ما يسمي بالنامية “العالم الثالث” أيضاً تسليط الضوء علي حياة المثقفين ومعاناتهم. ومن بين أمور الثقافة عرج المشاركون علي تأثير العولمة علي الأدب والكُتاب. ولم يقتصر المهرجان خلال أيامه العشرة علي عروض شعرية وروائية وفكرية، إنما قدم عرضاً سينمائياً وعرضين في الموسيقي واحد للفنان المعروف فولف بيرمان وآخر كان مسك الختام أحيته فرقة بشار زرقان السورية. كذلك أمسية خاصة لتكريم الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش قرأ فيها العربي والمترجم من شعره. وتحت عنوان “الذاكرة تتحدث” قام الكتاب بمزيج من القراءات الشعرية والفكرية لإحياء ذكري كُتاب متوفون ذوي مآثر ثقافية علي المستوي العالمي. كرسوا حياتهم للإبداع والعطاء الفكري والإنساني. كرموا بحفاوة كما جرت العادة عليه في الأعوام المنصرمة، مثل فرانسواز ماري آريوت فولتير، جنكيز آيتماتوف، سرجون بولص، محمود درويش، دينس ديدروت، هالده أديب آدفار، الطيب صالح، فيكتور جاردون، بانيات استراتي، جيمس كرس، كيوآشينو مارتينتس، رفعه الطهطاوي، هنري ميللر، فريدريك ركيرت، باول شيربارت، خوان كارلوس اونتي، فرانس فيرفيل.
وإذا كانت الرغبة للحديث عن الندوات الشعرية والنصوص الروائية والقصصية حصراً، والتي قال البعض أنها مشوقة وتكشف عن الإبداع الذي يتوق الكاتب الأصيل بلوغه، أمراً مطلوباً. ألا أن تقاطع الأزمنة وأماكن العرض قد ساعد علي قصور الكتابة بهذا المجال. أن بلوغ المحاور الفكرية أهميتها سهل سبيل الاتجاه أكثر نحو الملموس لاكتشاف النقدي الذي يشرع في النهاية رغبة المتلقي واهتمامه لمعرفة تفسير الشكل والمضمون من وجهة نظر الخبراء.. وإذا كان ثمة مَن تعمد “أعني المحاورين” في معظم الندوات إلي أهمية استدراج الضيوف العرب للحديث عن الأوضاع الثقافية والسياسية الحساسة في بلدانهم، فلا بُد لي في هذا المجال من تسجيل الاستنتاجات التي شغلت حيزاً هاماً لديَّ: لم يكلف أغلب الكتاب العرب إلا استثناءات قليلة، أنفسهم، الحديث علي أقل تقدير عن أسباب قصور الأوروبيين في نقل المنتوج الثقافي العربي إلي لغاتهم في الوقت الذي يختنق السوق العربي بالترجمات من العالمية، أو الحديث عن اضطهاد السلطة للمثقف والثقافة وحيثيات قهر المبدع علي يد الثقافي ذاته ناهيك عن قمع الدولة والمجتمع له، أو الحديث عن أهمية العرض والطلب في صناعة وتسويق الكتاب، أو ندرة مشاركة كتاب أوروبيين في مهرجانات أدبية عربية علي غرار هذا المهرجان.. المؤسف إن حضور الوسط الثقافي العربي علي الساحة كان معدوماً ولا يتجاوز في أفضل الفعاليات عدد الأصابع، وأن أغلب المشاركين العرب وهم 38 مبدعاً بين كاتب روائي وشاعر وناقد من 13 دولة عربية، لم تسنح لهم فرصة المشاركة مع زملاء أوروبيين علي طاولة واحدة يتحاورون حول هموم الثقافة وتبادل الآراء والخبرات، والسبب يعود إلي إدارة المهرجان التي لم تضع في برنامجها مثل هذا الاعتبار. كما أنهم أي العرب المشاركون قد تغيبوا وللأسف عن حضور كافة الندوات بما فيها تلك التي ساهم فيها زملاؤهم، واكتفي كل منهم بندوته ومن ثم الخروج إلي رحاب وجنائن دار الندوات لقتل الوقت في ذمة النبيذ والهمس. وهناك من الكاتبات والكتاب العرب مَن تجني علي الثقافة والقاريء العربي واتهمهما بالهجين والتخلف وسوء البصيرة. والسؤال: أي تجربة سينقلها هؤلاء المثقفون العرب عند عودتهم إلي أماكنهم؟ وعن ماذا سيكتبون وهم لم يحضروا ندوة حوار واحدة غير عربية؟ لا أتصور أن أحداً قد دوّن ملاحظات عينية إلا استثناءات محدودة، بالقدر الذي سيتغنج بأهمية الدعوة واعتباراتها التقليدية التي كما يعتقد أنها قربت المسافة بينه وبين الشهرة نحو العالمية.. الحكمة تقتضي علي هؤلاء الكتاب المنبطحين أن لا يرتقوا حد السذاجة القصوى، فطريق الشهرة التي يحلم بها اتجاهان، الأول يتحقق في لعن حضارته ومسخ الثقافة العربية وشتم المثقفين الملتزمين العرب وتقديم شهادة حسن السلوك تجاه المواقف والثقافة اليهودية بمجملها وهو الطريق الذي سار عليه البعض. والثاني علي خلاف ذلك ما لا يقبله الكتاب والمبدعون الشرفاء العرب وهم كثر، ألا وهو مسلك الإبداع الحقيقي النابض بالحيوية والقيمة الفعلية وجمالية الشكل والمضمون الذي يرتكز علي النص والموقف، الذي يراهن عليه الشرفاء.
إن مهرجاناً أدبياً بهذا الحجم والمستوي كما يتجلى من العروض والتيارات الإبداعية المعاصرة، له مكانته العالمية، ويعد خدمة كبيرة لأدب بلدان ما يسمي بالنامية “العالم الثالث” وتأتي دعوة الكثيرين من كتاب هذه الدول، وإقامة الندوات الروائية والشعرية الخاصة بهم، تجسيداً لإسهام المؤسسة للتعريف بأدب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وإعطائه المنزلة التي يستحقها لغرض مواكبة ومعرفة مدي ملاءمته المدارس الفكرية والبنيوية العالمية، بالوسائل والمستويات الفنية والجمالية المتنوعة بخصوصيتها الجذابة شكلاً ومضموناً، كما تجلي عمل المؤسسة خلال المهرجان بإصدار الدراسات ونشر النتاجات والنماذج الأدبية المختارة.. لقد أحدثت العروض الأدبية والفكرية مناقشات وردود فعل دلت علي اهتمام الجميع من كتاب وصحفيين، أساتذة وباحثين وطلبة. وحاول الكتاب حسب اختصاصاتهم وتجاربهم أن يدلوا بملاحظاتهم وآرائهم في المسائل الجوهرية والضرورية بشكل ينسجم مع هدف المهرجان معتمدين أسلوب البحث العلمي أساساً في الحوار والنقاش الموضوعي. وكان هنالك إجماع شبه عام حول: أن العلم لا يقتصر علي العلوم العامة، بل أن البحث العلمي بمميزاته واختصاصاته يجب أن ينطبق علي قضايا الفكر والأدب.. أو كما جاء، أننا نعمل في شتي ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لكننا ننسي أن الأدب أيضاً له دورٌ فعال في تنمية الشخصية الجماعية، وأنه لا يمكن أن تكون تنمية شاملة دون تنمية فكرية، وهذه التنمية تفرض علينا أن نخرج بالأدب من الحوار التلقائي إلي الحوار العلمي الذي ينظر إلي القضايا حسب طرق جديدة تدرك الظروف المحيطة وتتفاعل معها بشكل جدلي.
الثقافة المتميزة
اتسمت الآراء بأن تطور الفكر والثقافة وازدياد النتاج الأدبي أثر في أتساع اهتمام الجمهور به وبشكل خاص بين الشباب، كما ساعد في ظهور جيل جديد متابع للحركة الأدبية والفكرية ويساهم بنشاط وبصيرة في الكتابة والتأليف علي الرغم من تعقد الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما ساعد علي انبثاق مواقف وتفسيرات جديدة كشفت الخروج عن الوسيلة التقليدية والتوجه نحو النزعة الشكلية التجريبية التي أحدثها تيار الفكر العالمي المعاصر. إلي جانب هذا أبدت بعض الآراء رغبة للبحث عن سلوكية وإطار أوسع يحمي الثقافة المتميزة ويستجيب لذاتيتها دون تشويه لموقعها. وقد اختلفت التحليلات والآراء لكنها لم تتوصل إلي بلورة موقف يشير إلي تطور الكتابة في عصرنا بحكم الإطلاع والتلاقح الذي اثر في التوجه نحو طريق التجديد والتنويع علي حساب الهوية والمرجعية الحضارية. وتقارب الموقف من أن الكثير من كتاب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية يتوجهون نحو الإبداع والتغيير، تدفعهم مواكبة الآداب العالمية إلي استعمال أساليب فنية دخيلة، ولكن هذا الاقتباس شكل أحيانا نزعة مزدوجة تتسم بالخطورة، فهو أما يتسبب بالاجترار الشكلي لأدب مراحل مختلفة وأشكال متنوعة، أو يقف عائقاً أمام تطور وأصالة الأدب ذي التراث العريق دون مراعاة ديناميكية الحدث واعتبارات المكان والزمان في حاضرة السرد الروائي أو النص الشعري.
وإذا كان هذا الواقع يرفض أن تكون نظرتنا النقدية وطريقتنا في الشرح والتعليق والتعبير سطحية، تقليدية تلقائية تجعل من أدب وتراث بلدان العالم الثالث أدباً مجرداً، فأنه يرفض أيضا أن يصبح هذا الأدب مع مرور الزمن بضاعة استهلاكية خالية من الحس والقداسة العقلية والتراثية. ويستحضرني في هذا المجال قول الشاعر والكاتب والموسيقار الكامروني “فرنسيس بباي” ـ أن أدبنا لا ينقصه شيء وثقافتنا حيوية تعتمد علي التراث والتقاليد التي تشكل هي الأخري سر جاذبيته الجمالية. لا نعاني من أزمة أدب، بل هناك أزمة سياسية هي التي تؤثر ليس في تطور ثقافتنا وحسب إنما في تطور مجتمعاتنا من جميع النواحي ـ إن هذا الموقف الذي أجمع عليه الكثير من الكتاب خلال الندوات يلامس الحقيقة بشكل واقعي ويعبر عن سلوكية الكاتب الحقيقي تجاه المجتمع وأوضاعه، أنه يحدد موقفه الأخلاقي أكثر من التزامه العرقي والسياسي المتحزب. ويعكس مقومات الربط بين الفكر ومسؤوليات الأديب في الدفاع عن قضايا هامة في حياة المجتمع والناس.
التعبير عن الرأي
لقد أكدت المعالجات الفلسفية والعلمية التي تناولها بعض الكتاب “غير العرب” بشكل تفصيلي سواءً أثناء الندوات واللقاءات المصغرة أو في مجال الصحافة والإعلام، علي أن أدب العالم الثالث والعربي، لا زال يشكل مرحلة تجريبية، كونه مرتبطاً بقضايا المجتمع العامة التي يؤثر ويتأثر بها بسبب واقع عيني غير متجانس يتغيَّر مع تغيّر الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكنه يجسد جملة من القضايا بوصفه فناً لا يمكن الاستغناء عنه وممارسة تربوية في حياة المجتمع العامة. إن تناول مسألة الربط بين المنهج الأدبي في قضايا النتاج والتعبير عن الرأي من جهة، وبين دواعي الحرية في ظل الرقابة والقسر الذي تمارسه الدولة البوليسية بحق الناس والمثقفين والأدباء والفنانين من جهة أخري، قد شكل صورة من صور النقد المصطنع الذي لا يعبر عن رؤية فكرية راسخة الأسس للأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تعكسها عملية الصراع بوضوح.. إن أهم القضايا التي لا تزال تواجه الحركة الأدبية في “العالم الثالث” والعالم العربي علي وجه التحديد هي القضية الاقتصادية والاجتماعية، الأيديولوجية والسياسية. وهي تقف في أغلب الأحيان عائقاً أمام الإبداع والتنويع، لا بل تفرض الرقابة والتأثير في مسألة النتاج الفكري، مستهدفة قطع الصلة بين الأديب الحقيقي والمجتمع، كما تدعو إلي ثقافة وحيدة الجانب ترمي إلي صرف الأنظار عن المسائل الجوهرية التي تتطلب الحلول الملموسة لصالح اجتذاب فصائل جديدة في الحركة الثقافية والفكرية من أجل الوقوف بوجه الفئات الانتهازية المتشبعة بروح الأنانية والقسوة، لقد أثر سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية في تطور المسار الثقافي في العالم العربي، حيث أصبح النتاج والنشر حكراً علي فئة موالية لسلطة الدولة والمال.
وأشار المشاركون “غير العرب” في الندوات إلي أن العقل قد وجد لأن يلتقط أي شكل من أشكال الواقع وينمي واقع الوجود الذي ينبغي أن يكون “فالإنسان في نتاجه ليس مقيداً بمعيار، أنه يستطيع أن يغيّر ويخلق وفق قوانين الجمال كل الأنواع لكونه سيد الطبيعة والعلم”. لكن هذا الإطار الجدلي لم يكن في عالمنا العربي قائما حتي يستطيع المثقف أن ينسج عالم خيارته الإنسانية والفكرية. ولم يستطيع استكمال العقل بحكمة بسبب الظروف غير الطبيعية التي يعاني، فذهب بعيداً عن تناول مسألة الثقافة والفكر من ناحية الإنتاج والممارسة والتطور أو إضفاء الجمالية علي النوع والكم، أيضاً قدم التنازل عن ممارسة الجانب الأخلاقي لالتقاط واحداً من أشكال ذلك الواقع الذي ينمي الوجود الحق!. ولا أدري إلي أي مدي معرفة الكاتب الأوروبي بأصناف وأطوار كتابنا وشعرائنا العرب؟. فنحن لدينا من يرسي شراعه بين الجبر الذاتي والتبعية، بين الأخلاق الحضارية والأخلاق الزائفة، الوجدانية والانتهازية. إن التأكيد علي الملموس ينبغي أن لا يشير إلي كشف هذه الحقيقة وحسب، إنما الإشارة إلي أهمية العلاقة بين الكاتب والمجتمع، تلك العلاقة التي تعني هز القيود السياسية والقانونية من أجل إزالة الفوارق القائمة بوجه الإنعتاق الفكري ومواجهة ثقافة السلطة.
وإذا كانت هذه العلاقة الموضوعية بين العقل والوجود علاقة مترابطة تخلق شيئاً جمالياً يصور بشكل كافٍ ما يحدث في العلاقات والنشاطات غير الأدبية التي تواجه المجتمع، فلا بُد أن تصبح مسؤولية الإنتاج الثقافي مصدر تشجيع لا تهديد، ولا بد أن يكون حق الأديب أو أي إنسان يظهر روح المثابرة علي الإنتاج والبحث النزيه في الحصول علي الدعم والعون المتنوع الأشكال، حقاً مشروعاً، يبرر حالات المنافسة والاكتشاف التي تشكل مظهراً للاعتزاز لا للتدمير. إن هذا التصور الذي يشير إلي الرابطة الجدلية بين الكاتب المنتج ومحيطه يعكس رومانسية التواصل ويفيض فلسفة الأدب كفكر وفن جمالية، كما أشار إلي ذلك الأستاذ يوسف زيدان “مصر” وعبر عنه في سياق المحاور كل من رشيد بوجدرة “جزائر” وياسين عدنان “مغرب” وأروي عبدو عثمان “يمن” وسنان أنطون “عراق” وغسان زقطان “فلسطين” وطالب الرفاعي “كويت” وباختصار ينبغي استخدام وتطويع مفاهيم ومؤسسات المجتمع التقليدي لأجل أهداف تحديثية تفرق بين الواقع والمستحيل الذي يواجه الفرد والثقافة بهدف التغيير.
وحول أدب الاغتراب كما أشار بعض كُتاب المهجر “غير العرب” فيبدو أن هنالك تصوراً متبايناً تراكم انحرافه مع الزمن بشكل منتظم. ففي الوقت الذي يعتبر البعض أنه حالة استثنائية قائمة لأسباب اضطرارية أو ذاتية، يدعي البعض الآخر بأنه يشكل نسبة ملموسة تعكس حالة وتمثل أدواراً مختلفة بالنسبة للثقافة الوطنية. وأنه أما يبعد الكاتب عن الوظائف والإبداعات التي يعبر عنها التراث والتقاليد والأصالة، فيسيطر أدب الاغتراب عليه بسبب تأثير المحيط والبيئة الجديدة، بدل أن يسيطر هو عليه. أو أن يجد ملامح جديدة للاستنارة والتنبؤات التي تبدو هامة متحدية أحياناً، وصادقة ملائمة أحياناً أخري. والحقيقة أن كلا التيارين “التحدي والملائمة” لم يؤد إلي حل الإشكاليات أو الوقوف بوجه المفاهيم الخاطئة التي تفصل بين أدب المهجر والداخل بسبب الفوارق التي أحدثتها طبيعة المنفي، كما أنهما لم يتمكنا من إلقاء الضوء علي جوهر المسألة بغية إزالة تلك الإشكالية والربط بين مفهوم أصالة الأدب ومسؤولية الكاتب إلا في حالات نادرة. إن أديب المهجر أو المنفي مع فارق المفهوم إن صح التعبير، يواجه حياة تتغيّر مقوماتها يومياً بسبب شدة التوترات والأزمات التي تفرزها بيئة المجتمع الجديد، تؤثر علي وضعه النفسي وتسبب خللاً في نظرته للحدث أو اللحظة الإنتاجية “الفكرة” مكاناً وزماناً، رغم احتفاظه بجوانب كثيرة من تقاليد وعادات وتراث بيئته الأصلية. إن هذه الازدواجية تشكل فراغاً مؤثراً في مسألة الانجذاب نحو الحقيقة والتعبير، مما يجعل الأدب موضوعياً، أدباً غير متكافيء من ناحية المضمون والنص، بعيداً عن جمالية السرد كونه غير متجانس، مجرداً من ميزاته النوعية في التراث والأصالة والتمرد.
وهنالك إشكالاً خطيراً بين مفهوم تمسك كُتاب بلدان العالم الثالث في الدفاع عن أدبهم، وبين المهمة الموضوعية الملقاة علي عاتقهم كمثقفين ومفكرين يسعون إلزاماً إلي الحفاظ علي مقومات حضاراتهم وفضح بؤس الإنسان، والتأكيد علي أن الحياة والتأريخ شيء واحد، يفسر واقع الإنسان الذي يقوم علي تعدد “الأشكال الجوهرية” الشعوب، الأعراف، التقاليد، الحضارات، التراث. فهم عندما يدافعون عن ثقافتهم فإنهم يدافعون عن حرية التعبير والفكر، يحددون صلتهم بمجتمعاتهم، يناضلون من أجل استبدال العلاقات غير المتميزة بعلاقات فريدة تضع التبريرات والاستنتاجات التي يخلقها العلم في سبيل أدب يمتاز بعدائه للنزعة الشوفينية المتخلفة، أدب يفرض البعد الأخلاقي والجمالي الذي يتجاوز السياسة والذات كي تحافظ الحضارة علي قيمها الإنتاجية لتبرر وجودها ذي القيمة الفكرية والجمالية فتصبح في متناول الجماهير.. وعلي الرغم من أن لقاء كًتاب العالم العربي بزملائهم من أوروبا في إطار مهرجان أدبي عالمي له وزنه واعتباراته قد شكل جانباً استثنائيا فريد النوع، ضيق الحدود، ألا أن الكتاب العرب وللأسف لم يستغلوا المناسبة لتناول شؤونهم والقضايا الرئيسية التي تقف عائقاً أمام حياة الكاتب كالجبرية والرقابة والتعتيم والإقصاء التي يفرضها القانون وسلطة الدولة بشكل قسري.. وفي معرض حديثي الخاص معه في الليلة الأخيرة من المهرجان، أجاب الشاعر الألماني يواخيم سارتيريوس علي بعض الأسئلة التي طرحتها عليه بمرارة وأهمها: ما هي الخصائص التي ينبغي أن يتصف بها الكاتب كي يدعي للمشاركة؟ وما هي القواعد التي يتم بموجبها تصنيف هؤلاء؟ إذ رأينا أغلب المشاركين العرب ليسوا بالمستوي أو أنها أسماء غير معروفة علي الساحة الإبداعية والثقافية العربية، كما أن مشاركاتهم كانت بائسة وسطحية!! ـ كنا قد اعتمدنا في اختيار الأسماء من بين 100 مقترحاٌ جاءنا من بعض اللذين شاركوا سابقاً أو من بعض معارفهم الألمان والعرب هنا، علماً من أننا قررنا عدم دعوة الأسماء المتميزة التي سبق لها المشاركة وفسح المجال أمام أجيال جديدة، وأقر أن الاختيار كان في بعض الحالات غير موفقاً، لكننا لا نستطيع تحميل أنفسنا معلوماتياً ما لا لنا عليه. وثمة حقيقة أخري، أن الضيوف العرب وجدوا في هذا المهرجان فرصة لإعادة الذاكرة والتمتع بلقاء بعضهم البعض في أجواء سادها الأنس والمرح، وأتفق معك في أن حضورهم الندوات المختلفة، العربية وغيرها، كان بائساً، وكم كنت سعيداً لو شاركوا وأدلوا بدلوهم في الشأن الثقافي والإبداعي وهموم الثقافة والمثقفين في العالم العربي كما فعل كتاب أفريقيا في الدورة الثامنة للمهرجان. نعم أنك علي حق عندما تتحدث عن هذا التقصير، لكن وجهات النظر هذه ستقوّم عملنا في المستقبل وستساعدنا علي تجاوز الأخطاء لأجل ثقافة متميزة.
تبادل الخبرات
ويعتبر المهرجان المكان المناسب لنشر الأفكار وتحاور الحضارات والثقافات المختلفة، والملتقي الذي يتنافس المشاركون القادمون من مجتمعات متباينة حول مزاعمهم، لكنهم يتطلعون لقواسم مشتركة تعني الإنسان والطبيعة. ويفترض أن يعطي المهرجان دليلا علي أن الناس من مختلف الأجناس والثقافات والأديان، من ذوي خلفيات وتقاليد مختلفة يمكن أن يتعايشوا ويتفاهموا بطريقة سلمية وتعاونية.. كما أنه فرصة لاختبار الأفكار وتبادل الخبرات بين الكُتاب والمفكرين من جميع أنحاء العالم، ووسيلة للمزيد من القوة التعبيرية والطاقة الإبداعية علي الساحة البرلينية في الشأن الثقافي.. ويزداد جمهور المهرجان من عام لآخر حتى تجاوز ثلاثين ألف زائر، تجولوا بين رحاب برامجه المتنوعة. كـ “الأدب العالمي” قراءات أدب الأطفال والشباب “Kaleidoskop” الكتاب الدولي، “تأملات ومواجهة” وفعاليات فنية أخري، فضلا عن سلسلة من المناقشات الثقافية والسياسية التي تتناول الأوضاع المضطربة التي تعاني منها المجتمعات في كثير من المناطق والبلدان سيما دول ما يسمي بالنامية “العالم الثالث” أيضاً تسليط الضوء علي حياة المثقفين ومعاناتهم. ومن بين أمور الثقافة عرج المشاركون علي تأثير العولمة علي الأدب والكُتاب. ولم يقتصر المهرجان خلال أيامه العشرة علي عروض شعرية وروائية وفكرية، إنما قدم عرضاً سينمائياً وعرضين في الموسيقي واحد للفنان المعروف فولف بيرمان وآخر كان مسك الختام أحيته فرقة بشار زرقان السورية. كذلك أمسية خاصة لتكريم الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش قرأ فيها العربي والمترجم من شعره. وتحت عنوان “الذاكرة تتحدث” قام الكتاب بمزيج من القراءات الشعرية والفكرية لإحياء ذكري كُتاب متوفون ذوي مآثر ثقافية علي المستوي العالمي. كرسوا حياتهم للإبداع والعطاء الفكري والإنساني. كرموا بحفاوة كما جرت العادة عليه في الأعوام المنصرمة، مثل فرانسواز ماري آريوت فولتير، جنكيز آيتماتوف، سرجون بولص، محمود درويش، دينس ديدروت، هالده أديب آدفار، الطيب صالح، فيكتور جاردون، بانيات استراتي، جيمس كرس، كيوآشينو مارتينتس، رفعه الطهطاوي، هنري ميللر، فريدريك ركيرت، باول شيربارت، خوان كارلوس اونتي، فرانس فيرفيل.
وإذا كانت الرغبة للحديث عن الندوات الشعرية والنصوص الروائية والقصصية حصراً، والتي قال البعض أنها مشوقة وتكشف عن الإبداع الذي يتوق الكاتب الأصيل بلوغه، أمراً مطلوباً. ألا أن تقاطع الأزمنة وأماكن العرض قد ساعد علي قصور الكتابة بهذا المجال. أن بلوغ المحاور الفكرية أهميتها سهل سبيل الاتجاه أكثر نحو الملموس لاكتشاف النقدي الذي يشرع في النهاية رغبة المتلقي واهتمامه لمعرفة تفسير الشكل والمضمون من وجهة نظر الخبراء.. وإذا كان ثمة مَن تعمد “أعني المحاورين” في معظم الندوات إلي أهمية استدراج الضيوف العرب للحديث عن الأوضاع الثقافية والسياسية الحساسة في بلدانهم، فلا بُد لي في هذا المجال من تسجيل الاستنتاجات التي شغلت حيزاً هاماً لديَّ: لم يكلف أغلب الكتاب العرب إلا استثناءات قليلة، أنفسهم، الحديث علي أقل تقدير عن أسباب قصور الأوروبيين في نقل المنتوج الثقافي العربي إلي لغاتهم في الوقت الذي يختنق السوق العربي بالترجمات من العالمية، أو الحديث عن اضطهاد السلطة للمثقف والثقافة وحيثيات قهر المبدع علي يد الثقافي ذاته ناهيك عن قمع الدولة والمجتمع له، أو الحديث عن أهمية العرض والطلب في صناعة وتسويق الكتاب، أو ندرة مشاركة كتاب أوروبيين في مهرجانات أدبية عربية علي غرار هذا المهرجان.. المؤسف إن حضور الوسط الثقافي العربي علي الساحة كان معدوماً ولا يتجاوز في أفضل الفعاليات عدد الأصابع، وأن أغلب المشاركين العرب وهم 38 مبدعاً بين كاتب روائي وشاعر وناقد من 13 دولة عربية، لم تسنح لهم فرصة المشاركة مع زملاء أوروبيين علي طاولة واحدة يتحاورون حول هموم الثقافة وتبادل الآراء والخبرات، والسبب يعود إلي إدارة المهرجان التي لم تضع في برنامجها مثل هذا الاعتبار. كما أنهم أي العرب المشاركون قد تغيبوا وللأسف عن حضور كافة الندوات بما فيها تلك التي ساهم فيها زملاؤهم، واكتفي كل منهم بندوته ومن ثم الخروج إلي رحاب وجنائن دار الندوات لقتل الوقت في ذمة النبيذ والهمس. وهناك من الكاتبات والكتاب العرب مَن تجني علي الثقافة والقاريء العربي واتهمهما بالهجين والتخلف وسوء البصيرة. والسؤال: أي تجربة سينقلها هؤلاء المثقفون العرب عند عودتهم إلي أماكنهم؟ وعن ماذا سيكتبون وهم لم يحضروا ندوة حوار واحدة غير عربية؟ لا أتصور أن أحداً قد دوّن ملاحظات عينية إلا استثناءات محدودة، بالقدر الذي سيتغنج بأهمية الدعوة واعتباراتها التقليدية التي كما يعتقد أنها قربت المسافة بينه وبين الشهرة نحو العالمية.. الحكمة تقتضي علي هؤلاء الكتاب المنبطحين أن لا يرتقوا حد السذاجة القصوى، فطريق الشهرة التي يحلم بها اتجاهان، الأول يتحقق في لعن حضارته ومسخ الثقافة العربية وشتم المثقفين الملتزمين العرب وتقديم شهادة حسن السلوك تجاه المواقف والثقافة اليهودية بمجملها وهو الطريق الذي سار عليه البعض. والثاني علي خلاف ذلك ما لا يقبله الكتاب والمبدعون الشرفاء العرب وهم كثر، ألا وهو مسلك الإبداع الحقيقي النابض بالحيوية والقيمة الفعلية وجمالية الشكل والمضمون الذي يرتكز علي النص والموقف، الذي يراهن عليه الشرفاء.
إن مهرجاناً أدبياً بهذا الحجم والمستوي كما يتجلى من العروض والتيارات الإبداعية المعاصرة، له مكانته العالمية، ويعد خدمة كبيرة لأدب بلدان ما يسمي بالنامية “العالم الثالث” وتأتي دعوة الكثيرين من كتاب هذه الدول، وإقامة الندوات الروائية والشعرية الخاصة بهم، تجسيداً لإسهام المؤسسة للتعريف بأدب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وإعطائه المنزلة التي يستحقها لغرض مواكبة ومعرفة مدي ملاءمته المدارس الفكرية والبنيوية العالمية، بالوسائل والمستويات الفنية والجمالية المتنوعة بخصوصيتها الجذابة شكلاً ومضموناً، كما تجلي عمل المؤسسة خلال المهرجان بإصدار الدراسات ونشر النتاجات والنماذج الأدبية المختارة.. لقد أحدثت العروض الأدبية والفكرية مناقشات وردود فعل دلت علي اهتمام الجميع من كتاب وصحفيين، أساتذة وباحثين وطلبة. وحاول الكتاب حسب اختصاصاتهم وتجاربهم أن يدلوا بملاحظاتهم وآرائهم في المسائل الجوهرية والضرورية بشكل ينسجم مع هدف المهرجان معتمدين أسلوب البحث العلمي أساساً في الحوار والنقاش الموضوعي. وكان هنالك إجماع شبه عام حول: أن العلم لا يقتصر علي العلوم العامة، بل أن البحث العلمي بمميزاته واختصاصاته يجب أن ينطبق علي قضايا الفكر والأدب.. أو كما جاء، أننا نعمل في شتي ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لكننا ننسي أن الأدب أيضاً له دورٌ فعال في تنمية الشخصية الجماعية، وأنه لا يمكن أن تكون تنمية شاملة دون تنمية فكرية، وهذه التنمية تفرض علينا أن نخرج بالأدب من الحوار التلقائي إلي الحوار العلمي الذي ينظر إلي القضايا حسب طرق جديدة تدرك الظروف المحيطة وتتفاعل معها بشكل جدلي.
الثقافة المتميزة
اتسمت الآراء بأن تطور الفكر والثقافة وازدياد النتاج الأدبي أثر في أتساع اهتمام الجمهور به وبشكل خاص بين الشباب، كما ساعد في ظهور جيل جديد متابع للحركة الأدبية والفكرية ويساهم بنشاط وبصيرة في الكتابة والتأليف علي الرغم من تعقد الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما ساعد علي انبثاق مواقف وتفسيرات جديدة كشفت الخروج عن الوسيلة التقليدية والتوجه نحو النزعة الشكلية التجريبية التي أحدثها تيار الفكر العالمي المعاصر. إلي جانب هذا أبدت بعض الآراء رغبة للبحث عن سلوكية وإطار أوسع يحمي الثقافة المتميزة ويستجيب لذاتيتها دون تشويه لموقعها. وقد اختلفت التحليلات والآراء لكنها لم تتوصل إلي بلورة موقف يشير إلي تطور الكتابة في عصرنا بحكم الإطلاع والتلاقح الذي اثر في التوجه نحو طريق التجديد والتنويع علي حساب الهوية والمرجعية الحضارية. وتقارب الموقف من أن الكثير من كتاب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية يتوجهون نحو الإبداع والتغيير، تدفعهم مواكبة الآداب العالمية إلي استعمال أساليب فنية دخيلة، ولكن هذا الاقتباس شكل أحيانا نزعة مزدوجة تتسم بالخطورة، فهو أما يتسبب بالاجترار الشكلي لأدب مراحل مختلفة وأشكال متنوعة، أو يقف عائقاً أمام تطور وأصالة الأدب ذي التراث العريق دون مراعاة ديناميكية الحدث واعتبارات المكان والزمان في حاضرة السرد الروائي أو النص الشعري.
وإذا كان هذا الواقع يرفض أن تكون نظرتنا النقدية وطريقتنا في الشرح والتعليق والتعبير سطحية، تقليدية تلقائية تجعل من أدب وتراث بلدان العالم الثالث أدباً مجرداً، فأنه يرفض أيضا أن يصبح هذا الأدب مع مرور الزمن بضاعة استهلاكية خالية من الحس والقداسة العقلية والتراثية. ويستحضرني في هذا المجال قول الشاعر والكاتب والموسيقار الكامروني “فرنسيس بباي” ـ أن أدبنا لا ينقصه شيء وثقافتنا حيوية تعتمد علي التراث والتقاليد التي تشكل هي الأخري سر جاذبيته الجمالية. لا نعاني من أزمة أدب، بل هناك أزمة سياسية هي التي تؤثر ليس في تطور ثقافتنا وحسب إنما في تطور مجتمعاتنا من جميع النواحي ـ إن هذا الموقف الذي أجمع عليه الكثير من الكتاب خلال الندوات يلامس الحقيقة بشكل واقعي ويعبر عن سلوكية الكاتب الحقيقي تجاه المجتمع وأوضاعه، أنه يحدد موقفه الأخلاقي أكثر من التزامه العرقي والسياسي المتحزب. ويعكس مقومات الربط بين الفكر ومسؤوليات الأديب في الدفاع عن قضايا هامة في حياة المجتمع والناس.
التعبير عن الرأي
لقد أكدت المعالجات الفلسفية والعلمية التي تناولها بعض الكتاب “غير العرب” بشكل تفصيلي سواءً أثناء الندوات واللقاءات المصغرة أو في مجال الصحافة والإعلام، علي أن أدب العالم الثالث والعربي، لا زال يشكل مرحلة تجريبية، كونه مرتبطاً بقضايا المجتمع العامة التي يؤثر ويتأثر بها بسبب واقع عيني غير متجانس يتغيَّر مع تغيّر الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكنه يجسد جملة من القضايا بوصفه فناً لا يمكن الاستغناء عنه وممارسة تربوية في حياة المجتمع العامة. إن تناول مسألة الربط بين المنهج الأدبي في قضايا النتاج والتعبير عن الرأي من جهة، وبين دواعي الحرية في ظل الرقابة والقسر الذي تمارسه الدولة البوليسية بحق الناس والمثقفين والأدباء والفنانين من جهة أخري، قد شكل صورة من صور النقد المصطنع الذي لا يعبر عن رؤية فكرية راسخة الأسس للأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تعكسها عملية الصراع بوضوح.. إن أهم القضايا التي لا تزال تواجه الحركة الأدبية في “العالم الثالث” والعالم العربي علي وجه التحديد هي القضية الاقتصادية والاجتماعية، الأيديولوجية والسياسية. وهي تقف في أغلب الأحيان عائقاً أمام الإبداع والتنويع، لا بل تفرض الرقابة والتأثير في مسألة النتاج الفكري، مستهدفة قطع الصلة بين الأديب الحقيقي والمجتمع، كما تدعو إلي ثقافة وحيدة الجانب ترمي إلي صرف الأنظار عن المسائل الجوهرية التي تتطلب الحلول الملموسة لصالح اجتذاب فصائل جديدة في الحركة الثقافية والفكرية من أجل الوقوف بوجه الفئات الانتهازية المتشبعة بروح الأنانية والقسوة، لقد أثر سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية في تطور المسار الثقافي في العالم العربي، حيث أصبح النتاج والنشر حكراً علي فئة موالية لسلطة الدولة والمال.
وأشار المشاركون “غير العرب” في الندوات إلي أن العقل قد وجد لأن يلتقط أي شكل من أشكال الواقع وينمي واقع الوجود الذي ينبغي أن يكون “فالإنسان في نتاجه ليس مقيداً بمعيار، أنه يستطيع أن يغيّر ويخلق وفق قوانين الجمال كل الأنواع لكونه سيد الطبيعة والعلم”. لكن هذا الإطار الجدلي لم يكن في عالمنا العربي قائما حتي يستطيع المثقف أن ينسج عالم خيارته الإنسانية والفكرية. ولم يستطيع استكمال العقل بحكمة بسبب الظروف غير الطبيعية التي يعاني، فذهب بعيداً عن تناول مسألة الثقافة والفكر من ناحية الإنتاج والممارسة والتطور أو إضفاء الجمالية علي النوع والكم، أيضاً قدم التنازل عن ممارسة الجانب الأخلاقي لالتقاط واحداً من أشكال ذلك الواقع الذي ينمي الوجود الحق!. ولا أدري إلي أي مدي معرفة الكاتب الأوروبي بأصناف وأطوار كتابنا وشعرائنا العرب؟. فنحن لدينا من يرسي شراعه بين الجبر الذاتي والتبعية، بين الأخلاق الحضارية والأخلاق الزائفة، الوجدانية والانتهازية. إن التأكيد علي الملموس ينبغي أن لا يشير إلي كشف هذه الحقيقة وحسب، إنما الإشارة إلي أهمية العلاقة بين الكاتب والمجتمع، تلك العلاقة التي تعني هز القيود السياسية والقانونية من أجل إزالة الفوارق القائمة بوجه الإنعتاق الفكري ومواجهة ثقافة السلطة.
وإذا كانت هذه العلاقة الموضوعية بين العقل والوجود علاقة مترابطة تخلق شيئاً جمالياً يصور بشكل كافٍ ما يحدث في العلاقات والنشاطات غير الأدبية التي تواجه المجتمع، فلا بُد أن تصبح مسؤولية الإنتاج الثقافي مصدر تشجيع لا تهديد، ولا بد أن يكون حق الأديب أو أي إنسان يظهر روح المثابرة علي الإنتاج والبحث النزيه في الحصول علي الدعم والعون المتنوع الأشكال، حقاً مشروعاً، يبرر حالات المنافسة والاكتشاف التي تشكل مظهراً للاعتزاز لا للتدمير. إن هذا التصور الذي يشير إلي الرابطة الجدلية بين الكاتب المنتج ومحيطه يعكس رومانسية التواصل ويفيض فلسفة الأدب كفكر وفن جمالية، كما أشار إلي ذلك الأستاذ يوسف زيدان “مصر” وعبر عنه في سياق المحاور كل من رشيد بوجدرة “جزائر” وياسين عدنان “مغرب” وأروي عبدو عثمان “يمن” وسنان أنطون “عراق” وغسان زقطان “فلسطين” وطالب الرفاعي “كويت” وباختصار ينبغي استخدام وتطويع مفاهيم ومؤسسات المجتمع التقليدي لأجل أهداف تحديثية تفرق بين الواقع والمستحيل الذي يواجه الفرد والثقافة بهدف التغيير.
وحول أدب الاغتراب كما أشار بعض كُتاب المهجر “غير العرب” فيبدو أن هنالك تصوراً متبايناً تراكم انحرافه مع الزمن بشكل منتظم. ففي الوقت الذي يعتبر البعض أنه حالة استثنائية قائمة لأسباب اضطرارية أو ذاتية، يدعي البعض الآخر بأنه يشكل نسبة ملموسة تعكس حالة وتمثل أدواراً مختلفة بالنسبة للثقافة الوطنية. وأنه أما يبعد الكاتب عن الوظائف والإبداعات التي يعبر عنها التراث والتقاليد والأصالة، فيسيطر أدب الاغتراب عليه بسبب تأثير المحيط والبيئة الجديدة، بدل أن يسيطر هو عليه. أو أن يجد ملامح جديدة للاستنارة والتنبؤات التي تبدو هامة متحدية أحياناً، وصادقة ملائمة أحياناً أخري. والحقيقة أن كلا التيارين “التحدي والملائمة” لم يؤد إلي حل الإشكاليات أو الوقوف بوجه المفاهيم الخاطئة التي تفصل بين أدب المهجر والداخل بسبب الفوارق التي أحدثتها طبيعة المنفي، كما أنهما لم يتمكنا من إلقاء الضوء علي جوهر المسألة بغية إزالة تلك الإشكالية والربط بين مفهوم أصالة الأدب ومسؤولية الكاتب إلا في حالات نادرة. إن أديب المهجر أو المنفي مع فارق المفهوم إن صح التعبير، يواجه حياة تتغيّر مقوماتها يومياً بسبب شدة التوترات والأزمات التي تفرزها بيئة المجتمع الجديد، تؤثر علي وضعه النفسي وتسبب خللاً في نظرته للحدث أو اللحظة الإنتاجية “الفكرة” مكاناً وزماناً، رغم احتفاظه بجوانب كثيرة من تقاليد وعادات وتراث بيئته الأصلية. إن هذه الازدواجية تشكل فراغاً مؤثراً في مسألة الانجذاب نحو الحقيقة والتعبير، مما يجعل الأدب موضوعياً، أدباً غير متكافيء من ناحية المضمون والنص، بعيداً عن جمالية السرد كونه غير متجانس، مجرداً من ميزاته النوعية في التراث والأصالة والتمرد.
وهنالك إشكالاً خطيراً بين مفهوم تمسك كُتاب بلدان العالم الثالث في الدفاع عن أدبهم، وبين المهمة الموضوعية الملقاة علي عاتقهم كمثقفين ومفكرين يسعون إلزاماً إلي الحفاظ علي مقومات حضاراتهم وفضح بؤس الإنسان، والتأكيد علي أن الحياة والتأريخ شيء واحد، يفسر واقع الإنسان الذي يقوم علي تعدد “الأشكال الجوهرية” الشعوب، الأعراف، التقاليد، الحضارات، التراث. فهم عندما يدافعون عن ثقافتهم فإنهم يدافعون عن حرية التعبير والفكر، يحددون صلتهم بمجتمعاتهم، يناضلون من أجل استبدال العلاقات غير المتميزة بعلاقات فريدة تضع التبريرات والاستنتاجات التي يخلقها العلم في سبيل أدب يمتاز بعدائه للنزعة الشوفينية المتخلفة، أدب يفرض البعد الأخلاقي والجمالي الذي يتجاوز السياسة والذات كي تحافظ الحضارة علي قيمها الإنتاجية لتبرر وجودها ذي القيمة الفكرية والجمالية فتصبح في متناول الجماهير.. وعلي الرغم من أن لقاء كًتاب العالم العربي بزملائهم من أوروبا في إطار مهرجان أدبي عالمي له وزنه واعتباراته قد شكل جانباً استثنائيا فريد النوع، ضيق الحدود، ألا أن الكتاب العرب وللأسف لم يستغلوا المناسبة لتناول شؤونهم والقضايا الرئيسية التي تقف عائقاً أمام حياة الكاتب كالجبرية والرقابة والتعتيم والإقصاء التي يفرضها القانون وسلطة الدولة بشكل قسري.. وفي معرض حديثي الخاص معه في الليلة الأخيرة من المهرجان، أجاب الشاعر الألماني يواخيم سارتيريوس علي بعض الأسئلة التي طرحتها عليه بمرارة وأهمها: ما هي الخصائص التي ينبغي أن يتصف بها الكاتب كي يدعي للمشاركة؟ وما هي القواعد التي يتم بموجبها تصنيف هؤلاء؟ إذ رأينا أغلب المشاركين العرب ليسوا بالمستوي أو أنها أسماء غير معروفة علي الساحة الإبداعية والثقافية العربية، كما أن مشاركاتهم كانت بائسة وسطحية!! ـ كنا قد اعتمدنا في اختيار الأسماء من بين 100 مقترحاٌ جاءنا من بعض اللذين شاركوا سابقاً أو من بعض معارفهم الألمان والعرب هنا، علماً من أننا قررنا عدم دعوة الأسماء المتميزة التي سبق لها المشاركة وفسح المجال أمام أجيال جديدة، وأقر أن الاختيار كان في بعض الحالات غير موفقاً، لكننا لا نستطيع تحميل أنفسنا معلوماتياً ما لا لنا عليه. وثمة حقيقة أخري، أن الضيوف العرب وجدوا في هذا المهرجان فرصة لإعادة الذاكرة والتمتع بلقاء بعضهم البعض في أجواء سادها الأنس والمرح، وأتفق معك في أن حضورهم الندوات المختلفة، العربية وغيرها، كان بائساً، وكم كنت سعيداً لو شاركوا وأدلوا بدلوهم في الشأن الثقافي والإبداعي وهموم الثقافة والمثقفين في العالم العربي كما فعل كتاب أفريقيا في الدورة الثامنة للمهرجان. نعم أنك علي حق عندما تتحدث عن هذا التقصير، لكن وجهات النظر هذه ستقوّم عملنا في المستقبل وستساعدنا علي تجاوز الأخطاء لأجل ثقافة متميزة.