سليم جواد :
1
.. إني لا أُقلّبُ أفكاري عادةً إلاّ تقليباً عنيفاً ! وربما قلَّبتُها تقليباً أهوجَ أحياناً ، وما ذلك إلاّ مغالاةً مني لأختبر مقدار مرونتها وقوة تحملها.. فيحدثُ لها بين الحين والآخر أن تتمزّق نتفاً بين يديّ هي والكلمات التي تتكوّن منها ، فإذا حدث أن تمزّقت ! فعندئذٍ لا أفعلُ إلاّ أن أُلقي بجثثِ كلماتها الصغيرة النافقة في سطل الزبالة ، إذْ سيكونُ من غير المعقول أن أحتفظ بجثث مفرداتٍ نافقة لأَفكارٍ ممزَّقة ، بينما أنا قادرٌ إلى ما لانهاية له على أن أُخَلِّقَ في رحم اللغةِ وأُخَصِّبَ ، مفرداتٍ حيّةً جديدة لأفكارٍ متفجّرة بالقوة والعافية والسحر.
ثمة أَفكارٌ بعينها ، لا تستديرُ إذ تستدير ، إلا استدارةً حرجة ، متحرّكةً تخبّطاً ، في حيّزٍ ضيّقٍ وَخِمٍ من فضاءٍ كَدِر غير محسوب الأبعاد ، وسُرعان ما تبتدئ بإِلتهام نفسها بنفسها ما أن تُباشرَ إِنبثاقها شبه القسري من ذهن مبتكرها .. هل قلتُ مبتكرها ؟ عفواً ! ما هو بالأحرى إِلاّ متغوّطها وإن لم يكن إلاّ على جهلٍ بذلك !
فلنحذرنَّ ولا ننخدع بمثل تلك الأفكار ، فهي ليست خارجةً سوى من الأمعاء الغليظة لذلك المتغوّط المرِح المحترم الذكي السعيد .
أما ما يحدث للأفكار ، وعلى الدوام ، فإِنَّهُ لا يُفتنني عن غايتي ولا يُربك مقاصــدي ولا يُصيب نفسي بالحزن أو قلبـي بالإحباط والقنــوط! كما أنه ، لا يبثّ اليأس في دخيلتي أبداً ! إذْ أَنني من مزع تلك الأفكار ومن دم تلك الكلمات ، لا أُعيد صياغة ما تمزّق منها ولا أُوقِف نزيف دم الكلمــــــات فقـــط، وإنمـــا و« بالمرَّة » أُعيـد تلقيـــح قريحتـــي و « عَ الواهس » أُعيد تجديد ذائقتي أيضاً ، مبتغياً صيانة ذاتي ، لأبعثَها وقــد تطهّـرت وتنقّتْ فتخلّصتْ من كل شوائب الغفلة والبلادة والغباء ، التي يعتــزُّ بحيــازة ملكيتها ، أبناءُ عصريَ السعيد ، ذوو المؤخرات المكشوفة ، تلك المؤخرات المسؤولة عن إنتاجِ كلّ الأفكار البرازيةِ التي يريدون تسويقها علينا بثمنٍ مرتفع ـ وبالفعل فقد سوّقوها بذلك الثمن ـ كما لو أنها من إنتاج أرواحهم وليست من إنتاج مؤخراتهم ، مع أنّها من إنتاج مؤخراتهم وليست من إنتاج أرواحهم !! ..
2
الجروح خِصبةٌ أبداً ، بل إنها لغنيةٌ بخصوبتهـا ! فـإذا لم تكـن خصبة كفايةً ، فيمكننا تخصيبُها وما ذلك إلا بصبِّ دِفقاتٍ غزيرةٍ من شلالات الحنان المنعشةِ على اضطرام نيرانها ..
بذلك يتمُّ تبريدُها .
إنْ لم تُؤآخي جروحكَ فإنّك تعاديها .
كُـلُّ سير الممسوسيــن والمتصوِّفيــن والحالميــن الخطرين والعشَّاق اليائسين ، والذين يقدِّمون إليك عن طريق الخطأ ، بلاداً بأكملها بينما هُم يبحثون عن بلاد التوابلِ ، والمنعطفين انعطافةً كبرى باتجاه الله بسببِ ثمرةِ إِجاصٍ سرقوها والخائضين مساربَ الجحيم الأرضيِّ بسببِ رغيفِ خبزٍ سرقوه ، والمجاذيب والمغضوب عليهم والمطرودين من الحفلات ومن القاعات ومن المؤسسات ومن الولائمِ والمنفيين من أوطانهم والمطرودين من الفراديس ، والأنبياء المسلّحين فالعُزَّل فالمنبوذين ، وكُلُّ الملتهبةِ أدمغتهم والمهووسين وغير المنسجمين مع بلادة الحشود وغير المندغمين في الكُتل وغير المنتظمين في قطيع والخارجين على كل الطوائف وذوي الدماء الفائرةِ والنازفين قلوبهم في الحروف التي يخطّونها والواضعين أرواحهم فيما يصنعون والمشغوفةِ أفئدتهم بكل ما يتلقفها ليشغفَها ، سِيَرُ كُلِّ هؤلاء ـ الذين هم أعتى المخرّبين أعظم البُناة ـ تُخبِرُنا بذلك .. مرّةً تصريحاً ومرّاتٍ تلميحاً ..
إنّ جروحنا نحن الكتّاب هي أعظمُ مدّخراتنا ، وإنّ لها لمذخراً في أرواحنـــا ملــيءٌ بالأكـــداس المتراكمـة ، منه تُستخرجُ كل المواد الأوليةِ المستخدمـــة في عمليــةِ تشييـد عوالمنا ، تلك العوالم العصيّة على التشييد . بيدَ أنّ المواد الأوليّة ، المأخوذة من أكداس ذلك المذخر ، من الطبيعي أن لا يتمَّ إِستخدامها مباشرةً مثلما هي عليه ، في عملية تشييد تلك العوالم ! وإنّما لا يتم ذلك إلاّ بعد إجراء تجارب معمليةٍ مختبريةٍ دقيقةٍ عليها . ولا يمكن أن يقوم بإجراء كــل تلك التجارب ، بالتقنية والحـذق والكفــاءة المطلوبة ، إلاّ الروح + المخيّلة .
بين ماكنتيّ هاتين الآلتين يتـم تصنيـع تلك المواد ويتم تجهيزها …
أُزحزحُ صفحة باب كلمةِ روحٍ ، السحرية ، فَأَلِـجُ مذهولاً مسحوراً ، أجواء منطقةٍ مسحورة ، منطقةٍ لائذةٍ بالعُتمة تغمرها الظِلال الخُضْر ، غير أنّها ليست سوى منطقةٍ خفيّة فلا يمكن رؤيتها إلا بواسطة البصيرة :
« … زهرةٌ نضرةٌ جامدة في الهواء الساكن ، تُطْبِقُ أجفان عينها الوحيدة كما لو أنّها لا تفعل ذلك إلا خجلاً ! مع أنها لا تفعل ذلك خجلاً ، تَشْخَصُ بوجودها ذي الضوع المُنْحَسِر ، المنطوي على سرٍّ مستتر ، فتنطبعُ في قرارةِ هدأة شحوب المساء ذي الظلال الناعمة ، بينما قريباً من استقامةِ انتصابتها الشبحيّة ، يفترقُ فتاةٌ وفتـىً عاشقان ، يفترقان دون أن يُريدا ذلك ، لا يتفوهان إلا بكلماتٍ شحيحــــةٍ تُبهِــمُ ما يودّان قَوْلَهُ أكثر مما توضحه ، ثم يخطوان باتجاهيــن مختلفيــــن فــلا يتسنّــى لهما أن يَرَيا بعضهما بعضاً بعد ذلــك أبـدا ! اللهــم إلاّ في أحلامهما ، التـي بقيا يطلاّن مـــن خلالها ، أحدهما على الآخر ، بالملابس نفسها وبالشكلِ والهيئة اليائسـة نفسها ، التي افترقا عليها أمام جمود الوردةِ في قرارةِ هدأة المساء ، دون أن يخطر لأحدِهما أنّ الزمان الغاشم الذي مرَّ عليه فأبلى ملابسهُ مرّاتٍ ومرااتٍ ومرّااات وغيَّر ملامحهُ ، قد مرَّ على محبوبهِ فأبلى ملابسهُ وغيَّر ملامحه هو أيضاً ، بالقدر نفسه ورُبما بقدرٍ أكبر …. فتاةٌ بجيدِ غزال وحركاتِ فهدةٍ وجسدٍ طويل كَأَنَّهُ رُمح الإشراك مسدّدٌ باتجاه السماء ليثقب زرقتها ويهدّد طمأنينتها الكاذبة ، نَضِرَةُ الوجنتين شديدة سواد العينين متسعتهما ذات شامةٍ بارزة تُرصِّعُ أسفل خدها الإيمن فتمنح وجهها جاذبيةً تُشوِّش الحواس وتُربِكُ فعاليّةَ السليقـــة . نهداها صغيران نافران طفوليان وسنّاها العلويان منفرجان . عموم هيأتها تتركُ في النفسِ شِبهة أنها ليست إلاّ طفلةً ! لكنها ذات أنوثةٍ مُربكـة . تفتحُ طِلاَّقةَ شُبَّاكٍ يُشرف على باحةِ زُقاقٍ خلفيٍّ ينفتح في فضائــه المحدّد على صفوف قنفات مقهىً صاخبٍ ودكاكين مزدحمة .. الفتاة لا تبدو إلا قلقةً مثل فهدةٍ في قفص ، متوجِّسةً حانقة مع محاولةٍ نصف مكترثـة للظهور بمظهر من هي ليست قلقةً ولا حانقةً ولا متوجِّسة ، تُدَقِّقُ النظر ببطءٍ من عليائها في وجوه روّاد المقهى الشاخصين إليها بأعينهم ، فلا يردّون على جرأتها إلا بوقاحةٍ من نظراتهم . بيدَ أنها ـ غير مكترثةٍ بوقاحة نظراتهـــم ودون قصـدٍ منها ـ تُشعِرُهـم بخيبتها محمِّلةً إياهم ذنبــاً ، تُغلــق ظِلفــة الشبّاك عصبيةً كأنما تعاقبهـم ، وتختفي …… شراعٌ مرتخٍ لا يبدو إلا كأنه تَأَبَّدَّ خَدِرَاً في مكانه الساكن الخَدِر على صفحة الماء الخَدِرة الساكنة وإذْ يتطلّع إليه فتىً من على الشاطئ فإنه لا يفكِّر إلا بأمرٍ واحد : كم من الأعينِ تتطلّع إليه غير عَينَيَّ ؟ وكم منهــا تــذرفُ الدمع مثلما أفعل ..؟ وتلك التي تذرِف الدموع مثلي ! أتذرِفهـا للسبـــب نفسه الذي يدفعني لأذرِفها ؟ لا .. يستحيل …….. نخلةٌ وحيدةٌ عجفاء تنتصبُ غريبةً في جانبِ طريقٍ مهجور لا يُمكن بلوغهُ بأيّ وسيلة نقلٍ حديثة وإنما بواسطة الحيوانات فقط ، طريقٍ اختفت ملامحهُ بعد أن أكلته شجيرات العاقول والشوك ، يقفُ في قلبها الشاهق ذي الخضرة الشحيحةِ الشاحبة المتسخة غرابٌ أسحَمٌ مشعّثاً شبه منتوف الريش ينظرُ نظرات عدم اكتراثٍ بطيئةً إلى غرابٍ آخر ينعق نعيقاً مشؤوماً ، نعيقاً كريهاً يُوقع أَشَدَّ أنواع الهلع في أعماق الأفئدة ، الغراب ينشغلُ بمهمةِ نقرِ جثةِ ثعبانٍ مطروحةٍ بكيفيةٍ ملتويةٍ معفَّرةٍ على نحوٍ قبيحٍ بالدم والتراب ، فـــلا يبـــدو الدمُ الملطّخ به الشفق ، إلا وكأنه أُخِذ من جثة الثعبان ، لشدة تشابه إِتساخــهِ وَتَعَفُّـــرِهِ مــع إِتساخ دم جثة الثعبان وَتَعَفُّرِهِ . أما الطريق ! بنخلته الوحيدة وغرابيه الأسحمين وثعبانه ذي الدم المتسخ ومعالمه المأكولة ، فلا يتركُ عميقاً في الحسِّ إلا الفكرة المروّعة بأنه لا يؤدي إلا إلى الجحيم …… فراشةٌ نشطة الحركـة غريبةُ الألوان تحومُ حول رَأسْيّ عاشقين متقاربين يتهامسان ، تخفقُ بجناحين سريعين في ظهيرةِ يوم خميسٍ شتويّةٍ دافئة تَتَكَسَّرُ فيها أشعة الشمسِ لامعةً لاهثة مثل قِطعٍ زُجاجية من الكريستال ، فَيَخْتَلِجُ قلب الفتى منبهراً بجمالِ حبيبته ثم في اللحظة التي تليها يُفْتَتَنُ بها فَتُرَاوِدُهُ فكرةٌ غامضة أن يَدْلُقَ فنجان قهوته المُرَّةِ على قميصه ليتجاوز الإلتباس فيثبت لنفسه أن ما يعايشه ليس حلماً . حضور الفتاة الساحر وحضور الفراشة الرقيق وخفقانهـا الحيوي كانا يمنحان كلمة سلامٍ ، تلك الكلمةُ العــزلاء ، عُمقــاً ويعــزّزان وجودها في دخلية العاشق المسحور .. تجمدُ الفراشةُ برهةً في الهواء ثم تختفي بين تلاحم الشجيرات غير مُخَلِّفةٍ إلا هدوءاً راسخاً مهيمناً ، هدوءاً متيناً لا يوحي بالثقة بالوجود ويُغْري الواحد ببناء عُشٍّ فقط ! وإنما وبتشِييد دارٍ وإنجاب طفلٍ أيضاً ، دون خوفٍ من حربٍ أو خشية إملاق ….
لكن ! كلمــةَ ســلامٍ ليست سوى كلمةٍ عــزلاء ، كلمــةٍ معاقة ، وهي فوق ذلك لم تصل سن الرُشد على الرغم من بلوغ عمرها آلاف ملايين السنين ، ولذلك لا يمكن أخذها على محمل الجد أو تصديق معناها ، الذي ما وُجدت إلا لتُغَطِّيهِ أو الثقـة بذلـك المعنـــى .. أما الحبّ ! ربيبُ القلوب وماضغ رحيقها ، فلا يُمكن تشبيهه إلا بثعبانٍ أَكولٍ ، ثعبانٍ نهمٍ يبتلــعُ جســده مبتدئاً بإِلتهام ذيله : تنهض الفتــاة حزينــةً عابسة ، تاركةً فتاها المُغرم وحيداً ، « تتسوخل » غيمةٌ ذات لونٍ قاتم ، مُصْطَكَةً ، فتتقطّعُ خيوط الشمس المتلألئةُ وتنطفئُ قطع الزجاج الكريستالية متفحمةً مسودة .. مؤخرةُ مركبةٍ ، نَتِنَةٌ ، تَكْفَخُ المكان بضرطةِ دُخانٍ قذرٍ فيتوسخُ كل شيء ..
يتبدّلُ جوهرُ كل شيءٍ إلى نقيض جوهرهِ ..
ومن الغَزَلِ إلى الضراط يشعرُ الفتى أنّ المدنيةَ تتقهقهر وتَنْكُصُ مُرْتدَّةً إلى عصور الكهوف ، يقول : « تخيّلتُ نفسي مكشوف العورة آكُلُ الطيور نيئةً حيّةً وهي ترفرف متألمة مختلجةً بين أشداقي وحين أتغوّط أتناول حجارةً لتنظيف مؤخرتي ».. تنتابه حالةُ حُزنٍ ماحقةٌ لا قِبلَ لأَعصابِهِ بِتَحَمُّلِ تعسُّفها الغاشم ، فيكسرُ قدح الماء ليقطع وريدهُ ، لكنّه بدلاً من ذلك يخلع فردتيّ حذائه ثم يخلع جوربيه فيدحسهما في فردتيّ الحذاء ويُنَحيه جانباً ويضعُ قدميه الحافيتين فوق شظايا الزجاج وهو لا يعي ما يفعل ويضغطهما عليه بقوة حتى يشعر بتمزّق اللحم وبألم انغراز الشظايا في باطنهما ، فلا يكون توقهُ لمعانقة الموت إلاّ كتوقِ من يودّ معانقة الحياة …
ولأن الفتى لم يكن إلا شاعراً فقد كتب فيما بعد بنبرةٍ تراجيديةٍ لا يرقى إليها الأمل مستحضراً مزاجَ لحظات تعاسته المدلهم من جديد ! ولكن مموِّهاً على حقيقة كونه أراد أن ينتحر ، وقد عَبَأَ قَلَمَهُ بَدَمٍ بَدَلَ الحِبْر كان سَحَبَهُ من وريده :
… إنجرَحتْ قدماي عندما كسرتُ قدحاً فيه ماء
سُخطاً على رحيلها …
وأنا أُحضر المكنسةَ لم أجد النثار …..؟
واختفى الماءُ رغم أني ما أزال غَيرَ قادرٍ على السير …
أيُّ أفقٍ ! هذا الذي تنشرين الحنين عليه …؟
أيّةُ فتنةٍ ! هذه التي تضرمين بين العين والعين …؟
كما ذاكرةٍ لقناعٍ ترحلين … والعينين
ولا تتركين في الوجهِ سوى بئرين مالحين يغوصان عميقاً …
في أغوار الرأس المسالمة …
رواقان … جُرحان .. لا يكفّان .. يهذيان ….
ثمّة ما هو مُرٌّ من شِدَّةِ عُذوبتِهِ …. كان يمضي … ينأى …
هل كان صوت عِطرك الهامس … ؟ أم دُخان العربةِ
المشؤوم الذي تلاشى وسط حريقه …
وجهي المخبول الهادئ ، قُبّعةٌ تهاترت بها الريحُ المراهقةُ
وثرثرتْ ..
وجهي الذي إِبْيَّضَّ من جنون الضباب
الذي أخفق في تسلُّق الظهيرةِ …
فخلط الجمجمة بالشمس …
العينَ بما تتوهّم أنها تراه …
هل كانت معي …؟
هل كانت هُنا … ؟
هل كانت الساعةُ الواحدة … ؟ أكان شعرُها أسوداً … أم
أزرق … وكيف كُنتُ … ؟ وما كان اسمي … ؟
والكلماتُ … والأوراقُ … والحنينُ والقهوةُ والنادلُ … وسائقُ
العربةِ ، وأنا … وهي ….. والأحلامُ والمشهدُ الضائع ؟
لو أنّي فعلتُها عندما راودتني …
وسكبتُ ، متصنّعاً ، قليلاً من القهوة على القميص لأتأكّد من
أنّنا كنا معاً …!
لا شيء ، ولا حتى ذلك الطيف …
أكان طيفاً … ؟ لا بل شيئاً أقرب إلى الظل منه إلى
خيط .. يُستَلُّ من كُرةٍ تتدحرج نحو الأعماق … بعد كُلِّ
دورةٍ ، كان القلبُ المندهش يصغرُ …
يتضاءل … يتناهى … ينضبْ
نضب الخيط .
ثُمّ وجِد معلقاً في المروحةِ مشنوقاً كأنّ جسدهُ ذا العضلات المفتولةِ علامة إِستفهام أمام عينيّ الله ، علامةُ إِستفهامٍ متحركةٌ تَحْوَّلُّ لها الأعينُ لو أنها كانت تُبصر حقاً ..
روائيٌ مُبتئس يعكفُ على مزاولةِ ، والكلمة الأكثر دقة مكابدة ، الكتابةِ في ظروفٍ رديئةٍ جداً ساعياً لمعالجة مادته المستعصيةِ معذباً نفسه يوماً بعد يوم في جحيم عُزلته ليُخِضعَ إرادةَ الهيولى لإرادته ، فلا يبدو ـ في نظر نفسه عند تقييمه إياها وهو يسخر من نفسهِ ـ إلا كمن يقومُ بترويضِ نمرٍ داخل نفسه . وحين يجيء وقتُ انتهائهِ من الكتابةِ فإنّه يُلقي بكل عمل يومه في سطل الزبالة ولا يحتفظ منه ولو بجملةٍ واحدة ، وهكذا ، وعند حلول اليوم التالي يقوم بتكرار دورةِ العذاب نفسها ، مكابداً ساعاتهِ على الوتيرة اليائسة المؤذية نفسها ، إلى أن يأذن الشيطانُ فيأتي يومٌ مختلف يفوز خلاله بتركيبِ جملةٍ تُرضيه فيستبقيها ، مثلما يستبقي الخبّازُ قطعةَ الخميرة ، ليُحَاول الإنطلاق منها للكتابة عمّا يودّ الكتابة عنه مما تفيضُ به روحهُ ويستعصي فيحرنُ ولا يمتثل لإرادةِ الكتابة : الكتابة عن عاشقين لدودين ليس هو سوى واحدٍ منهما ـ إِصْطَلَيا بأَلْسِنةِ نيران حبهما حتى لم يعد بإمكانهما تَحَمُّلِ المزيد من ألسنة تلك النيران ـ يفترقان رغم أنّهما لا يريدان أن يفترقا ، عند نقطةِ انغلاقِ مصراع الأُفق على شغفِ خفقان قلبيهما الصغيرين المنفعلين ، وزهرةُ واقفة ، شاهدةٌ عليهما ، تُطبقُ أجفان عينها الوحيدة ، يأساً لا حياءً كما قد يتبادر إلى الذهن ، مندغمةً في اللبّ الشاحب الكثيف من هدأة المساء …… الكتابة عن فتاةٍ عاشقة كانت على موعدٍ مع حبيبها ، الذي خطّطت لتهرب معه وحدّدا موعداً لذلك ، إذْ اتفقا على أنّها سوف تفتح ظِلفة الشبّاك في غفلةٍ من « مرة أبوها » لِتُطِلَّ على فضاء المقهى وحين تراهُ جالساً وتتأكّد من أنّ خطتهما لا تُنَفَذُّ إلاّ بدقةٍ من قبلهما هما الإثنين فستنزل وتسبقه إلى رأس الشارع .. ولا داعي لأن تحمل حقيبة ملابس معها لئلا تُثير شُكوك زوجة أبيها . وتجنّباً لذلك فقد هَرَّبتْ خلال أسبوع كُلّ ما تحتاج إليه من الملابس قطعةً قطعة مُودِعَـــةً إِيّاها لديه … ولكن ! عجباً ! فحين حَلَّتْ ساعـــة التنفيذ وأَزِفَ الموعـــد وفتحت الشبّاك ! فإنها لم تجــــد إلاّ « إيدي والخريـــة عمـت عيني عليَّ » .. فانتظرته وانتظرتــه وانتـ ……ـظرته ! حتى علمت بعد مرور ثلاثة أسابيع أن ما منعه من المجيء إلى موعده المصيريّ ـ موعدهما ـ لم يكن إلاّ إِنشغالُهُ بزواجهِ من فتاةٍ أخرى كان علـى علاقةٍ سابقة بها . فاحتقرته وأخرجته من حياتها إلى الأبد ، لكن ليس مع إِنعدام غِصّةٍ وَأَلمٍ في روحها ينتابانها بين الحين والآخر حتى بعد أن تزوجت وأنجبت أطفالاً ……. الكتابةَ عن شراعٍ مُتَأَبِدٍّ على صفحة النهر وشابٍ مقهور القلب مجروح المشاعر خارجٍ من السجن حديثاً يقفُ على الشاطئ وهو يذرف الدمع على كرامتهِ التي أُهينت فَذُلَّت بعد أن دِيَسْت بالقندرة هناك ، في ظلمة أقبية الجحيم وعتمة زنازينه ، فتأخـذه نوبةُ تفكيـ…….. الكتابةَ عن نخلةٍ رجيمة لن تبرحَ مكانها ، الذي رآها فيه ، حتى لو أُزيلتْ من ذلك المكان ، إذْ تظلُّ تنتصب مثل علامة شؤمٍ في ذاكرته ، وحيدةً عجفاء على حافةِ طريقٍ موحشٍ بشجيرات عاقولٍ وشوك شيطانية الذؤآبات ، طريقٍ لو أنك قطعته إلى نهايتهِ لما وجدت نفسك إلاّ في قلب الجحيــم ، وجدَ نفسه وحيداً فيه كَأَنَّهُ نفايةٌ سَامَّة يُراد التخلّص منها ، مَقْصِيَّاً بعيداً عن عينيّ أي كائن بشريّ ، في الساعةِ نفسها التي كان خلالها رجالٌ أجلافُ الأخلاق غِلاظ القلوب خشنوا الأرواح يذلّون أفراد عائلتــــهِ مستبيحين حرمة بيتهم وهـــم يفتشــون عنه في الزوايا والأركـــان ، دون أن يخطر لهم ، الطريقُ الموحشُ المؤدي إلى الجحيم ، الذي سلكهُ .. ويبدو أن الــذي كلّف من أوصلوه قد أوصاهم أن يزوده بالسلاح أيضاً ، أعطــوه كيساً من القماش الأبيض فيه مسدسٌ وثلاثة شواجير . كان شعرُ الرجل الذي ناوله الكيس ، خشناً جداً يُشبه شعر فرشاةِ صبغٍ جافة ووجههُ جافاً قاسياً ناوله سفرطاس فيه طعام وزمزية مليئة بالماء وترمز مليء بالشاي ، ومزهواً بإنجازته قال : « حتــى الشيطان نفسـه ما بإمكانه أن يعثر عليـك في هذا المكان .. ». انطلقت ضرطةٌ عظيمة من لدن طيزٍ خفي .اقترب من أُذْنِهِ فمٌ قبيح ذو أنيابٍ بنفسجية مزنجرة ، رائحتهُ كريهةٌ لا تُطـاق وهمس فيها بنبرةٍ كأنها خرخشةُ حصىً في عُلبةٍ من التنك : « قُل له أنت تكذب .. لا تصدّق ما يقوله لك » .. شعر أن أُذْنَهُ وكل صفحة وجهه كأنما سفعتهما النار وهو يستمع للكلمات الشحيحات المحرّضات ذوات الرائحة الأكثر نتانة ، التي قُدّر له أن يستنشقها خلال حياته ، وإِذِ إِلْتَفَتَ فقد طالعهُ رأس صخلٍ بأربع عيون كلها مصبوغةٍ بالدم وأُذنيّ حمارٍ تحملان قرطين كبيرين هما عبارة عن هلالين مصنوعين من دروع السلاحف تتدلّى منهما صُلبان كأنها خناجر ليست مصنوعة إلا من أظافر أقدام الموتى كُتبت عليها بالنار التي تظل مشتعلةً أبداً ، عبارة : « أيها البشر الفانون .. يا أبناء آدم الأذلاء .. لو أطعتموني لأجلستكم على عرشِ الله »، وأُشْكِلَ عليه وتحكمت ريبةٌ بعقله أذهلته . لقد كان رأسُ الصخل بلا جسد فتحرّك إلى الجهةِ الأخرى ، قريباً من أُذن الفتى الثانية ، فرآهُ بِرَقَبَـةٍ مقطوعة ، وقد طوّقت تلك الرَقَبَةَ عِدَّةُ قلائد ، لم يكن خرزها قــد أُتُّخذ إلا من أنياب الذئاب وجماجم الثعابين مكتوب على كل خرزةٍ منها جزءاً من آيةٍ ، أُخذت إما من القرآن أو الإنجيل أو التوراة ، لكنها لم تُكتبْ إلا بالمقلوب لتعطي أو تناقض المعنى الذي لم تنزّل إلا لِتُقِرَّهُ . لم تكن رموش عيونهِ الأربع إلا إبراً ، إِبَرَ خِياطةٍ ذات نهايات شديدة التدبّب لكنها مثقوبةً تقطر دَماً وسمَّ عقارب ، أما حواجبه فلم تكن إلا نملاً حياً ، نملاً لا يتوقف عن الحركة أبداً ، ولكن ـ كما لو أنّنا في عهد النبي سليمان ـ لم يكن مسموحاً لكل نَملةٍ أن تتحرّك إلا في مكانها الذي حُبست فيه لِتُكوِّنَ شكلَ تلك الحواجب .. أخذ الفتى يُغالب نوبات الإنهيار ، ومن جديد وفي أُذنهِ الأخرى وبكلماتٍ لا تنضحُ إلا نتناً وكأنّها ليست مستخرجةً إلا من كتلةِ خراء أو من بالوعة مرحاض ، حَرّضهُ ضدَّ الرجل الـذي لا يــروم إلا إنقاذ حياته : « لا تتردّد .. لا تصدّق ما يقوله لك .. كذِّبْهُ .. وإذا لم يتقبّل ذلك أطلق عليه النار … » وخنس قليلاً كما هي عادته ثم تحرّكت قسمات وجهه واحتلت كُلُّ قَسَمَةٍ مكان الأخرى ، فوسوس له: « قل له أنت تكذب .. إنني أحكمُ هنا في هذا المكان مثلما أحكم في أماكن أخرى ، أحكم هنا منذ أن طُـردت بسبب ذلك الخانع ، ذي الأصل الحقير المخلوق من الوحل … هذا المكان واحداً من أمكنتي العزيزة المفضلة » واختلطت قسمات وجهه ببعضها وتبرعم له فـي منتصف رأسه قرنٌ وحيد ، قرن خرتيت لكنه ليس مصنوعاً إلا من الخراء المتصلِّب ، ثم أنّ القِرنَ استوى كاملاً ، لكنه لم يتوقف عن الوسوسة والدس والتحريض : « هـل تعلم ! كم من التعساء الذين جاء بهم مثلما جاء بك أولئك الذيـن خربّت لهم عقولهم ؟ كثيرون جداً … ! هل تعلم كيـف … ؟ بسيطة ، أُطبق السلك الحــار على البارد و …. طُق …. ! تحترق عقولهم .. طبعاً أنت لا تصدقني كما هي عادة أبناء جنسكم الوضيع !! لكن لا عجب فإنّ جوهركم خِسِّيس وليس مخلوقاً إلا من الأوحال .. هل تريد أن ترى جماجمهم وهياكلهم العظمية ! أولئك الذين جلبهم من تظن أنه يريد إنقـاذ حياتك ؟ ما عليــك إذن إلا أن تختبر ذلك بنفسك .. !! خلِّ النخلة بظهرك « بعوني وقوتي » واتجه «بعوني وقوتي » نحو مطلع الشمس ، ثم سِر « بعوني وقوتي » بطول مائة ثعبان من ثعابين مصر وسترى أنه يكذب… فبعد أن تسير « بعوني وقوتي » وتقطع مسافة مائة ثعبان من ثعابين مصر فإنك ستـرى « بعوني وقوتـي » وادياً مليئاً بالجماجم والهياكل العظمية … إذن كذّبه ! كذّبه إذن » وإذْ شعر بِأُذْنِهِ وصفحة وجهه الأُخْرَيْيْن تُسفعان بالنار هما أيضاً فقد اقتلعه الرعــب ودمّر دخيلته إلا أنه لم يُجِبِ الرجل بما أُمر أن يُجيب به ، قال : « المكان الوحيد إللّي ما ممكن أن أُخفي نفسي عن الشيطان فيه هو هذا المكان …!! » هاجت الخيول تحت ثُقل فرسانها بفعل حضور روحٍ خفيّ وأخذت تعضُّ أَلجِمَتَها وتحمحم وراحت تحرّك قوائمها في أمكنتها وكأنها ترقص . إِلتفَتَ الرجل إلى أصحابه مستنتجاً : « اللعين .. الغويّ ! ما نكدر نضم عليه شي …! » ورفع صوته حتى بانت أوردة رقبته : « إمّا أن تسترزق وتخلينا نسترزق ! أو أقتحم عليك جحرك …! » بدا الرجــل وكأنه مخبولٌ وهو يُطلق تهديده ثم وجّه الكلام للفتى : « بهاي الحال إنت مجبور أن تتصادق وياه .. إذا أردت إنقاذ نفسك ممن هُم أسوأ وأشر منه ! هناك في بغداد! » أُذهِل الفتى إِذْ تأكد له تماماً أنه رأى فعلاً ما توهّم أنه رآه وظنّ أنه توهّم رؤيته ، فأخذ قلبه يخفق .. عَتَّ الفارسُ شكيمة فرسه فكبح إِهْتياجــهُ وإِلتفتَ إلى جماعته وأَطْلَعَهُم على ما ظن أنها أعظم حقيقة يمكن أن يطلعهم عليها : « هذا الجيل حسن الظن بنفسه وبالدُنيــا ! يتوهــم أنو بالإمكان أن يكون بطلاً دون أن يدفع الثمن …! شلون يصير !! » .. لم يكن إلا مستاءاً مما يظن أنها ميوعة هذا الجيل ولأول مرةٍ دقّق النظر بالفتى ، رازه ووزنه بميزان الرجولة غير مقتنعٍ بهيئته ، ثم قال بنبرةٍ حاول أن يفرغها من السخرية : « البطولة يا …….. هي البضاعة الوحيدة إللي لازم تدفع ثمن لمن يتقبّلها منك ».. اتخذت سيماؤه وملامحهُ هيـأة إنسانٍ متآمرٍ بالأُجرة ، وجاهر بما كان يجـب أن يضمره : « نعـم .. الشيطان يسكن هنا ، في هذا المكان ، وأنا أعرف أنه تجلّى لك ! فشتريد ؟ الموت أو الحياة ؟ إذا كنت تريد الحياة فعليك أن تتصادق وياه … فهناك من هم أكثر خسةً وغدراً منه بانتظارك !إذا لم تكن قادر أن تتعايش وياه » ثم بدأ بدايةً أخرى جادة جداً : « عليك أن تبقى هنا ثلاثة أيام حتى نرتّب تهريبك من العراق … راح نعوفــك ونرجعلك بعد ثلاثــة أيام … دير بالك ودبّر نفسك » ، ثم همز فرسـه ومثلــه فعــل أصحابــه مخلّفيــن الفتى في معقل الشيطان …….. الكتابة عن صديقهِ الطبيب الشاعر ، الذي قصّ على مسامعه عشرات المرَّات وهو يبكي ، بينما هما يحتسيان قناني البيرة ، قصة فراق حبيبته في ظهيرة يوم خميسٍ شتوية وكيف مشى على كِسَر الزجاج مُنَفِّذَاً فِكرةً بدت لا معقولة وليس ثمة ما يدعمها سوى الجنون : « قرّرت أن أمشي على الزجاج المهشّم مثلما مشى المسيح على الماء ولم يغرق ، قائلاً لنفسي : إذا لم تنجرح قدماي فإنّ حبيبتي سوف تعود إليّ بعد أيامٍ أو أسابيع أو أشهرٍ ! أما إذا انجرحتا فإنها لن تعود إليّ أبداً ».. كان يثق بالله في ذلك الوقت وكان مُعْتَدَّاً بنفسهِ ففكّر مع نفسهِ : « إذا كان الله قد ساعد المسيح لسبب تافه فجعله يمشي على الماء ! فالأولى به أن يساعدني لسببٍ عظيم … » لم يكن يُدرك ـ وهو الذي يُنزِلُ نفسه منزلة نبي ـ أنه بِتَبَنيهِ مثل تلك الأفكار كان قد اخترق منطقة الغسقِ من عمرهِ ولكن مبكِّراً جداً، ومع أنّ المعجزة التي يُطالب الله بها ليتساوى مع السيد المسيح لم تتحقق ومع أن قدميــه قد جُرحتا ، إلاّ أنّ حبيبته عادت إليه بعد بضع سنوات ، لكن لم يكن ذلك قد جرى إلا بعد أن إِلتَأمتْ جراحُ قدميه وإِلْتَهَبتْ جروحُ روحه فلم يعد ممكناً لها أن تُشفى .. إِعْتَبَرَ ذلك تدبيراً غير وديٍّ من الله للسخرية منه ، فانقطعت كل الخيوط وحتى أوهاها التي كانت تربطه بالسماء … كان وحيداً في شقّتهِ جالساً يُدخِّن وقد أتى على سيجارته التاسعة عشرة وهو يعرف أن المادة التي تحترق فيها ليست تبغاً ـ هو متأكــد من ذلك ـ وإنّما ذرّاتُ قلبه . تراءت له رؤيا ذات شقّين : نظر إلى جدار الغرفةِ الأيسر فرأى ثعبان الحب العملاق يُكمل إِلتهام جسده ليختفي كُلهُ من المشهد ونظر إلى الجدار الأيمن فرأى الله يُساعد المسيح ليجترح معجزةً بينما هما يبتسمان ابتسامة تفاهم جميلة، جميلة إلى درجة أنها لم تخلِّف إلا الحموضة في معدته فاعترض : « علا مَ تبتسمان والعالم ينخرهُ الخرابُ من حولكما …؟ » ولم يتمكن من أن يمنع دموعه من الإنسكاب ، ثم ومن بين فُرجات انسكابها تَحَدَّثَ مع الله بكل ما يملك من جديّة وهو يُشيرُ إلى المسيح : « أَتُفَضِّلُ صداقة هذا المُعَوَّق على صداقتي ؟ هذا العقيم ! إبن أمّه ! الذي لا يعرف حتى كيف ينام مع امرأة ؟ » ولأنه لم يكن يعتبرُ الحياة إلا قصيدةً ويرى أنها كقصيدة لا يكتبها إلا أولئك الذين يعيشونها حقاً ، ولكنها كقصيدة فهي مُكتنفةٌ بالموت ! فقد كتب على الجدار بقلم الرصاص :
« حجراً … حجرا
تُشيِّدُ القصيدة مقبرتها .. »
ولكنهُ حين نظر إلى ما كتبَ فلم يَرَهُ مكتوباً بقلم الرَّصاص وإنما بالدَّم..
في تلك اللحظة حسم أمرهُ واتخذ قرارهُ ، قرارهُ الذي لم يكن إبن ساعته أو يومه أو سنته : وضع كرسيّاً تحت المروحةِ وثبّت أنشوطة المشنقة في محور المروحة وتركها تتدلّى تحتها ! لكنّه فكّر قليلاً في أن يدلّل نفسه . رغبَ أن يتمتع بسُكرةٍ عظيمة يختتمُ من خلالِها دورةَ وُجودهِ في الحياة ، فسارع إلى تنظيف أسنانهِ مثلما إِعتاد أن يفعــل منــذ زمنٍ بعيد قبل الشُرب ، ثم جَهَّزَ صحون مزّتهِ المفضلة . وإذْ كان يرى المشنقة في رواحه ومجيئهِ ، كأنّها سيفُ ديموقليــدس فـــوق رأسـه فقد قرّر أن ينساها إلى أن تحلّ ساعتها .. وراح يحتسي العرقَ متمتّعاً بطعمه ، لكن لا كإنسانٍ مكروب سيموت بعد قليل مُذْعِناً لإِرادةِ قدرةٍ غاشمٍ أثيم وإنما كإنسانٍ سعيد يعيش ساعته الأخيرة بمزاجهِ ، يشربُ نُخباً لم يتسنَ له التمتّع باحتساء نُخبٍ شبيهٍ به من قبل .. قبل يومٍ دخل غرفــة إبنه الرضيع وَقَبَّلَــهُ ، كانت زوجته تنظر إليه من الشبّــاك دون أن يعلم أنها تنظر إليه فسمعته يناجي الطفل : « ما أدري إذا كنــت قد أسـأتُ أم أحسنـت إليك حين أنجبتك !! لقد خُدعتُ إذْ كنت في تلك اللحظة أثق بالوجود .. أنت الآن قد لا تعي شيئاً من الشرور المحيطة بك » وَقَبَّلَهُ ثانيةً ، وإِذِ إِستدارَ فقد وجد نفسه وجهاً لوجه مع زوجته التي كانت ما تزالُ تنظر إليـه من خلال الشبَّاك فأحنى رأسهُ لئلا ترى دموعه .. لكنها رأتها ، وإِذْ رآها تراها ولم يعد يمكنه أخفاءها ، فقد استسلم للأمر وقام بمسحها.
أجهز على القنينة فعرف أن تلك هي آخر فعاليةٍ يقوم بأدائها فيما تبقى له من حياته ! لكنه شعر بشوقٍ لزوجته وابنه وإِذْ داهمته نوبة ضعف فقد حاول التغَلُّبَ عليها . حمل صحون المزّةِ والطوس الصغيرة وغسلها جميعاً بشعور من سيستخدمها في الوجبة التالية وَكَأَنَهُ يُدَعِّمُ رسوخ الحياة التي لم يعد يؤمن بجدواها . ورمى القنينة الفارغة في سطل الزبالة . نظر يميناً ونظر يساراً فعاودته الرؤيا الجدارية بِشِقّيَهَا : ثعبان الحبِّ يلتهم جسده واللهُ يساعدُ المسيح ليجترح معجزةً فشعر بالغثيان والحموضة من إِبتسامتهما ، التي لم يتمكّن من أن يستخلص لها أي معنى .. كان قد تبقّى لديه قليل من الدم في قلمه فتناوله وكتب :
« .. ذلكَ أَنَّكَ إِبتكرتَ موتكَ
فليس ثمّة إلاّ ظِلَكَ المرتعش
بمنأىً عن الدمار ،
هي ذي خطاك كُلُّها
تُحيطك .. كما ضربةٍ أو امتدادٍ خصب
وعقربُ الساعةِ فأسٌ
يرقص وينام عليه البرق ،
أدرك منك الرعبُ ضفاف العين ،
كم تبقّى من وقتٍ للسقوط
حَلَّت ساعتهُ فعرف أن عليه أن يرتقي جُلجُلَتهُ :
صعـد على الكرسيّ وراح يتنفّس بعمق بقي واقفاً بضع لحظات لا يبغي إلا أن يستوعب وضعه ومرَّتْ في بالهِ الصورُ سريعةً : إبنهُ الرضيع وكيف كان يحلمُ بإِنجابهِ قبل ولادتهِ ، زوجته الحبيبة إلى قلبــهِ التي ما أحبّ فتاةً قبلها أو امرأةً بعدها مثلما أحبّها ، المسيــح الساذج المبتسم إِبتسامتهُ المتفائلة ، الله غير المكترث ، أصدقاؤه ، الشِّعر الذي كان يظنُّ أنَّهُ سوف يُغيِّرُ بِكتابتهِ ما هو عظيمٌ منه ، قُبحَ الوجود ، مهنةُ الطب التي لا يكره مهنة مثلما يكرهها ، كما ورأى نفسهُ وهو طفل عندما كان يعزف على البيانو ، ثم أظـ….. لمتِ الصور في ذهنهِ ، أدخل رأسه في أنشوطة المشنقة ، أمسك بالعُقدة وسحب الحبل حتى إِلتفت حول رقبته فأوثقتها تماماً.
إِنَتَبَهَ … كان منزعجاً من رأس مسمارٍ صغير وخز باطن رجلهِ فزحزح قدميه كليهما قليلاً ليتجنّب الإحتكاك برأس المسمار وسرعان ما حصل على وضعيةً أكثر راحة ، ثم توجّه إلى الله بكل العفويةِ المنطوية عليها روحهُ مخاطباً إيّاهُ وكأنه يحيطه علماً بأمرٍ أو يحذِّره أو يهدّده : « آني جايلك » … و …… أسقط الكرسيّ على الأرض .
3
يجب أن يكون معلوماً أنّنا ـ روايتي وأنا ـ إثنان ولسنا واحداً وبالتالي فإنّ لنا لسانين وليس لساناً واحداً . معنى هذا أنّنا ـ روايتي وأنا ـ يُمكن أن نُدير لسانينا بإِتجاهين مختلفين ، كي لا أستخدم كلمةَ « متضادين » دون أن يكون أحدنا متحدثاً ضد الآخر ، أو حتى لو كان .
بالتأكيد فإنّ لي أفكاريَ الخاصة وهي أفكارٌ ديناميكيةٌ ووعرة تختلفُ عن أفكار شخوص روايتي على الرغم من أنّها جميعاً ليست منبثقةً إلاّ من مخيلةٍ واحدة .
إنّ الفكرة التي لا تولد إلا ولادةً فقيرة لا تستحق عندي أن تتلقّى أيّ رعايةٍ أو تبقى على قيد الحياة .
أقرأُ أحياناً فكرةً ما في كتابٍ ما وحين أتفحّصُها فلا تبدو لي إلاّ كأنها مستجدَاةٌ استجداءً ! أو كأنها ليست ممنوحةً سوى على سبيل الصدقة ! وَكَأَنَّ من منحها لم يمنحها إلاّ لأن البديلَ ـ عن التصدُّق بها على من هو فقيرٌ إليها بحيث يرضى على نفسه مذلةَ تقبُّلها ـ هو إلقاؤها في سطل الزبالة .. عندئذٍ لا ينتابني إلا الشعور بالحياء ، نيابةً عمّن كتبها إزاء من يقرأُها ……..
لا أفضِّلُ ولا أعشقُ ولا أستبقي ولا أشملُ برعايتي إلاّ الأفكار النازفة ، إلاّ الأفكــار الخِصبــة ، الأفكــار المتوترَّة مثل القوس ، المستعصيةَ على الامتثال مثل متمرِّدٍ عتيد ، الأفكار ذات الالتحام الحميميّ الشديد بالمصير التعيس لإنسان العصر الحديث .
لذا فإننا ، روايتي وأنا ، سننزفُ المفردات نزفاً ونحن نسردُ الوقائع على من يقرأُها .
لكنّنــا ، روايتي وأنا ، سنتحدّث عن أمرين مختلفين ونحن ننزف تلك الأفكار ! نعم عن أمرين مختلفين وإن لم تكن تجمعهما إلاّ صفحات كتابٍ واحد .
سأقصُّ عليكم وقائعاً ، سوف تسعى روايتي ، لتقصَّ عليكم وقائع مختلفة عنها ، وإنْ لن نعمدَ للتحدُّثِ ـ في الجوهر من الموضوع ـ إلاّ عن الأمر نفسه .
سنحدّثكم عن زمنين مختلفين .
وبالضرورة عن مستويين ونوعين متباينين عسيرين من القصّ . فبينما ستحدّثكم الرواية عن الخراتيت الذين صنعتهم مصانعُ الحرب وكيف أكملوا هم عمل الحرب فأصبحوا « خرا……تيتاً » سأحدّثكم أنا بمقدارٍ نَــزِرٍ ضمن ما سأُحدِّثكــم به ، عن الـ « الخرا…..تيت » في فترتنا الزمنية التي تفوحُ بالنتن هذه : الكُتّابُ العراقيين تحديداً .
وحين أقولُ الكتّاب العراقيون فإنني بالتأكيد لست أضع الجميع في خانةٍ أخلاقيــة واحــدة ، حاشــــى للشيطان أن أفعل ! وإنما لا أقصد إلاّ البعض منهم : أعداءُ المواهب الكركدنات المتحجِّرون الأميّون العقيمون ، المتشبِّهةُ جُملتُهُم العربيةُ بما هي مترجمةٍ من الجُمَلِ ظناً منهم أنّهم بذلك يلتحقون بِرَكْبِ الكُتّاب الكونيين وتنقذ سمعَتُهُم مــن الضياع إلى الأبد ، أولئك الذين ما إن ظهر كتابيّ الأول في المكتبات حتـــى عمدوا إلى تفعيلِ خرتيتيتهم العتيدةِ الجاهزة وعلى الفور إِمتشَقَ كُلُّ واحـــدٍ منهـــم قرنه وَحَرْشَفَ جلدهُ وَرَفَسَ الأرض بحافرهِ وَهَجَمَ على ظلِّه متوهماً أنّه سيصيبني بمقتل ، ثم حدث ما لم يكن حدوثه في الحسبان ! إذْ تحوّلـــوا ، سُعـداء بتحوّلهم ، مـــن « خراتيــتٍ » إلى « خرا……تيت » بالسهولةِ نفسها ، التي يتحوّل فيها الخُفّاش من طائرٍ إلى فأرٍ أو من فأرٍ إلى طائــر ، دون أن تنتاب أوراحهم أيّةُ مشاعر من مشاعر العار أو الخجل ، وذلك عائدٌ إلى أنّ لا ارواح لهم .
لقــد حرصـــوا وأيديهم على قرونهم بدل أن تكون على قلوبهم ـ لعدم وجود قلــوبٍ لهــم فــي القفص الصدريّ لكلِ واحدٍ منهم وإنما وُضِعَتْ بـــدل القلــوب قبضــاتٌ مــن الـــروث ـ على أن يوصلوا لي أولاً بأول ، ساخنــاً فائحاً بالنتـن ، كـــل ما تفتّقــت عنه قرائحهم « الخرا…..تيتية » المتقيّحة ، من قذارة نفوسهم وعَفَنِ أرواحهم ، ولكن ! مع حرصهم على أن لا يكون ذلك وجهاً لوجه ! بل من وراء جدار …؟، جُبناً وخشيةً وتخاذلاً وخسّةً من عند أنفسهم ، دون أن يخطر لهم على بالٍ أنّ لي قلمٌ له بطشةٌ وقعتُها لا تؤتمن وإذا وقعت لا تُتَلافى أو تُتَقّى أو تُرَدُّ .
عن هؤلاءِ سيرتفع صوتي النظيف متحدثاً قليلاً ، وعن شؤونٍ أخرى ، عبر ما سيأتي من صفحات الرواية في مستوىً من مستويات القصّ والزمن بينما سيكون المستويان الآخران من القصّ والزمن مختلفين عنهما .
فلتتفضلوا بالبقاء معي إذا أحببتم لأُرِيكُم في بعض المواضع محتوى قبضةِ الروث في القفص الصدريّ لبعض عيّنات من « الخرا ….. تيت » ولأُبيّن لكم ممَ تتكوّن وكم من الحشرات والخنافس والجُعْلانِ ، تلك التي تعيشُ فيها …
————
باب من رواية (خرا…..تيت)
—