عصام القدسي :
ظننته طائرا ملونا يزورني بين حين وآخر، يزقزق بين أضلعي ولا يلبث آن يغادرني. حتى تبين لي بعد فوات الأوان، انه وحش يسكنني تسللت نطفته ذات يوم الى صدري دون أن ادري . ثم راحت تنمو فيه وتكبر، حتى غدت وحشاً بمخالب ينقر جدرانه فيدميها . لقد بات أمره يؤرقني ، حتى قررت أن أتصدى له،مستعينا بالعرافين والسحرة .فتراني أغوص في أغوار المدينة القديمة لأعود بحفنة من نباتات غريبة ، وأوراق صغيرة احرقها سرا، ولكن دون جدوى . ثم اكتشفت إن الوحش قد اخذ يتمادى ، حينما راح يسخر مني ومن نباتاتي وأوراقي. فكثيرا ما استيقظ في الظلمة، فأسمعه يقهقه داخلي . مما ألجأني إلى أصحاب الطب والكيمياء ، أدور في أروقتهم واتبع تعليماتهم. وما الذي تغير .!! لاشيء . فمازال الوحش يسكنني حتى هذه اللحظة ، ويقودني الى الموت…
احد ممن حولي أخذ بيدي ، ولكنني انتزعتها منه ، قلت أنا أواجه مصيري . أم إنني حقاً ، تركت وحدي ،بعدما يئس الجميع ونفضوا أيديهم من أمري ؟ ومما يغيظني في أحايين كثيرة ، أنني اشك بحقيقة الأمر برمته ، وادعي أنه محض وهم ، من نسج مخيلتي …
فوق ارض تقع بين الحلم والحقيقة ، أقف ، أتأبط ملفا في داخله أوراق مكتوبة بلغة مبهمة ، وصور شفافة كأنها صور لبراكين فوق سطح القمر، التقطتها مركبة فضـائية ، أتأمل واقعا غريبا ، ربما لم أشهده من قبل .
دهليز مظلم جدرانه رطبة ، وأرضه مبللة. تلمست الجدار. وحالما تأكدت إن سطحه ليس فكا يفترسني لحظة ملامسته ، اطمأننت بعض الشيء ، وواصلت سيري .وتساءلت ، ترى ماالذي أتى بي الى هنا . والى أين يقودني هذا الممر ، وهذه الظلمة المرعبة .؟. قلت ربما هي احد أحلامي المزعجة ، التي كثيرا ما أراها في نومي وأنا أشكو الضيق والألم . تقدمت خطوة ثم توقفت . فقد حدثتني نفسي إن شيئا ما سيحصل ، يقضي عليّ .خطر ما يخرج من تحت قدميّ ، أو تنشق الجدران عنه ، أو يهبط من السقف الذي لا أراه للعتمة الشديدة التي تغرق المكان .كنت أسعل سعالا متواصلا ، وأتنفس بصعوبة بالغة. وفكرت أن ارجع ، ولكن هاتفا همس في أذني( إلى أين .؟ ) . التفت ورائي فلم أتبين شيئا . فالظلام دامس ، والرجوع مجازفة ، لا اعلم إلى أين تؤدي . رددت في سري دون أن اشعر: الضوء .. الضوء. وتذكرت إن معي علبة كبريت . تلمستها في جيبي . فتحتها بحذر ، فقد خشيت أن تنفرط عيدانها وتسقط على الأرض المبللة. تفاجأت لم يكن في العلبة إلا عود واحد. أشعلته ، أضاء ثوان ، وانطفأ . رميت بالعلبة في جوف الظلمة ، وعدت إلى ذهولي . ثم رحت أتلمس الطريق متكئا ً على الجدار .ومرت بخاطري كلمات قالتها لي أمي ذات مرة:
ـ حاذر أن تسقط في الحلم .
ـ لم افهم .
قالت بلهجة غامضة :
ـ ستفهم يوما ما .
سألتها بإلحاح ، لكنها أغمضت عينيها ولم تجبني .
وعجبت أن يمر ببالي مثل هذا الكلام، في مثل هذا الوقت .كنت أسير مستعينا بمخيلتي ، على رسم الطريق أمامي .وأحسست بالدفء يتسلل إلى جسدي. في الأمسيات البعيدة . وعندما كنت طفلا، أ فز من نومي وارتمي في حضن أمي ، وأنا أكاد اختنق . ألهث فتسألني ، وهي تبسمل وتقرأ بعض الأدعية .. أجيبها من لجة نومي
ـ كائن ما يطاردني .
تلتفت إلى إخوتي : ـ ما الذي فعلتم له .؟
لا تسمع ردا . كل الوجوه واجمة ، متسائلة عما يحصل. تعود أمي تحتضنني بقوة ، فأغفو في حجرها ثم أنام . وفي الصباح ، أراني بين أخوتي في الفراش. وأتعجب كيف عدت من تلك المدينة الغريبة . وكيف افلت من قبضة ذلك الكائن ، الذي أكون قد نسيت وجهه حالما استيقظ .أكانت نبوءة أمي ، ساقها الخوف الذي زرعه أبي في أعماقي. ؟. أم انه قدر ما رمى بي في هذا الدهليز.؟ أم هي الحياة ندور بها حتى النهاية المخيبة للآمال. وأين ترى هي النهاية في هذا المكان الحالك الظلمة ، كالأبدية.؟ وأتقدم بحذر ، ويندلق أمامي فجأة ، ضوء بحجم المنديل ، ويتراءى لي أمل يلوح ، فيسطع داخلي بريق : سلّم يشخص على بعد خطوات مني، سلم متهرئ قلت: سنوات العمر التي هرّأها المرض والجفاف والحزن .ارتقي درجاته دون مزيد من التفكير، وأنا انشد النجاة . ارتقيه بلهفة وعجل .فهل انتبهت لدرجاته المقطوعة . لا بأس أتسلق الفراغ .في نهاية السلم كانت متاهة أخرى جعلت ادوربها، ممر ، بل ممرات تفضي إلى لاشيء..
ثم غرفة مغلقة ..وغرفة أخرى ، بل صف من الغرف المتجاورة . فتحت الأولى فانفتحت أمامي فارغة موحشة .تذكرت عيني أبي وهي تحملق بي ، وُصرّة نقود أمي وهي تخرجها من موضع في صدرها خلف ( الفوطة السوداء ) التي ترتديها ، وتعرضها أمام عيني خالية ، وهي تقسم الأيمان، . فيتحطم ساعتها أمل لي احمله تحت جناحي الصغير. غرف ..غرف رطبة ، معتمة ، موحشة . وسمعت صوتا ، فهل كان لرجل أم امرأة أم مجموعة من البشر.؟
وفتحت غرفة فبهتُّ، وكدت اصرخ . رجال ونساء يجلسون على مقاعد قديمةٍ . يتطلع كل واحد إلى الآخر، وأطفال نائمون على الأرض وجوههم شاحبة . نائمون أو ميتون لا أدري . فالجميع جامد بلا حراك ، كأنهم تماثيل حجرية في قاعة خافتة الأضواء. ولاحظت مقعدا فارغاً يومئ لي أن اجلس . شددت قبضتي على الملف الذي احمله تحت أبطي ، كما لو كنت احمل سر خلاصي ، وجلست…
وسمعت صرخات وعويل ، يأتيان من الممرات المعتمة . صدمت . انتابني شعور بالغثيان ، وكدت أتقيأ . ثم أحسست بالخدر يتسلل من قدمي إلى جسدي شيئا فشيئا. وجفلت ليد غليظة تحط على كتفي . انتبهت فرأيت رجلا يقف فوق رأسي . قال بلطف :
ـ جاء دورك
ـ مـ مـ ـاذا.؟. مـاذا تقـول.؟
ابتسم وقادني باتجاه باب غرفة. دخلت فرأيت رجلا متجهما ، يرتدي صـــدرية بيضاء ، تتدلى من عنقه على صدره ، سماعة طبية ، يجلس خلف منضدة ، أمامها مقعد وثير. ما أن دخلت حتى أشار إلي بيده أن اجلس. لم انتظر إشارته.فقد رميت بجسدي على المقعد وأنا الهث من شدة الإعياء.اخذ مني الملف وجعل يقرأ أوراقه ، ويتأمل الصور الفضائية الشفافة بصمت محيّر .ثم قال بنبرة مؤثرة ، وهو يهز رأسه : ـ تأخرت كثيرا..
قلت بأسى : ماذا تعني..؟
ـ المرض التهم رئتيك.
ـ تقصد الوحش.
لم يجبني ، وانشغل بترتيب أدواته فوق المنضدة . تهالكت في مقعدي ، وتلاحقت نبضات قلبي ، ثم اضطربت .وشعرت بها تبطئ، وتبطئ، شيئا فشيئا.وأحسست بطائر أثيري يخرج من صدري، ويحلق في جو الغرفة وأنا أتابعه بعيني . ثم يفر من نافذة صغيرة في الغرفة.
—