ذكرنا في مقال سابق لنا بان الرسامة الدكتورة هناء مال الله، حالها في ذلك حال كل الفنانين، تحافظ على مرتكزات أولية كانت قد أسست عليها البذور الأولى لرؤيتها، فلازمتها، وكانت بالنسبة لها نسقا ثقافيا شخصيا تحركت ضمن مدياته، وظلت أمينة عليه، رغم أنها كانت تقوم بالتنويع في رؤيتها الفنية، وفي معالجة موضوعاتها لتحافظ على درجة من القطيعة المحسوسة الضرورية لحيوية منجزها، فكانت تعيد قراءة الرسم العراقيّ، وقراءة تاريخه كلّ مرة طبقاً لمتجه اشتغاليّ يهيمن على تجربتها التنظيرية، إلا ان كل ذلك ظل مرتكـِزا على مفهومها عن فنّ الحقيقة المحيطية الذي تشبعت به تجربتها حد الهوس، فكانت تلك النظرة الأركولوجية المقربة للمدينة ومتحفيتها: آثارها، ولقاها، وأرصفتها، وقرميدها، وحيطانها، وسطوحها، التي شكلت علاماتها الثقافية ؛ فكانت تعيد إنتاج كل ذلك، بل وتعيد تأسيس كل تجربتها وفق متغيرات ما بعد الستينات؛ تلك المتغيرات التي ظهرت من خلال اتجاه لا يعير ذلك الاهتمام المبالغ فيه الذي كان يبديه الستينيون لما يسميه سهيل سامي نادر (البلاغة الأدبية في الرسم)، ولبعض المفاهيم الأخرى التي رغم صلتها بمتيريالية الرسم فإنها لم تزل أسيرة مفاهيم خارجية مازال الكثير من الستينيين يعيدون إنتاجها، فلم تعد اللوحة، عند هناء مال الله، ،تثرثر بلغة الأدب، رغم أنها لم تفقد مرجعيتها البصرية بالمعنى الشيئي (المتيريالي) للمرجعيات التي كانت الصلة الوثقى بالمحيط.
لقد كتبت عن معرضها السابق الذي أقامته في لندن بأني “رغم صدمتي بلوحات المعرض الأخير لهناء مال الله إلا أني اعتبرته قابلا للاستيعاب، بمعنى انه قابل للادلجة ولوضعه ضمن سياق تجربتها على مدى السنوات السابقة، فاعتبرنا توجهها الآن بالاتجاه إلى خرائط مدينتها، والتعامل مع الخارطة باعتبارها مخطوطة، أو ربما دفترا للرسم، مواصلةً للانتقال الذي ابتدأ من أشكال المادة المتحفية، إلى المادة المتحفية في بنيتها الداخلية وفي أنظمة البناء الشكلية للأشكال في اللوحة إلى الهروب من شيئية المدينة (متحفيتها) إلى وجودها المتعين في طوبوغرافيا خرائط الأرض، لتتحول مدينتها إلى سطح ورقيّ يضمّ إحداثيات علاماتية، ومقاييس للرسم من تلك التي تموضع عليها المسّاحون في انجازهم خرائط المدن”.
بقي عنصرُ اللون جوهرا للوجود الشيئي للوحة، حيث بدأت تلفّ عوالمَها أجواءٌ من اللون الأسود أو البنيّ الكدر الذي يغطي مساحات شاسعة منها، بينما حاولت في مرحلة أخرى استخدام كولاج (ردي ميد) من خلال إدخال مادة مجسمة إلى جسم اللوحة لتشكل خرقا لـ(ـجسد) اللوحة ليس بخرطوشة، وليس برصاصة، بل وبأجزاء كبيرة من مخلفات وحطام المدن التي تتخذ من المساحة المواجهة لأعمالها مكانا تستقر عليه باعتبارها (جزءا لا يتجزأ) من المدونة الواقعية، انه الدمار الذي لحق بمدينتها، والذي كان ولم يزل جزءا من دورة الخراب التي تتناوب على مدينتها عبر حقب التاريخ، فشكل ذلك هويتها التي هي معرضها الآن.
عندما كان شاكر حسن آل سعيد يؤسس تجربته في الرسم على افتتانه (بقيمة الجدار) “كمرآة تعكس واقع الحياة الإنسانية الحضارية اليومية”، كانت هناء مال الله تؤكد افتتانها باختراق الكتابة (=التدوين) للرسم في محاولة اختراع (أبجدية صورية جديدة)؛ من خلال التلصيق، واللقى التي تظهر في الرسم ، وهو ما يحيل اللوحة إلى تجربة كتابية تدوينية تتحول فيها إلى: نص، او خرائط، او بيانات؛ فكانت تحولاتها لا تخرج عن موضوعة التعامل مع الواقع باعتباره مدونة يستقرئها الرسام، ويعيد إنتاجها مدونة رسم؛ فكان ذلك يكشف قناعاتها، منذ أول معارضها، (بغداد: جغرافية وبشر) وحتى الآن، “بالفن المحيطيّ ورؤيتها لوجود اللون عنصراً متعيناً في اللوحة، وربطها لذلك كله بما أسمته (التنقيب داخل الوجود) و(اكتشاف المحيط وتوثيقه)” ؛ فلم يتوقف بحثها الذي انتقلت فيه من اتخاذها المتحف مرجعية اركولوجية إلى اتخاذها المدينة (متحفا) تستمد منها ايكولوجياها، ثم لتتحول نحو المدينة منظورا لها من الأعالي فتتحول تلك المدينة إلى قصاصة ورق تشيد بها الرسامة هياكل لوحاتها (=أوفاق مدنها)، وليتحول نظام التربيع، الذي كان بمقام (الوحدة الخليقية) الشكلية والهندسية والرياضية التي تأسست عليها الكتابة المسمارية والتي أسست عليها هناء مال الله ، نظامها الرياضي الصارم الذي حاولت تقديمة لعالم النقد باعتباره بديلا للغة النقد الأدبية السائدة ، وليتحول ذلك النظام إلى مقياس رسم تبني به هناء مال الله الخريطة التي التقطتها لمدينتها من مسافة الغربة بعدا.
ان الصرامة التي حاولت ان تنجز هناء مال الله بها لوحاتها بدأت تتخلخل أمام متجه اشتغالي جديد نابع برأينا من تفهم للرسم باعتباره قضية ثقافية، فبدأت تطرح رؤيتها الجديدة عن (تقنية الفوضى) المؤسسة على فوضى سطوح (الواقع)، ورغم أنها كانت تقصي عناصر، وتدني أخرى باستمرار، إلا أنها بقيت ممسكة بعنان نظام تدويني يحكم قبضته على المشهد، حتى ولو تحول ذلك النظام إلى نظام خراب شامل تتآكل فيه اللوحات وتتخرق وتحترق أجزاؤها، انه نظام للفوضى الشاملة الذي حاولت هناء مال الله ان تحوله من مدونة على الورق إلى مدونة على سطح اللوحة، وهي الفكرة الثورية التي تشابه ثورية دارون الذي افترض ان التغيرات الفسلجية التي تحدثها المؤثرات الخارجية على الكائنات يمكن ان تنطبع ضمن الأنظمة الجينية، وهو ما افترضته هناء مال الله بطريقة مشابهة حيث افترضت ان الخراب الذي تعرضت له الحياة العراقية يمكن ان يظهر ضمن النظام الجيني للرسم العراقي باعتباره واقعة شيئية ضمن ما تسميه (تقنية الخراب) في معرضها الذي أقامته في مؤسسة القطان الثقافية في لندن والذي ضم كتب فن وأعمالا فنية عرِضتها في نيسان 2009 الماضي في لندن، وقدمت حوله محاضرة وأجرت ورشة أثناء المعرضِ برؤية فنية جديدة حملت عنوان تقنية (الخراب الشامل).
كانت (تقنيةً الخراب) عند الرسامة الدكتورة هناء مال الله، تعبيرا محددا للفَنِّ العراقيِ يشكل جزءا من رؤية ثقافية، فبعد رحيلها عن العراق بسبب الحروبِ العديدة المدمرة والاحتلال الأمريكي الذي تعرض له، وهي تحاول تطوير الفكرة بالبَحْث الأعمقِ باعتبار تقنيةِ الخرابِ آلية وهوية للفَنِّ العراقيِ الآن، كونها آليات تقنية تشمل: الحِرق، والقطع، والخدش، والمسح، والتقطير، والحك والثقب والشطب، وذلك في رسوم دفاتر الرسم واللوحات الفنية، كهويةُ للتشكيلي العراقي.
لقد تغيرت الثقافة العراقية بشكل كبير، بعد ثلاثة حروب بدأت منذ عام 1979 حتى الآن، ثم أعقبتها عقوبات المقاطعة الدولية (1991-2003) فالاحتلال الأمريكي – البريطاني من 2003، فتحول العراق إلى منظر طبيعي من الخراب، فمن المهم ملاحظة ان العراق الحديث قد أسّس على الخراب الواضح لبلاد ما بين النهرين (مهد الحضارة)، فكانت البقايا التأريخية القديمة مبعثرة بين البنايات العراقية الحديثة، لذا، كان العراقيون متعودين على رؤية يومية لهذا الخراب الذي طال وغزا وحرق العراق اثنتين وعشرين مرة في تأريخه، كما تؤكد هناء مال الله، وان علم آثار ميزوبوتاميا لا تشكل سوى طبقة واحدة من طبقات الذاكرة العراقية المعاصرة، لقد شكلت الطبقات الأخرى الهويةَ الفريدةَ من ذاكرة العراق: أدوات الحرب، الخسائر في الأرواح، الحطام في البنية التحتية، ان هذا الطرح يجادل بأن الرسامة تنقل ما حدث في بلدها من خلال عمل شيئي على سطح اللوحة، ويوجه رسالة فنية إلى الغرب من خلال رؤية فنية محددة من تقنية (الخراب الشامل).
إن تقنية الخراب هي أكثر من تقنية ميكانيكية تمارس داخل، أو بواسطة، العمل الفني، إنها تضمر ثلاثة أسباب كخلفية لرؤيتها الجديدة تلخصها بثلاثة أسباب:
السبب الأول، هو أن المتحف يشكل إشارة عظيمة قبل الحروب، بينما شكل نموذجا للخراب بعدها، فتبعثرت الذاكرة المبدعة والجمالية (لبلاد ما بين النهرين) التي كانت الجذر الأعمق في الحضارة الإنسانية، تبعثرت البقايا الآثارية بشكل عشوائي إلى خارج البلاد مما جعل المتحف الوطني العراقي ضروريا في جمع وتقديم هذا التراث بشكل متماسك.
بعد حرب الخليج الأولى، وأثناء فترة العقوبات، كان الفنانون العراقيون، لجيل الثمانينات الذي تنتمي هناء مال الله إليه، كانوا مهتمين بتراثهم القديم، وذلك بسبّب الوعي الحادّ بالحاجة لاكتشاف هويتهم الفردية التي خلخلتها الحروب الطاحنة، والتي أدت إلى ظروف عيش استثنائية كان أعسرها منع العراقيين من السفر لأيّ سبب؛ فكانت القضية المركزية في حيوية جيل الثمانينات هي المتحف العراقي للآثار. كان ذلك المتحف ينطوي على مصنوعات يدوية مهمة تعود لأكثر من 5,000 سنة من تأريخ ميزوبوتاميا تضمها 28 معرض ومدفن؛ فكان التشكيليون العراقيون يتعاملون مع تلك المصنوعات اليدوية باعتبارها أعمالا فنية حديثة؛ فتشكلت هذه التقنية المادية (الخراب) كجمالية في هم تقني، ومن المهم ملاحظة أن المتحف أسّس في موقعه الحالي عام 1958 أكثر المناطق نشاطا وشعبية بغداد.
لقد أغلق المتحف عام 1991 أثناء حرب الخليج خوفا من الضربات الجويّة الأمريكية وأعيد فتحه في 28، أبريل/نيسان، 2000 ونهب وحطّم في 2003 أثناء الاحتلال الأمريكي البريطاني، فتحول المتحف إلى مركّب أو تجمّع للخراب؛ من المصنوعات اليدوية التاريخية ودمار الحرب والنهب اللاحق، فبدا الخراب أمام ناظر العراقيين في المتحف أو خارجه.
ان السبب الثاني الذي اباح الاعتقاد بأن (تقنية الخراب) هي في حقيقتها أكثر من آلية ميكانيكية في العمل الفني، كان (معقل الخراب والثقافة الغربية)؛ فبسبب حالة التساؤل والشكوك من جدوى الخراب الثقافي الواقع حول المتحف العراقي فقد اعتقدت هناء مال الله أنّ تراثنا يمكن أن يوازن عقدة نقصنا نسبة إلى التفوق الثقافي المحسوس للغرب؛ لذا، بدت الخسارة في تحف وموجودات المتحف العرقي تشير بأصابع الاتهام نحو موقف الثقافة الغربية من حضارة الآخر، فبدت السياسة الغربية الرجعية لإحداث الخراب في جوهر هويتنا الوطنية؛ لذا تحتمَ علينا تفعيل مقاومتنا الثقافية؛ وهكذا تكرر الخراب كتقنية فنية تشكل جزءا مهما من هذه الحالة.
أنّ تكرار الخراب في التقنية الفنية لهناء مال الله هي آلية للتعامل مع الاستمرار بالتخريب في العراق مما يقدم السبب الثالث الذي قاد الرسامة للتعامل مع القضية كموضوع ثقافي في عملها الفني، ففي عام 1991 ، في معرضها الشخصي الأول الذي أقيم في بغداد في المتحف الوطني للفنّ الحديث، والذي كان بعنوان (توثيق زيارات المتحف الوطني)، وفي معرضها الأخير الذي أقيم في لندن في مؤسسة القطان 2009 وكان عنوانه (الخراب الشامل)، فيمكن الاستدلال من اختلاف العنوانين، عن جوهر ما تتمنّى الرسامة الوصول إليه…
“في النهاية سيدركني الإعياء الذي يظل يخترم فيَّ منذ ولادتي إبداعي دونما جدوى، ألأنه نبوءة فناء حي؟” شاكر حسن آل سعيد (البحث في جوهرة التفاني)الشارقة، 2003