لا أعتقد أن هناك خلافا جوهريا بين الصورة و معناها لدى سعدي يوسف. إن هذا الشاعر الذي يكتب حكاية عن خيانة الجنس البشري لعواطفه النبيلة ، و في نفس الوقت يتورط في تأملات شكسبيرية عن الهوس و الجنون و السلطة ، لا يتنكب الدرب الوعر فقط ، و لكنه يحاول جاهدا أن يدفع المعاني الخاصة إلى حيز المضامين العامة ، الهموم ، الإشكاليات ، أو باختصار : القصيدة. فعلا غالبا ما تخرج القصيدة عن إطارها اللغوي لتدخل في دائرة يطلق عليها فرويد ( محقا ) اسم اللاشعور ، و ليسلي فيدلر ( بأناقة بلاغية ) القرين الأسود.لكل كلمة لدى سعدي يوسف قرين – توأم ، و هو في معظم الحالات شرير ، قاتل محترف ، إرهابي. أو لنقل بأمانة علمية : أوديب مستتر . أو بصراحة مؤلمة : أويديبوس ، المرادف اللغوي لمعنى القدم المتورمة . و لعل هذا الطباق في المعاني يدل مباشرة على عذابات الروح ، و معاناة البدن ، ثم الخلاف الجوهري بين الثابت و المتحول. و بتعبير آخر : كان يدل ( فعلا ) على المنفى الإجباري للوجدان ، و عار السقوط بمستوى الصورة و الأفكار ، إنه غسيل قسري للشرف الجريح و المكسور بمياه الخطيئة السوداء . لقد طعن سعدي يوسف الشعر العربي و عموده في الصميم ( بدءا من الرحلة على متن الناقة وحتى الدخول في موضوعه – بيت القصيد ). فهو لم يبدل ترتيب المعاني ، و لكنه غير من طبيعة تجانسها و جاور بين الشامل و المحدود ، و بين الشيوعي الأخير و الإمبريالية ، ثم أخيرا بين البغضاء و العشق. و هو لم يقلب الصورة على رأسها فحسب ، و لكنه حولها إلى غباريات ، فتّتّها ، و وسدها عرش الثرى و النار و الحديد ، بغاية استنباط علاقات ( غير داروينية ) ، مركبة بمنطق معكوس و مشاكس . إنه بطل اللحظات الأخيرة ( كما يضطر لأن يقول ) في قصيدته المتميزة : نبيذ سانت إيمليون. و هنا فقط يمكن للمسدس الذي يقتل أن يعبَر عن غرام دموي أزرق ، و عن إيروتيكا تفتك بالجمال ، و تجبره على التقهقر إلى عناصره الأولى، و التي هي من غير شكل ، و بلا بنية ، و حتى من غير بلاغة. و الغريب في الأمر أن أسلوب المقاومة لدى سعدي يوسف كان أول الأمر موجها للتكنيك ، و ما أسميه بالعادة الماكينة ( كما هو واضح في قصيدته الأحفاد – 1978 ) ( 1 ) ، ثم انتقل إلى الضفة المعاكسة . و هنا كان يبدو و كأنه يصارع مكوناته الثقافية و أدواته ، باختصار : موضوع خطابه ( كما هو الحال في قصيدة ثالوث – 1994 ) ( 2 ) و التي كانت اللغة فيها مباشرة و حافلة بالأسماء. لقد أصبح سعدي يوسف في هذه المرحلة بطلا على السرير ، و نافذة مفتوحة بمصراعيها على الإستاطيقا المجردة لأوفيد ( مؤلف فن الهوى ) ، و النبوءات الحزينة و النفاذة لنبي جبران. و هذا يفسر لماذا كان تجنيسه للقصيدة في السابق جوهريا و يمر عبر الرموز ، مثل قوله : و تركتني بين التويجة و اللقاح ( 3 ) ، أو قوله : يبتدئ الخائن بالمرأة ( 4 ) . ثم يتحول إلى إيروتيكا تصويرية كما في قوله : كل الاستدارات : محيط الخصر / كوب النهد / رسم العين / و الردفين / … إلخ . ( 5 ). و كأنه يحاول إعادة إنتاج نزار قباني شاعر النكبة و النساء بامتياز. إنه ( في الفترة الأخيرة ) لا يشتق المفردات من عالم الضمير أو من الوجدان الأصولي لبلاد الرافدين ، و لكن من الهوامش ، حيث يفقد الشاعر وعيه بالحدود و بالهوية، و يفقد طرف الخيط الذي يربطه بما وراء الحياة و بصورها و معانيها. – من لغة الجسد و التي تعبر عن القهر البشري إلى الحوار مع الأشياء العاطفية و معطيات عالم الظل.
– ثم من النضال لأجل مستقبل مشرق إلى المعاناة مع طاحونة الأيام.
و مع ذلك أعتقد إن هذا الشاعر الذي دخل في دائرة المجهول هو الوريث الشرعي للبياتي ( الحزين و الضرير – سيد العواطف المهزومة و المنفية ، و الرجل الثوري و المتصوف الذي يكرر نفسه ) ، و من ثم للسياب ، زارع المطر في حضارة أساسها الخصب و العفّة ، و الذي تقلب على سرير من الجمر و المؤامرات بسبب الشرود في الانتماء و بسبب الغموض في الأساليب و الأفكار. و الحامل لذات تضمحل و هي في النزع الأخير و تؤسس لنوع من القحط الوجداني الذي يمطرنا ( رجما ) بالخيبات و التراجيديات. ظاهرة سعدي يوسف قد لا تقبل التعميم لأن الأصالة و التفرد مثل الأنثى التي لا تهرم ، و مثل القلق و نحن في الطريق إلى عشبة الحياة الأبدية ….
——————————————————–
الهوامش :
1 – من مجموعة كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة .2 –
من مجموعة إيروتيكا التي أصدرها مع جبر علوان.
3 – ص 5 . قصيدة الأحفاد من مجموعة كيف كتب الأخضر . دار الآداب. بيروت . 1978 .4 –
المجموعة السابقة . ص 20 .
5 – ص 31 . قصيدة امتصاص. مجموعة إيروتيكا. دار المدى . دمشق. ط 2 . 1995 .