أنور غني الموسوي :
يا لحظّها السعيد، تلك السوسنة، كانت غارقة في كتاب قديم يتحدّث عن جزر المرجان ، التي رأتها عيناي ، حيث العالم الأعمى ،يرتدي قبّعة من قشّ ، و يبتهج . كنت حينها أرى على جبهته آلام الانسانية .
لقد رأت في تلك الصفحات طغيان الأرضيين ، لم يتعلّموا من صديقي فضاءات المرأة الرحبة ، هناك في بلده المريّخ ، السماء تتدحرج كصبية يتدفؤون بالحب ّ، يكرعون عبق الزهر الكوني ، عيونهم من نسل خيول سليمان الساحرة ، أه كم هو آسرٌ لمعان رموشها البرّاقة. هناك الطيور أكثر أمنا ، تضاحك الحقيقة بعيدة عن زيف مدينتي وشحوبها الليلي . أجل ، حينما غادرت الظبيات ذلك الساحل الورديّ ،كانت أجنحتها بنفسجيّة ، تصوّر كم كنت مندهشا ؟
لقد حدثني عن الإيمان بالمرأة ، عن البيوت العالية التي تبنيها النساء هناك ، كأعشاش اللقلق حرة و عالية ، تفيض بالفرصة النقية ، و عند المساء ، قال أنّ هناك تتوهّج كأعياد رأس السنة . عندها ما عدت أجيد تهجّي أحرف أسمي ، أجل صدقتّ هنا ألم الانسانية، هنا يقولون ، و أنّنا أمّة مجيدة ، أنّ الوقاحة تعشعش في أدمغة البعيدين ، إذن لماذا صارت أرواح الصينيبن أكثر صفاء و طمأنينية ؟ ، وتلك النوارس التي حطّت على أرض القمر، و أخذت لي صورة جميلة من المريّخ و المجرات البعيدة ، كيف لثمت جباههم و أعرضت عن وجوهنا العارفة؟
أه أيّتها المساءات ، أيّتها الفصول ، أيّتها الحجب الواهمة ، في كفّيك مدن شوهاء ، و أكاذيب السراب البرّاقة ، تنزعين من قلب الفتاة الورديّ مفاتن الخشوع ، تُعلّمي صوتها بحّة الغربان السود ، كم بعيدة أنت ونداءاتك العليلة ، ربّما سأعود يوم الى مدن الزعفران ، بالإرث المقدّس ، بالثريّا التي تحدّثت عنها السماء، فهي لا تغفو الا على أكفّ من الحقيقة.
آه كم هي بعيدة الرسومات و الأناشيد التي تخترق ذاكرتي كلّ يوم ، كم أنا غارق في سجني الدامي المضحك ، ليتك رأيت لونه الرقراق ، إنّه جذاب و كاذب و عديم الضمير ، حيث يقتل صوت الزهر ليس لشيء الا لأنّ أبا لهب لازال يتحكّم بخرافاتي ، كفّه العريضة تحجب عني لون الشمس ، لا تعلّموهن الكتابة ، أبقوهن كلوحات مزخرفة تزيّن البيوت العنكبوتية ، غارقات في الغياب المرير ، الا أيهّا الكاذب القبيح ، أيّها الأعمى ما رأيتك يوما تلبس ثوب ضياء ، ما رأيتك يوما تنحني على زهرة تسقيها ماء ، ملأت زواياك العتمة الدامية ، أيا من سبتك وحشية الظلام و ألسنة الزيف العظيم .
كن شجاعا ، هل ترى ذلك الجدار؟ الذي تختبئ خلفه جميع الضبابيات و الرماديات الغريبة، إضرب نَفَسك الأعمى به ، لعل رئتاك تتعلّم هواء جديدا ، لعلّ حقولك البيضاء تكشف عن قلبها الفضّي ،هناك حيث تحطّ أسرار الخليقة و الكتاب الأمّ .هناك لن تجد لحكاياتك و بطولاتك ذكراً .
أنا من هناك ، أحمل على ظهري قربة من نور، تطير بي خيول من ثلج، و يد حنونة تفيض بالأمل العريض . ليتك تصغي أليّ ، ليتك تخلع عنك ثوب العبوديّة و قناعك البائس ، كن شجاعا ، تعال نحوي ، نحو صوت غريب .
أخبرك عن الأوراق الزرقاء المتوحشّة ، و عن الوجه الآخر للشمس ، كان شاحبا كسنابل القمح في أرضك الغارقة في الشيخوخة ، كم قد حدّثني الأسلاف عن الأحلام و المستقبل السعيد ،الا أنّك أيّها الجنس الظلوم ، لازلت تائها بعيدا ، إقترب ، كن محبّا فهنا في قلبي ورد وضوء.
أيّها المرائي ، لقد علِمت السماء ماءك الآسن ، فصرخت لأجل الفتاة ، وأنت هنا قابع كشجرة صنوبر بريّة ، تدير وجهك بعيدا عن الدفء ، كالحرباء تتلوّن بكلّ لون ، ألم تعلم أنّ الغصن الأجرد اليابس الذي تتشبّث به قد أحرقته نسائم الصباح.
ليتني لم أكن ، ليتني كنت صبّارا مات من الظمأ ، من القهر في صحراء قاحلة لم يزرها القطر منذ الالاف السنين . فهذا العالم المرائي لم يترك لي شيئا ، لقد عشعش في عقله الظلام ، كلّ يوم ترتشف غيماته أروقة العتمة ، فكان مطرها بلا حياة . الزرزور الذي رأيته عند النهر يجيد بناء أسرة خير منهم ، لقد رأيته يكلّم زوجته الحبيبة بكل ودّ ، و يسأل بنته عما يدور في خلدها من أحلام ، ليت هؤلاء الغارقين ذوي الأدمغة العريضة تعلّموا شيئا من ذلك الزرزور الحكيم .
أيّها البائس ذق مرارة نبتتك العقيمة ،ستتحدّث العصافير المبثوثة كالضوء في أشجار السدر النقية عن بؤسك الغريب ، ألم تسمع زقزقاتها ؟ ألم تفهم ما تقول ؟ إنّها تخبرني أنّك عبء و أنّك جنس تعيس ، ستذكرك بكلّ سوء و تشكوك الى الإله القدير عسى أن تنتصف منك فتاة الحقل و الرغبة المكبوتة و حقيبة طفلة ملأى بالاحلام كنت قد هشّمتها بالقهر ذات يوم .
أيّها التعس ، يا حفيد جنيّات الشر ، أنظر الى هذه الكأس المرّ ة، كأس الضياع و الأرضين الموحشة ، منها شرِبت زواياك عنوان مجدها الزائف ، و في بِركتها الطحلبية تعلّمت الغروب . أنا لا أنسى حينما رأيت رّسك يغرق في مياهها الاخطبوطية كصنم رمادي كالح ، كان يذوب في عالم من الإسفلت .ثم ها أنت ذا تخرج إلينا في زمن الموت من القبور السفلية أشعثا مغبّرا ، بإسم السماء تقصّ جدائل تلميذة خرجت الى صفها باسمة.
الا أيّها الصنم الإسفلتي ،يا وريث اليباب ، أبعد قناعك المزيّف عنها ، وجهك الآخر المنمّق ، إن كنت شهرت سبفك الصدئ محاربا مطر السماء و الوصابا الغالية ، بإسم الحريّة ، تدعوا أسماك الفرات لأن تنتفخ بكلّ الخمر و دروس التيه و الخواء البرّاقة ، كأنك نبيّ الانسانية المقدام ،أبعد أنفاسك الضحلة عن قلبها الفردوسي ، دع حجابها المضيء يطير بها الى عوالم النور، انّه براقها الرفيع ، دعها تبحر نحو جزر الحقيقة و العشق الأسمى ، أبعد وجهك المشوّه عن عينيها الجميلتين ، فشجرة اللوز لا يمكن أن تشعر بالدفء بعيدا عن إيدي السماء الحنونة .
دع الملائكة تصافح وجهها النقيّ ، دعها تجوب كظبيات بيضاء في حقول الجنان العذبة ، ليتك رأيت الرياحين و حبّات العنب و أناشيد نبتة فوّاحة تتطاير حولها في حلقات رقيقة لا تعرف الذبول .
يا أيّها النقاء الكبير أعنّي على ذلك الصوت المنّمق ، الغارق في التيه ، ، يا أيّها النقاء الكبير كن شمعة في قلب الفتاة الصغيرة ، لترى وجه النور في هذا العالم المرائي .
—