عثمان وعراب :
استسلمت أخيرا لدفئ الفراش بعدما فرغت من قراءة وردي مما تيسر من أجزاء أو فصول كتب مختلفة أو مقالات… كالعادة. ولشقاوتي لم يتمكن النوم من عيني رغم قرب انجلاء الليل! بل ما تمكن منهما، أو بالأحرى من دماغي الذي أعطى أمره السامي المطاع للعينين بعدم التوقف عن الرمش، هو فكرة! … نعم، فكرة من بين كل تلك الأفكار التي كانت تنقلها العين إلى العقل، فكرة ولدت فكرة أخرى ما زال عقلي يعجنها بعدما مضغ وهضم (أو بتعبير أدق ما زال يمضغ ويهضم) أفكارا أخرى. فما كان لهذه الفكرة إلا أن حرمتني من النوم وباتت تلح علي أن أخرجها إلى الوجود لتشقى على ورق وكأنها “الأنا”/الطفل الذي لا ينفك يبكي إلى أن تتم تلبية رغباته. فكرت، وفكرت، وفكرت… وكل تفكير يقلبني ذات اليمين وذات الشمال… فلم تعد تلك الفكرة الأولى هي ما يؤرقني الآن، ولكنه فكرة توليد تلك الفكرة التي جاءها المخاض تحت جذع البطانية في الحال أو إرجاؤها حتى تبسط الشمس أشعتنا الذهبية. وإذ كنت على وشك تناول الفطور المتأخر (أو الغذاء المبكر) كما دأبت عليه، خصوصا في أيام الصيف، وقف علي شبح تلك الفكرة ملحا مصرا على إخضاعي لرغبته. كان الله في عون نفسي المسكينة التي أصبحت الآن بين مطرقة شبح الجوع وسندان شبح الكتابة، ذلك الشبح الذي لم يكن لي أبدا ولم أتخذه يوما صديقا ولا خليلا إلا ضدا عن هواي.
وقفت لبرهة وقفة الحكم بين هذين الشبحين، فاستمعت لأدلة وحجج كل منهما على حدة، ثم قمت بعد ذلك بالنطق بالحكم؛ عفوا، لم أنطق به، ولكن نفذته على مضض وتولت بطني النطق به فيما بعد. قام شبح الكتابة بالإستئناف لعدم رضاه عن هذا الحكم، فما كان مني إلا أن رضخت واستدعيت لشكواه. أخذت أناملي قلما وجعلت تمرره بينها فوق ورقة بيضاء لا تدري ما تفعل به! لقد جنت بها السبل، وضاق بها الذرع! تذهب إلى أعلى الورقة جهة اليمين فتخط كلمات لا تكاد تملأ السطر حتى تشطب عليها. واستمرت على هذه الحال إلى أن اهتدت إلى جملة حسبتها ضالتها المفقودة: “بئس الطبيعة الحيوانية للبشر!”، كتبت غير راضية تمام الرضى عما كتبت. ثم تلتها فترة تأمل ومراجعة لما سلف من أحداث؛ أطرقت في التفكير قليلا كمن فهم الدرس ثم كتبت بابتسامة يكتنفها الغموض واليأس: “لا تؤجل أبدا عمل اليوم إلى الغد!”، ليس فقط لأن لكل غد عمله، ولكن لأنه ليس كل عمل قابل للتأجيل.
—