سأهبك غزالة / متوالية المماحي
العالم العربي، عالم ولود، لم يخل من المبدعين في أي زمن كان.. وقراءة بسيطة للواقع الثقافي والأدبي العربي يحيلنا إلى عدد كبير من الأسماء التي تركت بصماتها واضحة في المشهد الثقافي وفي مختلف البلدان العربية، من مشرقها إلى مغربها.. حتى امتد تأثيرهم في الأدب الإنساني بصورة عامة..و اللغة هي الحاضنة للمنجز الإبداعي للكاتب، والعربية هي من اللغات التي فيها من البلاغة ما لم تجدها في لغة أخرى.. ولكن هناك من قدم منجزه بلغات أخرى.. ويأتي مالك حداد في مقدمة الأسماء التي اتخذت اللغة الفرنسية محطة للتعبير .. هذا المبدع الكبير أنتقي منه جملة قرأتها ذات يوم وهي تعبير عما يعانيه الأديب العربي من الهجرة والمنفى، ليس بمفهومه المكاني إنما بمفهومه المجازي.. فهو يقول: (اللغة الفرنسية حاجز بيني وبين وطني أشد وأقوى من حاجز البحر الأبيض المتوسط… وأنا عاجز عن أن أعبر بالعربية عما أشعر به بالعربية …إن الفرنسية لمنفاي ..!).. فما بين الحاجز والعجز تقف مسافات من التوق للتعبير عما يشعر به بلغته الأم ليضطر بعد ذلك للجوء إلى اللغة المكتسبة الأخرى والتي وصفها بالمنفى .. مشكلة اللغة ليست بالسهلة خاصة وأن الكاتب ينظر للأشياء بعين بيئته لا بعين دخيلة أخرى وعليه لا يمكن أن ينظر للأشياء إلا بعينه التي شكل من خلالها عالمه وحشّد حواسه..وهو يقولها بصراحة تامة (أنا عاجز عن أن أعبر بالعربية..)والعجز هذا ليس عجزاً مادياً وحسب إنما تـأتيرات الهجرة وانقطاعه المادي عن أرضه وعالمه شكل سبباً للعجز الـذي يصرّح به حداد..لكنه بالمقابل عرّف العالم من خلال اللغة المكتسبة (الفرنسية) بما تختزنه الذاكرة العربية من أحلام وهواجس وآمال قرأت لمالك حداد بعض الكتابات هنا وهناك وهي أغلبها نتاجات مترجمة عن الفرنسية ترجمها
مترجمون عرب، ورغم أن حصار السنوات الماضية على العراق قد شكل حاجزاً كبيراً لإتصالنا بأدب المغرب العربي إلا أننا كنا نتتبع نتاج حداد المترجم ولو بشكل متذبذب.. وفي روايته”سأهبك غزالة”(1959) والتي ترجمها التونسي صالح القرمادي عام 1966 نتعرف على بعض خطوط حداد الفلسفية في النظر للزمكان، فهو يؤنسن الأشياء من خلال خلقه لشخصية الكاتب/المؤلف: (وما الفرق بين الشباك والعينين يا ترى؟ أجل إن الفرق موجود على كل حال فالمرء يفتح شباكه لينظر إلى الخارج ويفتح عينيه لينظر إلى الباطن. وما النظر إلا تسلقك الجدار الفاصل بينك وبين الحرية. ولذلك نجد في الدنيا النظر القصير كما وجدنا فيها السلم القصير.) إنها متوالية الداخل والخارج ضمن الفضاء الذي يخلق حالة توازن بين المكانين (الخارج/ الباطن)وبين الشيئين (الشباك/ العين) ومن ثم استنطاق نتيجة المعادلة في النظر القصير/ السلم القصير.. وهي أيضاً تشير إلى الرغبة في الهروب من المكان الواحد حيث الأفق المفتوح ذاتاً كان !أو فضاءاً كل شيء إلى زوال، هذا ما يريد أن يقوله لنا حداد عبر مؤلفه.. فالممحاة والسلال هي أدوات وأمكنة للنفي، وهي إشارات للفناء: (وضع المؤلف مخطوطه على طاولة عليها ممحاة فحاذى المخطوط الممحاة وكان بجانب الطاولة سلة للمهملات. إن الموجود باق. فالمماحي وسلال المهملات تترقب في خبث إتلاف المؤلف عمله بنفسه.).. هو يرسم صوره بيد ماهرة..(مخطوط /ممحاة /طاولة /سلة مهملات) المخطوط مهدد بالفناء إن لم يكن بالممحاة فبسلة المهملات وكلتاهما أداتان للفناء..لكن الممحاة أقل خطراً على المخطوط ذلك لأنها قد تغير شيئاً ولا تتلفه بشكل تام بينما سلة المهملات لا يمكن إلا أن تكون أداة موت تام! هكذا ينظر حداد لمسألة الخلق والفناء.. و(إن اعتزاز المنتحرين كامن في احترامهم المماحي وسلال المهملات في (سذاجة أكثر مما هو كامن في حاجتهم إلى إثبات أنفسهم بإعدامهم في رواية (سأهبك غزالة) يضعنا الكاتب مالك حداد أمام معضلتنا اليومية في ممارسة ذات الشيء بتكرار ممل، فالأيام هي واحدة، تشبه تلك السلالم التي لن تؤدي..و كل يوم يحيلك لآخر، كل ذلك يشير إليه من خلال شخصية المؤلف في الرواية (نظر المؤلف إلى يومية قديمة عليها تاريخ السنة الماضية. فخطر بباله أن في السنة عددا كبيرا من الأيام. فياله من سلم! ثم هو يتكرر وسيتكرر من جديد. لقد كانت نظرته إلى الأشياء نظرة عمودية. فقد تعلم كل ما تعلمه في صباه على سبورة بالحائط.) يبقى الكاتب الجزائري مالك حداد وفياً لجزائريته وعروبته وهو الذي يتساءل: “خبّروني عن الصحراء التي لها الأغاني نسجت/ حبّروني عن الغزالة التي إغتالها الإنسان؟/ خبّروني عن الزهرة التي من دون بستان..؟/ خبّروني عن وجل الأسود في المنفى؟/”خبّروني قبل كل هذا : كيف حال الجزائر ؟