بسم الله الرحمن الــرحيم
((وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مكِينٌ أَمِينٌ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ))
سورة يوسف الآيتان 54، 55
رحلة جديدة: من القصيدة إلى القصة القصيرة
من القصيدة النثرية إلى الأقصوصة السردية ذات الطابع الذاتي البيوغرافي، إنها الرحلة الإبداعية الجديدة التي بدأ الكاتب سعد الشلاه يخوض غمارها بنوع من الحيطة الممزوجة ببعض من الحذر، وهو حذر فكري مشروع لأنه يضع المبدع أمام سؤال الكتابة الأزلي: أين ينتهي الشعر وأين تبدأ القصة؟ وما الذي يجمع أو يفصل بينهما، أالوزن وإيقاعاته، أم السرد وتقنياته؟
لقد قرأتُ سعداً شاعراً، وقرأتُهُ قاصّا، ووجدت أسلوبه في الشعر أكثر عمقا وتماسكا، وفي القصة أكثر تشويقا وإمتاعا، والسبب في هذا بيّن وواضح؛ فمساحة السرد في النص القصصي هي أكثر شساعة منه في النص الشعري، ولا أعني بالمساحة الفضاء الورقي، وإنما الفضاء الداخلي النفسي، الذي يشعر فيه الكاتب بنوع من اندثار للمفهوم الآلي للزمن، هذا الأخير الذي يصبح زمنا أبديا يذوب فيه الماضي ويلتحم مع الحاضر لاستشراف مستقبل أكثر وضوحا وقربا(1)، وهو أمر لا يتأتّى إلا عبْرَ تحرُّك المُخيلة في الفضاء السردي القصصي بشكل أكثر حرية ورحابة من الفضاء الشعري، الذي غالبا ما يقيد الشاعر بنوع من الالتزام ببعض الضوابط المُتحكّمةِ في النصّ الشعري سواء أكان مقفى أم لا، أو عموديا أو نثريا.
وتعدّ السردية أهمّ خاصية مشتركة تجمع بين النص الشعري والقصصي الشلاهي، وذلك لما أبان عنه الكاتب من تمكن في استخدام شتى أدوات السرد وتقنياته خاصة وأن هذا الأخير، أيْ السرد، ليس سمة النص القصصي فقط ولكنه صفة رئيسة في الخطاب والنظام اللغوي تظهر في أكثر من جنس أدبي، وإن كانت طريقة استثمار تقنياتها في النص الشعري عموما تختلف عن طريقة استثمارها وتوظيفها في النص القصصي، وتتشابه بعض الشيء مع تقنيات الحكي في النص الشعري الدرامي والملحمي على وجه التحديد، وذلك لتعدد الشخصيات والأصوات فيه، وطغيان الحدث التاريخي عليه، ولعل هذا ما يفسر ظاهرة توسع الشبكة الدلالية في النص الشلاهي، لأن الحدث والموضوع الحكائي يصبح المحور الرئيس والنبع الأمّ الذي يستمد منه النص طاقاته الشعورية والفكرية، الأمر الذي يعني نوعا من التنقل من المتن الحكائي ببنيته السردية إلى البعد الدلالي والبنائي للنص. وهو تنقل أفقي منشاريّ الحركة، أيْ أنّه يدخل باتجاه معين نحو الأمام ثم يخرج عبر اتجاه معاكس إلى الخلف، وبقوة ضغط واحدة.
من النصوص القصصية للكاتب اطّلعتُ على (الشيخ عبد الباسط عبد الصمد)، و(قبلة الزعيم)، و(عضو مجلس)، ثم (المجرشة)، وهي كلها نصوص تقود مباشرة إلى مجموعتيه الشعريتين (تانغو ولا غير) (2) و(كفّ أمّي) (3)، وليس هذا فحسب، فالنصوص القصصية تتشابه وتتماهى مع العديد من العناصر الموجودة في قصائد شعرية معينة بذاتها أخص بالذكر منها؛ (عندما تبكي النجوم) (4)، و(أمّي)، و (شهقة الجمر)، و(خيوط الروح)، ثم (رباعيات) (5)، ولعل أكثر العناصر الجديرة بالدرس والتحليل هنا، عنصر السرد ومقوماته الرئيسة المكونة والجامعة بين الصفة الشعرية والنثرية للكتابة الشلاهية.
السرد البيوغرافي: من النص القصصي
إلى النص الشعري
الخطاب، والأثر الكتابي هو ما يبرز ويظهر الوجودَ التاريخي للنوع البشري، والسيرة الذاتية هي نوع من أنواع هذا الخطاب الذي يوثق ويترجم رحلة الإنسان وما يستقيه منها ويستخلصه من حكم وعبَر، سواء أكان سفر الجسد والنفس فيها طويلا أو قصير العُمر (6). وهو نفسه هذا السبب التوثيقي الذي دفع بسعد الشلاه إلى تحرير أولى نصوصه البيوغرافية غير متمسك بقاعدة و(أمّا بنعمة ربّكَ فحدّث) التي كان يسير على نهجها قديما الأدباء والمفكرون الأوائل ممن كتبوا سيرهم الذاتية، وهو في هذا السلوك يذكرني بالصوفي ابن عجيبة المغربي الذي كتب سيرته الذاتية بدافع من الرغبة في الدقة التاريخية، وبدل أن يسمح لتلاميذه بجمع نصوصه فإنه رأى أنه من الأسلم والأصوب واتقاء للوقوع في الحذف أو الإضافة أن ينقل هو بنفسه ما رآه وعاشه بكل حواسه (7)، أمّا فيما يتعلق بتبني الكاتب لطريقة تحرير أحداث حياته بشكل مباشر مع تحاشيه للغة الخيال والتزويق والتنميق البلاغي، وإن تعلق الأمر في بعض الأحيان بمواقف فيها من العاطفة والمشاعر الفياضة ما قد يتطلب إدخال بعض المحسنات الخيالية، كمثلا أثناء حديثه عن العلاقة القوية التي كانت تجمعه بوالده، وعن قصة الحب والعشق الجميل التي عاشها مع زوجته (أمّ ريام)، فإني أراه هنا أقرب إلى الموقف الذي اتخذه عبد الله بن بلقّين وهو بصدد كتابة مذكراته حينما قال: ((وأرى أن مساق الحديث في التأليف بعضه لبعض أحسن خرطا وأفضل نظما من تقطيعه، ولهذا نريد إيراده كالحديث، فالحديث ذو شجون، ونضرب المثل لبعضه البعض، فيتفق إيراده دفعة واحدة، ونصه على أكمل ما يكون)) (8)
أما عن التوقيت الزمني الذي اختاره الكاتب للبدء في تحرير مذكرات حياته، فإنّي أعتقد أنّه أفاد في هذا المجال من تجارب من سبقه ممن دوّن مذكراته في سن مبكرة، فتفادى بذلك الوقوع في خطأ تجميد تجارب حياته دفعة واحدة، وخطأ عدم استغلالها قبل أن تصبح نصوصا قصصية في بناء ونظم قصائد ديوانيه السابقين. فالنضج إذن هو السرّ، لأنّ فيه يصل الإنسان إلى سنّ معيّنة تجعله يرى مكانه في الوجود بوضوح، لأن تجاربه عندئذ تصبح ذات وحدة متكاملة تحوّلُهُ إلى إنسانٍ أكثر استعدادا لمواجهة حقائق الوجود الأخرى (9)
وسعد الشلاه كأيّ كاتب مذكرات ذاتية، لا يخلق شخصيات أسطورية من خياله كما يفعل مثلا كاتب النص المسرحي، ولكنه يتحدث عن شخصيات تتصل بالمكان والزمان الذي وجد ويوجد فيه، ومن ثمّ فإنه يبدو كالمعماري في طريقة بنائه لنصه السردي، وكالمؤرخ في طريقة الحكي، وكالناقد في طريقة تحديده لمواطن الخلل والمرض في المجتمع العراقي، وهي كلها صفات تقتضي الوقوف عند كل واحدة منها على حدا.
يتخذ سعد ماضي حياته مادّة لكتابته، ويضمّنها إلى جانب ذلك موقفه من الواقع الذي يحيط به ومن المعطيات التي تمثل مظهرا من مظاهر اقتران أناهُ الساردة بتصرفات متوالية نابعة من إدراك فعل الكتابة بشكل تصبح الحركة معه في النص خاضعة لشعور هذه الأنا السردية التي وإن كانت تنتقل بين أجواء متغايرة ومختلفة إلا أن هذه الأجواء تبقى دائما متكاملة ومتداخلة فيما بينها ممّا يُمكّنُ الكاتب من الكشف عن وضعه النفسي المتفاوت تارة بين الحزن والألم وتارات بين مقاومة لحظة الوجع والتأمل وتارات ثالثة بين استخلاص الحكم والعبر.
والكاتب في حركته التنقلية هذه ذهابا وإيابا بين الماضي والحاضر، يقوم بدمج الأحداث في نسق نصّي مترابط لا يشوبه أي تنافر أو اضطراب ممّا يحقق هدف الوصول إلى نتائج يرتضيها العقل والمنطق ولا أدل على ذلك من نصه (المجرشة) الذي يقول فيه:
“عملي الجديد في المجرشة يضطرني إلى النهوض المبكر كل يوم على الساعة السادسة صباحا، ولم أزل أذكر جيدا ذاك اليوم الذي استقيظتُ فيه وزوجتي أم ريام على صوت المنبه المزعج، كان يوما من أيام الحصار الأسود الذي فرضتهُ أميركا وحلفاؤها على العراقيين، وتحديدا يوم 12 / 02/ 1997، وكان علاء الياسين صاحب المجرشة ينتظرني أمام البيت كعادته كل يوم بسيارته (السلبرتي) البيضاء، ولم يكن أمامي سوى ساعة واحدة، عليّ أن أقوم فيها بكل شيء، حتى أكون جاهزا على الساعة السابعة للذهاب مع علاء الياسين إلى العمل الذي كنت لا أعود منه إلا على الساعة الحادية عشرة ليلا.
نزلتْ أمّ ريام قبلي لتعد الفطور، ونزلتُ بعدها كما كل يوم وعرّجت على غرفة أبي، قلتُ في نفسي: سأقتربُ منهُ كما كلّ مرّة فإنْ شعر بوجودي أصبّحُ عليه بالخير، وإن لم ينتبه لي أنسحب بهدوء تام، وإن شاء الله سيكون صاحيا كعادته، إلا أنني لم أجدهُ مستقيظا كما ظننت، وبينما كنت على وشك الانسحاب بهدوء من غرفته، إذا بي أسمع صوته يردد ( ها سـ..عـ..د)، فعدتُ وقلتُ: صباح الخير سيدنا. ردَّ السلام بكلمات لم أفهمْها، ورفع كفّهُ اليسرى القريبة منّي فقبلتها ثلاث مرات، فتبسّم أبي وعاد للنوم. أبي من مواليد 1912، يحبُّ العملَ والعمال، ولم يترك العملَ في حياتِهِ أبدا، إلا قبل أقل من شهر من هذا اليوم، بعد أن خارت قواه العضلية.
ذهبتُ إلى المطبخ وقصصتُ لأم ريام ما جرى، فتنهدتْ واحمرّتْ عينُها وترقرق دمعُها وقالت: أمس، استيقظ أبوك على الساعة الثامنة مساءً وناداني، وعندما حضرت سألني: ما هو فطورنا اليوم؟ أستغفر الله العلي العظيم، قلتُ واستغفرت معي، وهي تضعُ وجبة الغداء في (السفر طاس)، الوجبة التي أتناولها الساعة الواحدة ظهراً في المجرشة، وتشترك معي جَروة صغيرة أسميتها (مجرشة). في هذه الأثناء صرخ (هورن السلبرتي)، رشفتُ آخر ما بقي من الشاي وخرجتُ مسرعاً، وعند الباب سمعتُ صوتَ زوجتي التفتُّ فرأيتُ (السفر طاس) على الأرض، التقطتُه ومضيت. صرخَ (الهورن) مرةً أخرى. صباح الخير، قلتُ وركبتُ، هلو صباح النور، ردَّ علاء الياسين وأضاف: ما لكَ اليوم تبدو منزعجاً؟ قصصتُ له الحكاية مع صوت فيروز الملائكي الصادر من راديو سيارته، فصرخ وهو يسوق (أويلي) وضرب المقود بكفّيهِ وبكى. أظنّهُ تذكّرَ وقت وفاة أبيه الحاج عبد الخالق الياسين.
عدتُ ليلاً فأخبرتني أم ريام أنّ أخواتي وإخوتي حضروا نهاراً ولم يعرفْ أحداً منهم. دخلتُ غرفتهُ ومسكتُ كفَّهُ واقتربتُ من رأسهِ لأقبلَ جبهتَهُ، فتنفسَّ عميقاً وقال: الله عم ـ ـ ـ ـ ـ ـبر! ولم يأخذ نفساً آخر ومات..
قالت أم ريام بعد انتهاء مجلس الفاتحة: عليك أن تترك العمل في المجرشة. ولماذا؟ لأنك ومنذ أن اشتغلتَ فيها ماتت أمُّكَ قبل سنة وشهر، وماتت أختُك قبل ثلاثة أشهر، وقبل ثلاثة أيام مات أبوك، وأخشى أن تجرشَك أو تجرشَني. 18/07/2015”
في هذا النصّ تتشكل هوية الأنا السردية ويتجلى وجودها الذي يرسم كائنا أبجديا قادرا على تحويل الواقع إلى قصة حياة تصل بين لحظتين، هما زمن الكتابة (18/07/2015)، وماضي الكاتب أي لحظة وقوع الحدث المسترجع عبر الذاكرة والتي كانت في يوم (12/02/1997)، مما يجعل القارئ أمام سفر تاريخي يؤرخ لبداية تحول الذات الساردة عبر فعل الكتابة، وهو تحول لا ينفصم ولا ينفصل عن المنطلقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي هي جزء لا يتجزأ من تركيبة وعي الكاتب وتفكيره. وعلى هذا الأساس يصبح يوم الانطلاق هو الأربعاء 12 شباط 1997، ويوم الوصول هو السبت 18 تمّوز 2015، وبين يوم الانطلاق والوصول ثمة 18 سنة من عمر الكاتب، مرّت وهو يُخَزِّنُ ويتأمل أحداث حياته الشخصية. أي منذ أن توفي والده رحمه الله وجعل الجنة مثواه، إلى يوم كتابة هذا النص القصصي. وكأنه ينتظر من قارئه الجواب على السؤال التالي: ما الذي تغيّر أو حدثَ منذ ذلك اليوم إلى الآن في واقع العراق؟
يوم الانطلاق هو يوم من أيام “الحصار الأسود الذي فرضته أمريكا ودول التحالف على العراقيين”، هكذا يُعرّفُه سعد الشلاه، وهكذا يحدد للقارئ منذ البداية طبيعة سرده والهدف منه: فالكاتب يريد أن يوثق تاريخيا وسياسيا لحظة معينة من حياته الشخصية. إذن فالسنة فيها رجوع بالذاكرة إلى ضراوة سنين الحصار الذي أعلنت عنه أمريكا منذ سنة 1990، أي سبع سنوات قبل وفاة والد الكاتب، وهي السنوات نفسها التي عانى فيها العراقيون الأمرّين من عقوبات الحصار الوخيمة والتي حرموا فيها من الغذاء والدواء، ومن أبسط وسائل الحياة، مما حدا بالكثير من أبناء العراق إلى الهجرة إلى دول الجوار وإلى دول أخرى في أوروبا وأمريكا ومناطق مختلفة من العالم الغربي. فهل يردّ سعد سوء الحال والأحوال وضنك العيش الذي كانت تعيشه أسرته إلى هذه السنوات الشديدة من الحصار والعزلة عن العالم؟ نعم، بكل تأكيد، فهو يقول إنّ والده لم يتخلف يوما ما عن عمله إلا بعد أن مرض وخارت قوته العضلية. وليس هذا فحسب فسعد لا يكتفي بمجرد إشارة تاريخية يعرفها الغادي والبادي من القراء، ولكنه أراد أن يجعل من هذا اليوم مجلدا تاريخيا دقق فيه كل شيء، وإن بأسطر قليلة عبر مجموعة من التقنيات السردية لعل أهمها الكيفية التي قسم بها الأحداث والسنوات التاريخية داخل اليوم الواحد، فبدا وكأنه أنثروبولوجي يتحدث عن أزمنة وأشياء كثيرة أبرزها:
ـ سنة ولادة الأب:
(أبي من مواليد 1912)، مما يعني أن والده توفي عن عمر يُناهز 85 سنة؛
ـ تاريخ عمله الجديد بمجرشة علاء الياسين:
وهو تاريخ لم يحدده الكاتب هنا في هذا النصّ بالشهر واليوم ولكن فقط بالسنة، وصفة حداثة هذا العمل وجدّته تظهر جليا على لسان زوجة الكاتب حينما قالت له: ((لأنك ومنذ أن اشتغلتَ فيها ماتت أمُّكَ قبل سنة وشهر، وماتت أختُك قبل ثلاثة أشهر، وقبل ثلاثة أيام مات أبوك))، مما يعني أن سعد الشلاه كان قد بدأ عمله في المجرشة منذ سنة وأربعة أشهر وثلاثة أيام مرت على وفاة والده، وهو أمر يدفع إلى طرح التساؤل التالي: قبل سنة 1996، أين كان يشتغل سعد، ولماذا يضطر في كل مرة إلى تغيير مقر عمله؟ الجواب يوجد في نصه الآخر (عضو مجلس)، والذي يقول فيه سعد أنه كان يعمل بمعمل نجارة في الليل فقط، لأنه كان هاربا من الجيش، وكان يخشى أن يتعرف عليه أحد من الحزبيين المكلفين بمتابعة (الإفرارية) ويلقون القبض عليه ويسوقوه إلى المحكمة العسكرية. ما الذي يعنيه هذا؟ الجواب بسيط وواضح للغاية: ظروف الحرب والحصار دمرت كل شيء، ولم تجعل الناس يهنئوون بأيّ شيء، ولا أحد من الآباء كان يجدُ عملا مستقرا كي يعيل به أبناءه، ولا أحد كان ينعم بحياة بسيطة خالية من المتاعب كبقية خلق الله في هذه الأرض، خاصة وأن الكاتب حدّد في نص (عضو مجلس)، كيف أنه لم يكن يعاني فقط من غصة البعد عن بيته وأولاده، وحرقة عمله متخفيا بالليل في ظروف قاهرة بمعمل النجارة إياه، ولكنه عانى أيضا من ظلم ذوي السلطة المتجسدة في الرجل العسكري الذي بدل أن يعطيه أجر الأبواب الأربعة عشر التي صنعها لبيته أو قلعته العسكرية التي كان يقيم فيها، فإنه طرده ليلا مهددا إياه بمسدسه الضخم ومستعرضا عليه غطرسته العسكرية المريضة دون أن يراعي التعب والإرهاق الذي كان يعانيه سعد جراء ساعات العمل الطويلة التي استغرقتها عملية صنع الأبواب وإيصالها ثم تركيبها الواحدة تلو الأخرى في ساعة متأخرة من الليل: ((بدأتُ العمل، وكنتُ كلّما أنهيتُ باباً طلبتُ منهُ أن يراها، بناءً على توصيةٍ منه. أتممتُ العمل بحدود الساعة الحادية عشرة ليلاً، قلتُ له: أتأمر بشيءٍ آخر؟ قال: لا، وفتح الباب الحديدي الرئيسي وأضاف: الله معك.
لكنّ أستاذي أوصاني أن أقبض ثمن الأبواب وأجرة عملي، صفق البابَ الحديدي بوجهي. طرقتُ الباب مرتين، فتحه شاهراً مسدساً ماذا تريد؟ عدّتي يا سيدي لقد نسيتُ عدّتي، وضع فوهة مسدّسِهِ على خَشَمي وقال: لماذا نسيتها أيها الغبي؟ إنهُ التعبُ يا سيدي. قال: أدخل وبسرعة ولا تريني وجهك ثانية.)) (10)
ـ عدد ساعات العمل
يقرن الكاتب يومه بعدد ساعات عمله، فاليوم عنده هو 17 ساعة، تبدأ من الساعة السادسة صباحا وتنتهي عند الساعة الحادية عشرة ليلا: ((ولم يكن أمامي سوى ساعة واحدة، عليّ أن أقوم فيها بكل شيء، حتى أكون جاهزا على الساعة السابعة للذهاب مع علاء الياسين إلى العمل الذي كنت لا أعود منه إلا على الساعة الحادية عشرة ليلا))(11)
ـ نوع الحرف التقليدية التي كانت تمارس آنذاك:
وهي في النص تتعلق بحرفة النجارة، ولا يظهر جليا إذا كان الوالد قبل المرض يزاول حرفة الابن نفسها أم لا، لكن ثمة نص آخر سبق ونشره سعد تحت عنوان (عبد الباسط عبد الصمد) يتحدث فيها عن عمل أبيه الذي يبدو أنه كان يعمل بمحل تجاري بباب المشهد في مدينة الحلة، وعلى الأرجح أن هذا المحل له علاقة وثيقة بعمل الابن، وإن لم يجمع لنا بَعْدُ سعد المادة الحكائية التي تؤيد هذا الأمر أو تنفيه.
ـ نوع السيارات التي كان يستخدمها العديد من العراقيين في تلك الحقبة:
ويقصد بها هنا سيارة (Chevrolet Celebrity) أو كما سماها الكاتب ببساطة اللغة العامية (السلبرتي)، وهو بهذا يؤرخ لحقبة كانت الأسواق العراقية تغزوها السيارات ذات الصنع الأمريكي، وفي هذا إشارة إلى التبعية الاقتصادية والصناعية للعراق الذي على الرغم من كنوز النفط التي كان من المفروض أن تجعله في مصاف الدول المتقدمة في كافة المجالات إلا أنه شأنه في هذا شأن العديد من الدول العربية لا يستطيع أن يحقق الاكتفاء الذاتي سواء في مجال صنع السيارات ولا غيرها، وهو المفهوم ذاته الذي نجده حاضرا حتى في نص (عضو مجلس) الذي أشار فيه سعد إلى سيارة صاحب معمل النجارة الذي كان يعمل فيه آنفا، وأقصد بها (الموسكوفج) (Moskvič). فإذا كانت الأولى أمريكية الصنع، فإن الثانية روسيته، وفي هذا أيضا تأريخ للعلاقات السياسية والدبلوماسية والمصالح المشتركة التي كانت ولم تزل لليوم تجمع بين العراق وقطبي العالم الرأسمالي والشيوعي؛ أمريكا وروسيا. وفي إطار الحديث دائما عن السيارات وما يشابهها لا يفوت الكاتب سعد الشلاه أن يتحدث أيضا عن وسائل نقل أخرى كالباص الأحمر الطويل الحاضر في نص (قبلة الزعيم)، وقد كان أهل العراق يسمونه بالأمانة وذلك لتبعيته لأمانة العاصمة بغداد، التي تحرك الباص في شوارعها أول مرة من باب المعظم شمالا والباب الشرقي جنوبا عبر شارع الرشيد الذي يعد الشارع الرئيس والأهم في العاصمة: ((في سفرة العلاج هذه إلى بغداد، أذكرُ أبي حين طلب من سائق الباص الأحمر الطويل أن يسمح له بالنزول في مكان لكي يقرأ يافطات الأطباء، طبعا لم يوافق السائق، وسرعان ما انتفض أبي وبدأ بالصراخ على السائق والجابي معاً. كانت عيادة الطبيب في ساحة حافظ القاضي في شارع الرشيد، ولأنه لا يعرف خارطة الشارع جيداً، لذا نزل قبل محطتين أو ثلاث من الساحة…)) (12)
ـ ثم بعض الأواني اللصيقة بالثراث العراقي الأصيل:
والمقصود بها هنا على وجه التخصيص السفر طاس ويقصد بها ماعون السفر وهو عبارة عن عدة أواني يوضع فيها الطعام ويرص بعضها فوق بعض، وغالبا ما تكون مصنوعة إما من الألمنيوم أو النحاس، ويحمل السفرطاس عادة أثناء السفر أو للذهاب إلى العمل في أماكن بعيدة عن البيت، وهو اليوم قد اختفى من الأسواق العراقية الحديثة وأصبح مجرد تراث من الماضي الجميل تفتخر به الأسر وتتذكره بحسرة على الزمن الطيب الجميل.
إلا أن سعد الشلاه وهو بصدد رصّ أحجار بنائه السردي قطعة قطعة لم ينس الاعتناء بالجانب الإنساني من الطيبة العراقية الأصيلة المتمثلة في بعض من شخصيات نصوصه، فهاهو مثلا صاحب المجرشة الذي يبكي بمجرد أن يسمع بخبر تدهور الحالة الصحية لوالد سعد، وعليه يصبح البكاء هنا حالة وجدانية نابعة من مشاركة وتقاسم الهمّ والوجع الإنساني قبل كل شيء بغض النظر عن علاقة رب العمل بأجيره: ((هلو صباح النور، ردَّ علاء الياسين وأضاف: ما لكَ اليوم تبدو منزعجاً؟ قصصتُ له الحكاية مع صوت فيروز الملائكي الصادر من راديو سيارته، فصرخ وهو يسوق (أويلي) وضرب المقود بكفّيهِ وبكى. أظنّهُ تذكّرَ وقت وفاة أبيه الحاج عبد الخالق الياسين)) (13)، وليس هذا فحسب فزوجته أمّ ريام مثال جميل للمرأة العراقية الطيبة العطوف الحنون التي آلت على نفسها أن ترعى بكل محبة وحنان حماها، وتسهر على كافة شؤونه في الشدة والرخاء، خاصة وأنه فقد حديثا زوجته، دون أن تنسى أيضا أن تحيط زوجها قبل هذا وذاك بالمحبة وتوفير سبل الراحة عبر السهر على كل شؤونه الصغيرة والكبيرة، بعد مرور ما يقارب العشرين سنة على زواجهما: ((قالت: أمس، وتنهدتْ واحمرّتْ عينُها وترقرق دمعُها، استيقظ أبوك الساعة الثامنة مساءً وناداني، وعندما حضرت سألني: ما هو فطورنا اليوم؟ أستغفر الله العلي العظيم، قلتُ واستغفرت معي، وهي تضعُ وجبة الغداء في (السفر طاس)) (14). وأمّ ريام حاضرة في أكثر من نصّ من نصوص سعد الشلاه سواء في مجموعته الشعرية الأولى، أو الثانية، فعلى سبيل المثال لا الحصر في قصيدته (عندما تبكي النجوم) يقول عنها:
” حبيبتي .. حبيبتي …. ميسون النظرة الأولى
ألحانُ صمتِها أعذبُ من أغاني العندليب
القصيدة التي تحبُّ لا أكفّ عن ترديدها
فيشتعلُ النبضُ في الطبول الكبيرة
وترتفعُ الأكفّ لتستلمَ إيعازَ الهبوطِ على الصدور” (15)
وفي ديوان (كفّ أمّي) يقول أيضا:
“زوجتي
أعرفُ آلامها واحداً واحدا
أنا من سطّرها آثاماً عبر فجوات السنين
أتنفسها، تفور في رئتيّ فأستغفرها
عندها يضطربُ الندمُ المعتّقُ وأنفجرُ حبّا” (16)
الزمان الخفي الظاهر في السرد الشلاهي
الزمانية هنا هي المصوغة التي بموجبها يتحرك الكاتب سعد الشلاه نحو منظومة الانوجاد وما يحدث بداخلها من وقائع، وهي شديدة الصلة بمفهوم الزمن الخفي الذي ينصهر فيه الآني بالماضي والحاضر، وتجتمع فيه صفة الإمكانية بصفة الزمانية داخل كلّ بنيوي ثلاثي الانشطار والتشعّب، وعليه تصبح حركة سعد وهو ينتقل بين هذه الأزمنة الثلاثة عبارة عن عملية توحيد وتشتيت معا لمَا في الأمر من ارتباط بما يسمى بلغز النفس التي تدفع بالإنسان إلى الحديث دائما عن زمن طويل وآخر قصير، أيْ عنْ زمنيْنِ حققهما الكاتب عبر تقنية تسريع إيقاع السرد حينا وإبطائه أو تعطيله حينا آخر، فأما التسريع فقد تمّ من خلال الاستعانة بتلخيص البعض من الأحداث بهدف جمع شتات الوقائع واختصار المسافات الزمنية وتقديم الأهمّ منها كما حدث أثناء اختزال الذات السردية لواقعة محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في دويّ هائل اعتقد الكاتب آنذاك بفكره الطفولي أنه خرج من بين يديه الصغيرتين لحظة التصفيق، إلا أن هذا الاختزال بحد ذاته أصبح حابلا بمعلومات تاريخية أخرى لا ترصدها بكل دقة واهتمام سوى عين المؤرخ، إذ انطلاقا من يوم واقعة محاولة الاغتيال أصبح من الممكن معرفة كم كان عمر الكاتب بالضبط، وساعة تواجده بشارع الرشيدي، واسم المستشفى التي كان بها. فأما عمرهُ فكان ستّ سنوات، وأما المستشفى فهي دار السلام المتواجدة بشارع 52، وأما تاريخ سفره رفقه والده إلى بغداد فهو يوم الأربعاء تشرين الأول 1959:
((وأذكرُ أنّ صراخا ملأ الشارعَ، فأنزلني على الأرض لكي يكتشفَ سرَّ الصراخ ويلتقطَ أنفاسَهُ، لكنّهُ انحنى وصرخ بوجهي قائلا:
صفّقْ سعد صفقْ، فصفقتُ بكفّيَّ الصغيرتينِ والمريضتين، فانطلق دويٌّ هائلٌ من بينِ راحتيَّ، كففتُ عن التصفيق ووضعتُ كفّيَّ على أذُنيَّ إلا أن الدويَّ ما زال يصفّق، وبرشاقةٍ عاليةٍ انتشلني أبي ودخل إلى أحد المحلات، وهو يردّدُ (يا ستّار) مراتٍ عديدة (…) جاء الطبيبُ ووضع طرفَ سمّاعتِه البارد على صدري فاقشعرَّ جلدي ثم كتبَ حروفاً عديدةً وقال لأبي: أسرعْ إلى المستشفى. وبدأ عذابي هناك مع الحقن، اثنتانِ في اليوم. كانت الممرضةُ مندهشةً من سكوتي عندما تزرقني الحقنة. في إحدى الليالي زارني رجلانِ يلبسانِ ملابسَ لا تُشبهُ ملابسَنا، انحنى أحدُهما واقترب من خدّي وقبّلني ووضعَ شيئاً تحت وسادتي ومضيا، وفي الصباح جاءت الممرضةُ كعادتها، حقنتني فصرختُ صرخةً عظيمةً، فحمدتِ الله وقبّلتني أيضا، ثم جاء أبي وقبّلني وهو يحمد الله ويشكره. عدنا إلى الحلة، وبدأ أبي يقصُّ على الأهلِ والزائرين كيف شاهد العصابة التي حاولت قتل الزعيم عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد، بتفاصيل طويلة، وكان بعض الزائرين يأتون لسماع القصة وليس لزيارتي والاطمئنان على صحتي.))
هذا فيما يتعلق بتقنية تسريع إيقاع السرد، أمّا فيما يتعلق بتقنية إبطائه فإنّها تمّت في موضعين رئيسين هما المشهد (La scéne) والوقفة (La pause)، واللذين بهما استوقف سعد الشلاه الزمان والمكان، بغرض التأمل تارة، وبهدف التفصيل والوصف تارة أخرى كما حدث في نصّ (المجرشة) حينما سرد كل التفاصيل الخاصة بالبيت ولحظتي الإفطار والذهاب إلى العمل والعودة منه، وهذا ما يسمى بوقف المكان الذي يتمّ فيه استنطاق الشخصيات وتحريكها وفقا لحركة سردية معينة داخل النص. أما عن وقف الزمان فتمّ حينما توقف الكاتب عند لحظة تفاعل علاء الياسين وبكائه المفاجئ وهو بصدد قيادة سيارته.
وغير تقنية المشهد والوقفة لجأ الكاتب أيضا إلى تقنية الحذف بغرض القفز على أحداث تكون فيها اللحظات مشحونة بالألم أو الوجع (17)، فيشعر الكاتب بنوع من الرغبة في عدم الوقوف كثيرا عند التفاصيل حتى لا يتحول فعل الكتابة إلى نوع من نكأ الجراح وإيقاظ الأحزان الدفينة: ((قالت أم ريام بعد انتهاء مجلس الفاتحة: عليك أن تترك العمل في المجرشة))، ولا نعرف كم يوما دام مجلس الفاتحة، ولا ماذا حدث قبله أو خلاله ولا بعده (18).
خرافة التأويل: من البناء إلى التقويض والنسف
خرافة التأويل
لم يكن المعنى يوما ما مجرد مفهوم جاهز أو معطى لا يحتاج لمجهود فكري ولغوي ومعرفي يحفر في كل البنيات والمستويات، ولكنه قبل هذا وذاك مجموعة من الدوال المُؤلّفَة من قياسين، هما الدالّ من جهة والكفاءات التي يتحلّى بها المحاور من جهة ثانية، وهذا ما يضع القارئ والناقد على السواء في موقع فكّ الترميز، وفهم كيفية مقاربة الرمز وقراءته، والحال هذه فإنه يبدو واضحا أنني في رحلة سفري هذه بين فيافي المنهج السردي للكتابة الشلاهية، اتبعتُ طريقتيْ فرز الذهب من الحصى، والإسفنجة، فأما عن الطريقة الأولى فقد تطلبتْ مجموعة من المهارات التي تعتمدُ على طرح نوع خاص من الأسئلة بهدف تفجير المعنى وتتبع حركته داخل البنية السردية لنصوص سعد الشلاه، وهي طريقة تشبه لحد ما نهج الإسفنجة الذي يشترط بشكل أو بآخر نوعا خاصا من المعرفة يساعد الباحث على تقويم الحجج ثم عرضها والتعريف بها مما قد يدفعه إلى الشعور بنوع من الرضا، إلا أنه رضا يليه مباشرة شعور بتجربة أجوبة جديدة، قد تكون أفضل وأدق ممّا تمّ تقديمه إلى اللحظة، وهو ما أسَمّيه بالوقوف في مقام التاتانوس، أو الموت، وإنّي لأفهم سبب هذا الأمر جيدا، لأنني حتى لحظة غير بعيدة كنتُ أغوص وأعوم وسط فلك من الكلمات والحروف التي لا يمكنها أن تصل ذروة الكمال ما لم يتمّ الفلكُ دورته كاملة، وهي الدورة التي لا تنغلق إلا عبر مبدأ العودة والرجوع، والعودةُ تفكيكٌ وتحليلٌ بعد اختمار، ونسفٌ وتقويضٌ بعد بناء، لذا، فإني أرى أنه لا بد الآن من فأس أخرى أهدم بها كل ما بنيتهُ وأنسفه طابوقة طابوقة، كي أخرج بالتأويل من باب الخرافة والوهم إلى باب قد تكون هي البيان والحقيقة، وهذا أمر يستدعي الكثير من الشجاعة ورباطة الجأش لأنه غالبا ما قد يُسرِفُ عن كشفٍ لم تعتدْ عليهِ بعدُ ذائقة القارئ، ولكنه كشف لا بد منه، فإمّا النجاة وإما الغرق في ماء وهم آخر حتى قمة الرأس.
اختفى سعد ويبدو أن الأحداث تسرد نفسها بنفسها
هل جرّبتَ يوما وأنت تقرأ نصا قصصيا أو شعريا ما أن تطرح على نفسك السؤال التالي: ماذا لو أنّ صاحب هذا النص ليس هو من كتبه حقا؟ لا تجزع عزيزي القارئ، أعرف أنه سؤال محيّر، ولكن اطمئن، فكثيرا ما يطرح حتى الكاتب السؤال ذاته على نفسه وغالبا ما تراه يرددُ عندما ينتهي من كتابة نصوصه ــ وقد تُنشرُ أو لا تـُنشر ــ، جملا كثيرة من قبيل: ((يا سلام، يبدو كأن النص كتبه شخص آخر لا أعرفه!))، ((إنني أكاد لا أعرف نفسي في النص، وكأن صوتا آخر هو من يتحدث عنّي!))، أو ((يا للروعة، لا أعرف كيف أنني أتذكر كل هذه الأحداث، أو كيف أني أتحدث عن أشياء وتجارب لم أعشها بهذا الشكل من الدقة والإبداع!))، وقدْ تجدُ الراهب الذي لم يعاشر امرأة قط، يكتب أجمل قصائد الغزل والعشق الإيروتيكي بجمال يعجز عن فهمه أو مقاربته الشاعر أو الكاتب الذي يكون قد عرفَ أو أحبّ أكثر من امرأة، وقد تجدُ أيضا أديبةً لم تقربِ الخمرة أبدا وتكتبُ نصوصا في الخمريات والحانات بشكل لا يعرفه حتى أصحاب الحانات أنفسهم، وهكذا دواليك من المفارقات الأدبية والفنية العجيبة في حياة العديد من المبدعين كلمة ولونا وفنا وتشكيلا وموسيقى، وما قولك مثلا يا صاحبي في موسيقى بيتهوفن، على سبيل المثال لا الحصر؟ فقد تركَ الرجل للعالم أجمع تراثا فنيا إعجازيا مُدهشا وهو الكفيف الأصم! وظاهرة الاستغراب هذه تحدث أيضا حينما يصبح النص عملا مسرحيا يعرض فوق خشبات المسارح، أو فيلما يُعْرَضُ على شاشات التلفزيون والسينما، وبين ليلة وضحاها تجد كاتب النص قد اختفى من المشهد، وتصبح الأحداث هي من تسردُ نفسها بنفسها، سواء أكان النص شعريا أو قصصيا أو مسرحيا. لكني هنا لا أقصد بظاهرة الاختفاء هنا، اندثار الكاتب كليا، وإنما الدعوة إلى البدء في البحث عن هوية ذلك الصوت الخفي القابع بين ثنايا كلّ نص، والذي يجعل صاحبَه يشعر بنوع من الغربة والإقصاء أمام هيبة البوح والسؤال، وهنا أعتقد أنني قدْ وصلتُ إلى مربط الفرس، وكما سبق وتساءلت قائلة في دراسة نقدية آنفة كتبتُها خصيصا لديوان ((كفّ أمي))، “سعد ابن من؟” (19)، فإني الآن سأطرح السؤالَ نفسهُ ولكن بصيغة أخرى: من هو أب سعد الشلاه؟
العمل وتجليلته اليعقوبية
هو حمزة باقر الشلاه، ولد سنة 1912 وتوفي سنة 1997. وهو من السادة الأشراف (20)، يحب العمل والعمال، وقضى عمره كله عاملا كادحا، محبا للفقراء وقريبا منهم: ((كان أبي فقير الحال وكثير المزاح، لكنه يأنف من سؤال أحد، ويصيرُ عصبيّ المزاج عندما يمرضُ أحدُنا))، أمّا عن صفاته الإنسانية غير هاته التي زودنا بها الكاتب في نص (قبلة الزعيم)، فإن والد سعد الشلاه، كان أيضا رجلا تقيا وصاحب ورع وخشوع عظيمين، كثير الإنصات للقرآن الكريم ولا يستغني عنه حتى أثناء تواجده في محل عمله: (كان أبي يبكي عندما يستمع إلى تلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وقد كنت أحاكيه في البكاء فأحظى منه على بوسة أو اثنتين وتربيتٍ على الكتف. وقد أحببت كثيرا تلاوة الشيخ عبد الباسط وأحببت بل أكبرتُ الاسم أيضا) (21). وليس هذا فحسب، لقد كان السيد حمزة رجل نضال وكفاح ومقاومة:
((وقبل أن يغيّب في مضايف الحاكم الرشيد
أورثني دفترا سميكا وقلما
تتراقص على أوراقه رائحة الكدح
ومن القلم ينتشر أزيز لارصاص
أبي الذي خنقته صيحات الحالمين بالعدالة
وتفرّقت قطرات عرقه بين الرسالات)) (22)
ومن هذه النقطة بالذات ستبدأ رحلة الفأس كي تهدم ما سبق في الفصول السابقة من التحليل وتبني صرحا جديدا، تطرح فيه أسئلة أجدّ وأكثر عمقا من سابقاتها: ما معنى أن يكون أبُ الكاتب رجلَ كفاح ونضال؟ وما معنى أن يُمَجّدَ الأبُ على مسمع من ابنه في كل يوم وحين العملَ والفقراءَ؟
أن يكون الأبُ مناضلا، فهذا يعني أنه كان صاحب قضية، وقضيته الأساس كانت هي الوطن، والطبقة الكادحة فيه، وهو في هذا تتجلى فيه خصال أهل البيت عليهم السلام، الذين لم يكن الفقر عندهم جريرة ولا نتاج ضنك الحال والعيش، وإنما خرقة عرفانية لبِسَها الأبُ أوّلا ثم ألبَسَهَا لابنه فيما بعد من خلال تربيته على حبّ العمل والعمال، ولا غرابة أن نجد سعدا قد أصبح فيما بعدُ ولمدة سبع سنوات رئيسا لاتحاد عمال محافظة بابل. إذن فالأبُ كان قطبَ ابنه، لا يبخل عليه أبدا بالوصية والنصيحة والحكمة والإرشاد، وهذا ما يبدو جليا، في الجزء الثاني من نصّه الشعري (خيوط الروح)، الذي هو كتابة ثانية لنص (المجرشة) ولكن بحرف الشعر لا القصّ والنثر:
” ذات ليلةٍ
وقبل أن تتجمعَ الدموعُ على لسانِه
حاولَ أبي أن يوصيني
وهو يحلّقُ فى السماء
فانفجرتْ الحروفُ في عينيه كحمم البركان
وغنّى لي … يا ولدي …
كان قد أخرسَهُ القيدُ المغلونُ بألوانٍ عديدة
وطوّقتهُ جدرانُ الأزقةِ المطرزة بالشعارات
التي ذاقَ قسوتـَها وكافحها
أطبقتْ على رئتيهِ المُزمنتيّ الصفير
فأطلقَ صرخةً كالطير المهاجر
ياااااااااااااااااااااا ولدي… يااااااااااااااااولدي
لا تتحسّرْ على جراحاتٍ عتيقة
فتُحييها … وأنت تموت …
ضمِّد ضميركَ بالجديدِ وعشقِ النخيل
وابحثْ عن كلّ الأسرار
وعن أسعار البترول
اخدشْ، قدر ما استطعتَ وجناتِ الحاكمين
وتشبثْ بأهدابِ الفراشاتِ وهي تحملُ حروفَ اسمك
وابتهل … كما يبتهلُ الندى وعطرُ الياسمين
لا تبخلْ بقلبك ولا بعقلك …
وتمسكْ … ياولدي … بالحبلِ المتين
بالوطنِ وحبِّ الكادحين.” (23)
الآن يبقى السؤال الآخر الذي يلح وبشدة على معول البحث، ويقول: إذا كان الأبُ قطبَ الابن الظاهر، فمن كان فيهما إمام الآخر؟
وهو سؤال يجرّني إلى القضايا اليوسفية التي سبقَ وطرحتُها في ديوان (كف أمّي)، لأنه اليوم، وبعد هذه النصوص القصصية الجديدة يبدو جليا، أن العلاقة التي تربط سعد الشلاه بأبيه هي علاقة يعقوبية يوسفية بامتياز. والسيد حمزة كنبي الله يعقوب (ع)، كان يوصي دائما أبناءه بالعمل، والسعي في الأرض والدخول من أبوابها المتفرقة والمختلفة، لكن الذي استوعب الدرس منذ طفولته كان يوسف ولا أحد غيره، وإلا لما كان أصبح بأرض مصر وزيرا للزراعة. وسعد كيوسف على الرغم من نسبه الكريم الشريف في قومه فإنه متواضع سمح لا يتعالى على أحد. ولا شيء يشغله سوى ما يمليه عليه واجبُه بالدعوة إلى العمل كطريق للنجاة وتحقيق الأمن والسلم والسلام. هذا العمل الذي أصبح تجليلةَ سعد الأبدية، وتجدهُ ظاهرا في كل نصوصه، وهو نفسه العمل الذي جعل السيد حمزة يعترف بإمامة ابنه سعد عليه أثناء لحظات احتضاره الأخيرة وهو على فراش الموت، فقد كان ينتظره كي يحتضنه ويشمّ ريح قميص العمل فيه ويقول له بصوت المودع العابر إلى ضفاف الرحمة: (الله عم ـ ـ ـ ـ ـ ـبر!)، وهي الكلمة التي لم يستوعبها الابن آنذاك، ولم يرَ فيها أنّ الأبَ قد تنسّم عبير الجنة بين يديه المضمختين بعطر الفقراء، والعمّال.
لكن دعوني قبل ختم هذه الرحلة الشيقة في الحرف الشلاهي، أطرح سؤالي الجديد لا الأخير، فلست ممن يؤمن بحتمية إغلاق دائرة السؤال والتساؤل، لأن التأويل سؤال مفتوح على اللانهائي الأبدي: ما معنى أن يكون في حياة الإنسان أب، وأمّ وزوجة وإخوة؟ هل سبق لأحد منكم أن طرح هذا السؤال على نفسه؟ فلربما يعتقدُ كل منّا أنه من الطبيعي أن يكونَ لكل إنسان أسرة. لكن، هل يعقل أن الله قد جعل من قصة نبي الله يوسف وأبيه وإخوته القصة الأجمل والأفضل من كل ما سُرد في الكون من حكايات وقصص، هكذا فقط لأنها تتحدث عن رحلة أبٍ مع ابن يغار منه إخوته نظرا لما كان يتمتع به من خصائص كانت تميزه عنهم؟ ألا ترون أنه إذا تمّ النظر إلى القصة من هذا المنظور فإنها ستصبح قصة عادية تشبه حكايات العديد من الناس والأسر التي تتكرر فيها بشكل أو بآخر نفس الأحداث التي تحمل بعضا من الدلالات والعبر الخاصة بقصة يوسف مع إخوته؟ ثم ماذا عن الكثير من الناس الذين يعيشون فوق هذا الكوكب بدون أسرة، وليس لهم إخوان ولا أخوات ولا زوجة، وثمة منهم مَن فقد الأب أو الأم منذ الطفولة البعيدة، وثمة من جاء إلى الوجود ولم يجد أبا أو أما إلى جانبهِ؟ ما نصيبُ هؤلاء الناس إذن من العبر والحكم الموجودة في قصة يوسف، ونحن نعلم تمام العلم أن الحرف القرآني قد أرسل للعالمين أجمعين؟ ألا يمكنُ أن يكون ضمن المعنى الظاهر للقصة معنى آخر، يحتاج إلى الكشف والإفراج عنه؟
من التقويض إلى الصرح الجديد
ليست العبرة بكثرة الإخوة، ولا بوجود الأب أو الأم أو الزوجة في حياة كل إنسان، وإنما العبرة بوجود يوسف في جسد كل فرد منّا، صغيرا كان شأنه أو كبيرا، وما يوسفُ أيها القارئ الكريم سوى قلبك، أما عقلك فهو يعقوب، وحواسّكَ الخمسة الظاهرة والأخرى الخمسة الباطنة هي إخوتك الذين يضمرون الحسد والغل والحقد لأخيهم القلب، ما عدا ذاكرتك التي هي أخوك الحادي عشر فإنها لا تحسد قلبك ولا تضمر له شرّا ولا سوءا، وإني لأقصد بالشر هنا انجذاب حواسك هذه بطبيعتها إلى اللذات والمشتهيات فتمنع بذلك عقلك أو يعقوبكَ من تحصيل كمالات القلب من العلوم والأخلاق، لأنها تريدُه أن يغرق معها في اللذة البدنية والحيوانية، أي تريدُ إلقاءه في غيابات الجبّ، أمّا الذئب فهو القوة الغضبية التي إذا ظهرت فيكَ حجبت قلبك عن كل شيء وسولت له فعل كل قبيح وجذبته إلى الأسفل، وبما أنّك أيها القارئ، تنتمي بجسدك إلى الأرض التي وُلدتَ فيها، فإنَّ روحها تتناغم مع كلّ شيء فيك، خيرا كان أم شرا، وهذا يعني أن الكاتب من خلال نصوصه القصصية والشعرية أصبح هو صوت الأرض التي رأى فوق ترابها النور، أمّا والده فهو العراق نفسه: ((أبي / وطني الأخضرُ على الرغم من تعدد الخوذ / ينسكبُ فيَّ حروفَ بهجةٍ وابتكار / يصرفُ ما في جيبهِ ولا يأبهُ للغيب)) (24). أجل العراق الذي يصرخ اليوم في وجه الجميع ويقول لأبنائه جميعا، الذين هم بمثابة الحواس الإحدى عشر التي يحملها كل عراقي بداخله: ما الذي فعلتموه بي، وقد أسقطتم قلبي في غيابات الجبّ وغمرتموهُ بماء الخطيئة، وخرجتْ منكُم الذئاب، وبِتّـُم كلّ يوم تأتونني بقمصان عليها الدّم الكذب؟! وإني لا أجدُ كلمات تؤيّد ما ذهبتُ إليه من ربط سيميائي بين عراق القلب وعراق يوسف، سوى هذه الأبيات التي سبق وقالها الشاعر في جزء من قصيدته (شهقة الجمر):
” يوسف أيها الصديق امنحني من وقتك قسطا
ليشهد شاهد من أهلها
إن كانت رؤيتك قد شغفت الناس حبا
فما تأويل هذا التهالك والبيع بثمن بخس
وعلام هذا الانكسار
عذرا … يوسف أيها الصديق
سأنفخ في الصّور
لتنتفض كل أعمدة المدن المغطاة بالجليد
لتقم القيامة…
لتنتصب القامات
لتكنس كل الأنوات المتورمة
وبقايا الاضطراب
والغرباء حتى عن أرحام أمهاتهم
لا حصانة بعد احتلام
سأنفخ في الصّور
لتعود يوسف إلى وجه أبيك
ليزداد إخوتك كيلا
لتقبل الشمس والقمر
والكواكب الأحد عشر
وتعتلي صهوة عشق الكادحين” (25)
فالأب اليعقوبيّ هنا وهو يتحدث بلسان ابنه، يذكر اسم يوسف القلب بشكل صريح ويسائله ويسأله عمّا فعلهُ به إخوته وسببوه له من انكسار، شرخوا به قلب الكون الكبير، فهل سيفيق يوما إخوة القلب ويرجعون عن غيهم ليعود يوسف إلى وجه إبيهم؟!
هذا هو السؤال الذي لا يمكنني أن أجيب عليه الآن، لأن الجرح أعمق من أيّ سؤال وجواب، ومازال ينزف قصصا وأشعارا قادمة سيتحدث فيها الكاتب عن الألم والوجع العراقي من محيط القلب اليوسفي إلى خليجه.
تمّ بحمد الله وحفظه في يومه
24/07/2015
الهوامش:
سيزار قاسم، القارئ والنص، الشركة الدولية للطباعة، مصر، 2002، ص 84.
د. أسماء غريب وسعد الشلاه، تانغو ولا غير، أريانّا للنشر والتوزيع، إيطاليا، 2014.
سعد الشلاه، كف أمّي، منشورات المركز الثقافي للطباعة والنشر، العراق، 2015.
د. أسماء غريب وسعد الشلاه، تانغو ولا غير، (عندما تبكي النجوم)، أريانّا للنشر والتوزيع، إيطاليا، 2014، ص 39، في النسخة العربية، و ص 51 في النسخة الإيطالية من الديوان نفسه.
سعد الشلاه، كف أمّي، منشورات المركز الثقافي للطباعة والنشر، العراق، 2015:
ـ أمّي ص 85
ـ شهقة الجمر ص 86
ـ خيوط الروح ص 126
ـ رباعيات ص 131
تزيفيتان تودوروف، الأنواع في الخطاب، ترجمة كاثرين بورتر، مطبعة جامعة كامبرج، 1990، ص 17.
Aḥmad Ibn ‘Ağībah, L’autobiographie (Fahrasah), Traduction Jean louis Michon, Leiden 1969, p.33
عبد الله بن بلقّين، مذكرات الأمير عبد الله بن بلقين آخر ملوك بني زيري بغرناطة، ترجمة ليفي بروفينسال، (ضمن سلسلة ذخائر العرب)، دار المعارف المصرية، 1955، ص 5 ـ 10.
د. إحسان عباس، فن السيرة، دار الشروق للنشر والتوزيع، ط 1، الأردن، 1996، ص 93.
سعد الشلاه، نص (عضو مجلس).
انظر نص (مجرشة).
من نص (قبلة الزعيم).
من نص (المجرشة).
النصّ نفسه.
د. أسماء غريب وسعد الشلاه، تانغو ولا غير، (عندما تبكي النجوم)، أريانّا للنشر والتوزيع، إيطاليا، 2014، ص 39، في النسخة العربية، و ص 51 في النسخة الإيطالية من الديوان نفسه.
سعد الشلاه، كف أمّي، (رباعيات)، منشورات المركز الثقافي للطباعة والنشر، العراق، 2015، ص 131.
انظر نص (المجرشة)
تهاني عبد الفتاح شاكر، السيرة الذاتية في الأدب العربي، ط 1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان، 2002، ص 127.
لاحظ الطريقة التي ينادي بها الكاتب والده في نص (المجرشة): ((صباح الخير سيدنا، ردَّ السلام بكلمات لم أفهمْها، ورفع كفّهُ اليسرى القريبة مني فقبلتها ثلاث مرات))
سعد الشلاه، كف أمّي، منشورات المركز الثقافي للطباعة والنشر، العراق، 2015، ص 22.
نص (عبد الباسط عبد الصمد)
خيوط الرّوح، من ديوان (كفّ أمّي).
النصّ نفسه.
رباعيات، من ديوان (كف أمّي).
المصدر نفسه، ص 86.
—