احتفلت قبل أيام بإصدار العمل الأدبي الثالث ” زنبقتي و آريس ” ، فكان الاعتقاد السائد بهذا الاحتفاء المهيب و قلمي الذي لطالما استطعت أن ألوذ بحماه عبر البوابة العالمية في الأجناس الأدبية التي هي أقرب إلى شعرة من الدقة ، و لكنني خجلت من وطأة الإصدار خوفا من انتقام الانتقادات التي قد توجه لي في نظرتي للسياسة و الدين و المجتمع و سائر المحددات غير المعدودة على المبدع رغم ما كتب عنه بأنه بؤرة تاريخية لتجربة شاعر فحسب ، و إن نظرة إلى ثالوثي المقدس : رواية ” محكمة قرية التراب ” ، و ديوان ” عاصمة العراء ” , و ديوان ” زنبقتي و آريس ” يجعلني في خضم معركة أدبية تبدأ في ذاتي الباحثة عن مستنقع اضمحلالها أو القمة في فحولة تعتز بإنتاجها ، فأنا الآن بين بين ، إلى أن يتم الإنصاف في دائرة الأدب التي تخفي مركزيتها لكثرة الأقطار التي تمر في ثناياها قاطعة نصف الطريق الواصلة إلى إبداع يروق أصحاب اللغة أو المتناقلين لها بعد دبلجتها بلكناتهم ، و لعل أكثر ما يعتري المبدع في أول الطريق بل ووسطه و ساعة احتضاره هي تلك الكلمات التي تكلمنا عن غير وعي قصد ذلك أو لم يقصد ، فسهام اللغة التي تصوب نحو نص أدبي حديث مغرق في حداثته أشد سما من تلك المسخدمة في الحروب و الفتوحات ، و في الإسهاب عن هذه العبارة الأخيرة نجد أنك لا تستمر مؤمنا إن لم تمش على طريقة الأولين في العبادة ، فإن استحدثت طريقة أو أسلوبا أو لغة أو نصا أو مفردة فإنك حتما سترمى بحد الإلحاد ، و سيعوفك جمهورك الأصيل لدائرته التي خلق فيها و تنهره نفسه كلما حدثته روحه بالخروج إلى فضاء الدوائر الأخرى راكبا شعاعا على سبيل الأمل ، فليس بين الإيمان و الكفر سوى ذبذبات رقيقة من النفاق ، إما أن تذعن روحك للآخرين إيمانا و أن تسلم لما ألفيت عليه آباءك و أجدادك من الصياغة و حسن السبك أو أن تبتكر رافدا بحريا يغذي الفكر من جديد .
خلف نصوص زنبقتي عتبات مليئة بالأسئلة المضمرة في ثنايا الفكر ، و قد نخالها رواية مشبعة بالأبطال أو أبجدية جديدة يخطئ مرتادها في النطق مرارا و يحتاج إلى مدد طويلة في إتقان صنعتها من غير تلعثم أو تضاد ، على أن مهمة الناقد هي خلق النقيض الذي يوازي صياغة اللغة وفق تهيج المقاييس ، و حين يتاح للكاتب التعبير عن مكنونات ذاته يصبح في هوس الكلمات المعروضة في السوق التجارية العالمية للآداب لمرحلة يصح الحديث عنها بمرحلة الاحتراق ، فتعلو الأنا مع الطيور المهاجرة في سعة السماء معانقة حداثة مصابة بالنكرات الشديدة ، و حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود لابد من الشعور بالوهم لبرهات عديدة ، و حين يبدأ بالتساؤل عن قيمة ما يكتب يؤرقه التناسب العكسي الذي ينشأ بين كاتب و قارئ و عن تلك القسمة الضيزى لواقع الأدب الأمر الذي يجعل الكتاب مرغمين كفراشة السراج التي تحوم حوله فتصطلي بناره ثم لا تلبث إلا ان تقع جثة هامدة ، و على سبيل الكتابة عن الذات قد يتلاعب القلم المهدي إلى الأساطير و الوقائع التاريخية أو الاستدلالات المستقبلية في التأثير على التجربة الشعورية أو الأدبية ، و تتواصل هذه المضادات لتجتمع في عقلية قارئ يكشف عن الروابط الخفية في تكوين التجربة الأدبية ، و يحمل أسسا من التفاعل المستتر بفعل عوامل انعدام الفراغ القرائي عند العامة ، فينصف كاتبا جعل من ماضيه خزانة الودائع ، و من مستقبله رسالة من تحت سماء وقع في ظلها الكثيرون الذين لم يحاولوا الكلام ولو بشق خيال مبهم ، أو القراءة فقط .
يستحضر الكاتب دائما الغموض في سرده أو السيميائية في نصه الشعري ، و تكون هذه أو تلك نابعة من قدرة العقل على إنتاج الظرف الحداثي المستقبلي في رؤية الأحداث ، و يحوك مؤامراته اللفظية غير التقليدية في محاولة لنظم القضية المعرفية الموحدة للرمز و تبحث عن دلالات الارتباط بين العقل الفردي في تصوره و الخيال المتكون في العقليات الأخرى ، و ما قد ينشأ من تراصف* الأدب بتغيير البيئة المحلية التي أثرت على عوامل النشاة و التكوين ، فهذا الذي يثير الإحساس بالجدة و تغيير البنية التكوينية للأجناس الأدبية مهما استحدثت في سياقاتها التاريخية ، و لأن ترتيب الأثاث البيتي بطريقة أخرى غير تلك المعتادة من غير تبديل على قوائمة البنائية أصلا يضعنا في حداثة التجديد ، و الجدير بتلك الحداثة أن تدخل عالم الآداب بوصفه مقياسا للتطور ، و مصاحبا للمنعوتات الحديثة مهما تجمدت اللغة المتداولة ، و قد يتساءل أحدنا عن أحجية استلهام التاريخ في التعبير عن الجدة أو الحداثة ، و علاقة البيانات القرائية بالتجارب الأدبية و استدلال العقل في كشفه للمضمون ، و الدين مثلا كواحد من أعمدة الحياة يقوم على رمزية بحاجة إلى ديمومة في تفسير قواعده للوصول إلى صلاح النفس و انعتاقها من الإهمال الذي يخالف الفطرة السليمة ، و هذه الذي أسميه علنا بـ ” حضور الشاهد المنطقي ” ، فكاتب الرواية التاريخية يضع نفسه في أحداث ماضية كان قد سمع بها من وسائل الإعلام أو قراءاته المتعددة أو حتى في حديث الجدات ، و ينصب حاضره في الايحاء بنتائج تلك الأحداث مكونا نبوءته في التوصل إلى الحلول ، و هذا أيضا ما يجعلنا نرد صنيعة كاتب يقلل من قراءاته ، لأن الكتابة الفوضوية يتبعها دائما التيه الفكري في صناعة الآداب ، فيطفو القلم على سطح محيط لا يفقه كثيرا مما يقول .
*التراصف : مصطلح في الهندسة التطبيقية يشير إلى تعديل موقع جسم بالنسبة لأجسام ثانية ، أو توجه مجموعة من الأشياء بالنسبة لآخرين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– حمزة شباب / شاعر و كاتب فلسطيني .
—