في عملية الخلق الشعري آراء متباينة كثيرا ما خالف فيها النقاد الشعراء أو خالف فيها الشعراء النقاد. ومن ذلك ما اعتقده(رينيه ويليك) من أن الشاعر (بو) كان كاذبا في مقالاته (فلسفة التأليف) التي وصف فيها كيف ان عملية التأليف القصيدة “الغراب” قد مضت خطوة حتى نهايتها بالدقة و التتابع المنطقي الصارم اللذين يتطلبهما حل مسألة رياضية ، كما يدهش (ويليك) من ان معظم الشعراء المعاصرين
يدعمون فكرة الإلهام فيا لعملية الشعرية على الرغم من انه قد لا يرتاح للكلمة _ الإلهام _.
والباحث في( الأسس النفسية في الشعر) يقرر ان الفكر المبدع يمر في أربعة مراحل:الأولى حالة الاستعداد والتأهب حيث يستقبل وتتجمع لدية بضعة أفكار و تداعيات ، لكنه لا يسيطر عليها فهي تعبر بسرعة ،وفي المرحلة الثانية تبرز فكرة عامة أو حالة شعرية و تكرر نفسها بطريقة لا إرادية من حين لآخر ، وفي المرحلة الثالثة تتبلور الفكرة التي برزت ، ثم في المرحلة الرابعة تنسج هذه الفكرة و تفصل ، ومع ذلك تبقى للعملية لشعرية تلقائيتها التي قد لا تمر بهذه المراحل و كيفياتها عند الولادة الشعرية فهي أذن ليس قانونا يسري على جميع الشعراء .
وحين درس الناقد العربي رجاء النقاش ( شعر محمود درويش) في كتاب مستقل أشار إلى صفاته الشخصية بانه خجول جدا . ومن عادته ان يسهر كثيرا ، ويجد في الليل متعته وفرصته للتفكير والتأمل ، في شخصيته الكثير من البساطة ، وحب طبيعي عميق للحياة وهو ذو نزعة إنسانية عميقة ويحمل نبضا صادقا هو ثمرة الاتصال بالناس والمحبة الغامرة لهم ، وتكوين ثقافي وثيق الصلة بالثقافة العربية القديمة والمعاصرة وبالأدب العالمي ، وحين تحدث النقاش عن لعملية الشعرية عند محمود درويش أشار إلى تركيزه الشعري الدقيق بحيث يختار وينتقي بدقة حتى تصبح الكلمات القليلة مليئة بالشعر الكثير وإلى تكثيفه الإيحاءات الفكرية والوجدانية العميقة في كلمات قليلة وصور دقيقة .
ترى كيف ينظر هذا الشاعر إلى العملية الشعرية ؟ و كيف تتشكل لديه القصيدة فمن المعروف ان القصيدة ذات نمو عضوي يتطور من جوانبها كلها مع كل كلمة وصورة جديدة وتختلف الطريقة التي يأتي بها الإيقاع والمفردات والخيال والصورة من شاعر اى آخر . وهناك من يرى أن كتابة الشعر ليست صنعة أو حرفة يتخذها الشاعر مثلما يتخذ الآخرون مهنهم و عندما يبدأ الشاعر بكتابة القصيدة يكون قد أحس بان هناك أشياء قد ولدت في نفسه ، والقصيدة عملية تكثيف وخلق حالة موجودة داخل الشاعر نفسه .
ومن خلال حوار أجراه( منير العكش) مع الشاعر محمود درويش نستطيع ان نلتمس خطوات تكوينه الشعري عبر أفكاره التي تتشكل بهذا الاتجاه :
لا يرى درويش ان هناك قاعدة أو أصولا لخلق القصيدة تأخذ مجراها وتبني نفسها بطريقة تختلف عن الأخرى ،وأن القصائد تخلق طرائق متشابهة لتكوينها وتشكل بالنسبة للناقد خلاصة في الحكم على منهجه أو عفوية هذا الشاعر أو ذالك .
بدايات القصائد عنده تنطلق من الإحساس بقلق مدمر من حالة وجودية وهي لا تبدأ بتشكيل ذاتها إلا بالعثور على جملة موسيقية هي النواة الشكلية للقصيدة بعقلانية تلقائية وتأتي العملية الشعرية الثانية في كتابة القصيدة وذلك عندما يتحول الشاعر إلى ناقد لقصيدته .
التركيب النقدي للقصيدة في نظره يتأثر بالمادة الخام أكثر من تأثير الذهن وفي المادة الخام الأسبقية تكون لما يعطي تلقائيا ، وليست عملية المراجعة النقدية إلا تهذيبا للشكل لا للروح .
يرى ان عقل الشاعر يحارب الانسياق وراء الدفق الموسيقي الغنائي المبالغ فيه ، والتنسيق هو إعادة تشكيل للحالات النفسية للقصيدة من أجل خلق توازن بين أجزاءها بمنظار تركيبها الكامل .
كثيرا ما يكتب مقاطع أو جملا شعرية و يهملها ثم يفاجئ بأنها تحولت إلى زمن شعري آخر في مكان آخر أي في قصيدة أخرى والقصيدة دائما مفاجئة قد تأتي في أسوء الأمكنة والحالات النفسية وعلى أكثر الأوراق فوضوية.
في حالات كثيرة تخدعه القصيدة بانها ناضجة ومتكاملة في ذهنه و في نفسيته وعندما يحضر الورق النظيف و الأقلام الاحتياطية والقهوة ، يخونه القصيدة ويعني ذلك انه ليست هناك أية قاعدة أو عادة لعملية ميلاد القصيدة .
مما تقدم يكشف لنا الشاعر محمود درويش عن العملية الشعرية لديه من خلال مخيلة شعرية لا تخضع لقاعدة بل تدخل عالم الاستثناءات مع ذلك فان حركة الشاعر في عملية الإبداع متجهة نحو التنظيم داخل الإطار الشعري الذي يحمله وان حركة الشاعر ليست اعتيادية في المخاض الشعري الذي يحمله مادامت القصيدة بناء تألف من أبنية عدة يتلقي فيها الواقع والتهويم تغيير الدلالات التي يتحرر منها الشاعر كما هي في الواقع العملي فتكتسب دلالات جديدة في تكوينها الشعري .
—
قراءة على رغم اقتضابها حددت مراحل تشكل القصيدة بصورة عامة والدرويشية بصورة خاصة. جيدة، مفيدة ومثمرة للمهتمين بالقصيدة الدرويشية.
بورك أستاذ الأساتيذ جهد متميز،
اعجبني المقال و رسخ المبدأ الذي تقوم عليه الحركة الابداعية و الادبية خصوصا, ان لا قاعدة. ألادب فن و كل شاعر او كاتب يمر بأختلاجات مختلفة فيعبر عنها بطريقة مختلفة و لا اقصد بذلك اهمال التركيبة البنيوية للقصيدة او القصة.
تحياتي لحضرتك.