أقامَ منتدى حيفا الثقافيّ والمجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ- حيفا أمسيةً أدبيّةً، ناقشَ خلالها الكتابَ القصصيَّ (مجنون حيفا) للقاصّة د. عبلة الفاري من جنين، وذلك في قاعة مار يوحنّا للرّوم الأرثوذكس، بتاريخ 21-7-2015، وقد رحّبَ المُحامي فؤاد نقارة رئيس منتدى حيفا الثقافيّ بالقاصّة وبالحضور، وتولّى عرافة الأمسية الكاتبة عدلة شدّاد خشيبون، وتحدّث بصدد الكتابِ كلٌّ مِن الأدباء: فاطمة ذياب، مَجيد حسيسي، فتحي فوراني، سلمى جبران، مجيد حسيسي، وحاورتها آمال عوّاد رضوان، تلتها مداخلات الحضور، ومن ثم قرأت الكاتبة الفاري نصَّ مجنون حيفا، وتم التقاط الصور التذكارية.
كلمةُ العريفة عدلة شدّاد خشيبون: أي كتاب بين يديك أمّاه؟ أجبت: مجنون حيفا يا ولدي. ضحكَ ابني وقهقهَ عاليًا، وهَمسَ: تقصدين مجنون ليلى! مساؤكم بالخير أزرعُهُ، وبعطرٍ فاحَ شذاهُ في حيفا أنثرُهُ. إنّها حيفا يا بُنيّ، حيفا وما أغلاك يا حيفا. لستُ أنانيّةً، لا ولا حبّ الذّات مِن صفاتي، لكنّي الليلة بحبّي للمجنون سأكون. لست سارقةً، ولكنّي اللّيلةَ سأسرقُ مِن القمر نورَهُ، وأغيّبُهُ بحُكم الضّيوف وألف عذر وعذر، فها هي الذّاكرةُ تستحضرُ قولَ جدّي رحمه الله، يا ضيفنا، لو زرتنا لوجدتنا نحن الضّيوف وأنت صاحب المنزل! أهلًا بكِ يا زنبقةَ جنين ويا عاشقةَ فلسطين، أهلًا بكِ د. عبلة الفاري، أهلًا بوجهٍ يُشعُّ أملًا ويُبشّرُ خيرًا. الإخوة والأخوات الأفاضل؛ أهلًا بكم في هذه الأمسيةِ الثّقافيّة، لنحتفل معًا في حيفا بمجنونِها، ولا تظلموا المجنون، فكلنّا في عشق حيفا نتسربلُ الجنونَ، أوليست هي عروس البحر؟ د. عبلة الفاري أنت اليوم عروسُ حيفا، فأهلًا بكِ في حيفاك! مُغايرًا جاءَ إهداؤُها: إلى كلّ الذين ظلموني.. إلى كلّ الّذين زرعوا الشّوكَ والألمَ والمَرارَ في مسالِكِ طفولتي، ودروبِ غربتي المُوحِشةِ المُظلمة، أشكركم جميعًا، لأنّهُ لا شيءَ يجعلنا عظماءَ سوى الألم العظيم، ولأنّ الرّوحَ لا تسمو، إلّا إذا اغتسلتْ بالألم والنّور، واعتكفتْ في مَحارب العِلم والإبداع!
أجبّتي، أمسيتنا اللّيلة ستكون أيضًا مُغايرةً، فالمكانُ حيفا، والمجنونُ هو مجنون حيفا، ورحلتُنا اليوم أحبّتي ستكون في محطّاتٍ عديدة؛ مِن عاصفةِ الظّلام وكابوس الامتحانِ سنحطّ الرّحال على شاطئ ابن الشّاطئ، وسنتعرّف على قارئة العيون، وزائر اللّيل، ونسائمُ الذّكريات سترطب ورقات الذّكريات، أمّا المقابلة رقم عشرين فستتحفنا بالكثير الكثير، وسيكون الطّيف بطلًا، ومجنون حيفا بيت القصيد ولغتها.
*ومِن حيفانا الغالية يُدافعُ عن الحقّ، ويرفعُ قضاياهُ عاليًا لأجل الحقّ، كيف لا وهو المحامي الذي لا يكلّ لا ولا يتعبُ في ترتيب وتنسيقِ أمسياتٍ أدبيّةٍ تُثرينا فِكرًا وروحًا، أدعو الأستاذ فؤاد نقّارة ليقولُ كلمتَهُ التّرحيبيّةَ في هذه الأمسية الرّائعة، بكلماتٍ تداعبُ الرّوح وتطربُ الفؤاد.
*معًا نجوبُ الّليلة مع الكاتبة فاطمة يوسف ذياب من طمرة الأبيّة، صاحبة مدينة الرّيح والتي ولدت في فصل لا يشابه الفصول ويوم لا يشبه الأيّام، فكتبت في صفحتها في الموقع التواصل الاجتماعي: غدا بعونه تعالى نلتقي مجنون حيفا، ونغوص في سحر جنونه وشوقه واشتياقه، تجمعنا الكلمة والحروف، ويجمعنا الغوص بماء الحبر، وأملنا أن نعانق الحب بالحب ونشد الأيادي، ونقول أهلا بك في بلدك عزيزتي. فها الغد سيدتي الفاضلة فاطمة يصيرُ اللّيلة، فانثري طيبَ شذاكِ أيتها الكاتبة الرّقيقة بكلّ المعاني بكلماتك الرّاقيات.
كلمة الكاتبة فاطمة ذياب: عزيزتي د. عبله الفاري، حقيقةً إنّ مجموعتَكِ القصصيّةَ (مجنون حيفا) حافلةٌ في البعد الإنسانيّ، ومن قصّةٍ إلى أخرى وجدتُكِ تُلامسينَ وتتعمّقينَ في أغوارِ الوجع، بصُورٍ أدبيّةٍ بلاغيّةٍ فنّيّةٍ مُكثّفةٍ، مِن غيرِ تفاصيلَ مُملّةٍ، فتشدُّكَ جميعُها، وإن اخترتُ حكايةَ “مسعود المتعوس” على عجَل، فإنّني بحقٍّ رأيتُ فيها حكايةَ القهر والظّلم المُستبدّ، وحكاية البحث عن الذات، والّتي تكادُ تجمعُ ما بين المجموعةِ باختلافِ العناوين. إنّها بكلّ الأحوال قراءةٌ عاجلة، ولا بدّ مِن قراءةٍ للمجموعةِ مِن جديد، لأحاورَكِ وأحاورَ القصّة، على أمل أن نُلامسَ ذاتَكِ كقاصّةٍ مُبدعةٍ مِن أبناءِ الوطنِ الواحد، حيثُ تتماهينَ معَ الوجع الإفريقيّ، مِن خلال تواجدكِ في صفاقس- تونس. أحيّيكِ عزيزتي وأشكرُكِ لهديّتِكِ الرائعة (مجنون حيفا).
من القمّة الدّراميّةِ الغنيّةِ بالبلاغةِ اللفظيّةِ والمَجازيّةِ يتدرّجُ بنا النّصُّ والحدّث، مُتغلغِلًا فينا ماضيًا مِن عذاباتٍ يُعايشُها البطلُ ما بينَ قهرٍ واشتهاءٍ، يتركُهُ خلفَهُ ليُغادرَ إلى مجهولٍ، يَسكتشفُ فيهِ خفاياهُ وغدَهُ وأمانيهِ، مُسافِرًا بلا زادٍ وبلا شيءٍ، (لا عِلم، لا مال، لا مِهنة ولا أيّ شيء)، فقط يَحملُ حُلمَهُ فوقَ ظهْرِهِ، كما يَحملُ جبالِ الأماني، يُسافرُ مَشحونًا بالغضبِ.
وتُصِرُّ القاصّةُ أن نَعيشَ ذبْحَهُ مِن (الوريد الى الوريد) في انتقاءٍ مُمنهَجٍ، تحفرُهُ دواخلُنا معَ كلِّ حرفٍ. (اتخبّطُ، دمي، أرتطمُ، أتألّمُ، وجعي)، لنُسافرَ معَ البطلِ، ونحطَّ في أرضٍ لا تُشبهُ أرضَنا، وأرضُهُ بلادٌ حروفُها طلاسمُ، لافتاتُها طلاسمُ، وكلُّ شيءٍ فيها كما المَجهول الرّاكض في عبابِهِ طلاسمُ، وفي مَعمعةِ الطّلاسمِ نراهُ يبحثُ عن ذاتِهِ، حيثُ تدخلُهُ الذّاتُ إلى مَتاهاتٍ طوفانيّةٍ، فنراهُ ثانيةً يَعودُ إلى مُقارعةِ الذّاتِ، في استرجاعٍ لماضٍ كلُّهُ أشواكٌ، ليَنتبهَ إلى (لعوبٍ تُغويني)، والجيبُ مُمزّقٌ لا فِلسَ فيه؟ وتأتي النّهايةُ كما البداية بلغةِ تكثيفٍ للمفرداتِ الناقشةِ جراحَها على صفحاتِ نصّ؛ (قد يَجدُ الكلبُ عظمةً في المِزبلة تُسكّنُ جوعَهُن أمّا أنا فلا أجدُ حتى ذاتي الّتي أهلكَني البحثُ عنها، بينَ غبارِ الطّرقاتِ وأكوامِ النّفاياتِ)، هكذا نقفُ في مُواجهةِ البطلِ الباحثِ عن ذاتِهِ في ردهاتِ زمنٍ غريبٍ ووطنٍ أغرب، لا يَملكُ لذاتِهِ غيرَ الدّعاء، (يا ربّ اُرزقْني صعلوكًا يُكفّرُ عن خطاياهُ بإطعامي يا ربّ).
هل استجابَ اللهُ لدُعاءٍ أو شكوى مِن مسعودِ المتعوس بطلِ القصّة؟ هل حقّقَ لهُ أمنيةً بقرصانٍ يَجلبُهُ لسوقِ العبيدِ، ليقفزَ في البحر ويَعودَ سابحًا إلى وطنِهِ؟ لا يَهمُّه إن قضى غرَقًا، المُهمّ أن يموتَ ووجهُهُ وجبينُهُ مُتّجهٌ إلى وطنِهِ، لكن لم تشأ القاصّةُ أن تمنحَنا وتمنحَهُ هذا الامتياز، بل اختارت لهُ ميتةً أخرى، غريبًا على شاطئ مِن شواطئ أحلامِهِ، حيث تقولُ: (كتبتِ الصُّحفُ المَحليّةُ عن موتِ مُهاجرِ لا شرعيٍّ مجهولِ الهُويّةِ في ظروفٍ غامضة)، لترفعنا الكاتبة إلى أرض الواقع، تاركةً أمانينا كقرّاءٍ نرسمُ نهاياتِ القصص كما نُحبُّها أن تكون، لكنّني أُشاطرُكِ هذه النّهايةَ المُمتدّةَ ما بين خيوطِ النّصّ وبين فصولِ الواقع. إنّه الوجعُ الإفريقيّ المُهاجرُ فينا، نلامسُه ونتعمّقُ بهِ بقدْرِ ما هو غائرٌ في أجساد الأفارقةِ الفارّينَ مِن أقدارِهم، ليُلاقوا حتفَهم في عرضِ مُحيطٍ أو ناصيةِ نصٍّ، كُتبتْ حُروفُهُ ونقاطُهُ بحبّاتِ عَرقٍ يَحلُمُ أن يَجدَ ذاتَهُ المُغيّبةَ قسْرًا وقهرا. النّصُّ بمُجمَلِهِ مِن حيث البدايةِ التي تشدُّكَ إليها، وكذلك التدرُّج للوصول إلى قمّةِ الصّراع الدّراميّ، حيث قرار الهجرة، ومن ثمّ التوجُّه في هبوط البناء القصصيّ، يُشكّلُ ركيزةً فنّيّةً أجادت القاصّةُ استخدامَها بتقنيّةٍ بالغةٍ، لم تمنحْ فرصة الإفلات مِن حيث الكثافةِ التّعبيريّةِ، ووضع الإيقاع المُتدرّجِ عزفًا، يدفعُكَ للإنصات حتى يضجَّ اللّحنُ الأخيرُ بموْتِ مُهاجرٍ كانَ يَحلمُ أن يَعيشَ ككلِّ خلقِ الله. كانَ يَحلُمُ أن يُعانقَ وطنَهُ باتّجاهِ جبينِهِ وهو ميّت، وقد أبدعتِ د. عبلة الفاري في نقل الوجع الإفريقيّ، وأظنُّكِ تُبدعينَ أكثرَ في نقلِ الوجع الفلسطينيّ الّذي هو وجعُنا كلُّنا.
في قصّة ابن الشاطئ أخطبوط. هي الكلمةُ الأولى التي تبادرُكَ بها القصّة، لتجدَ في السّطر الأوّل والثاني الإسقاطَ الأدبيَّ لمجموعةٍ من مشاعرِ الوجع، بصورةٍ مُكثفةٍ بالغةٍ في السّواد، وكأنّها أرادت بذلك أن تتماهى مشاعرُ البطلِ مع لون بشرتِهِ الأفريقيّة، فنجدُ بُعدَ الأخطبوط في السّطر الأوّل والثاني، (يَجثم، اختناق، حشرجة الموت). وعلى نفس النمط وفي السياق نظلُّ نلهث وراء البطل المُثقل بهمومِهِ وأحلامِهِ، ونتوغّلُ في لُجج عتمةِ واقعِهِ؛ (مَرعوبًا مُصفرّ الوجه مزعزع الكيان). إنّ استخدامَ القاصّة لعنصر التكثيفِ هو إشارةٌ مُشفّرةٌ لِما وراء، فالقاصّةُ تملكُ أدواتها وفنيّة استخدامِها، فنندفعُ معَها لنكشفَ أغوارَ الذات لذاك الإفرقيّ، لنجدَنا عالقين بكوابيسِهِ، نُشاطرُهُ المحاولةَ بنزع الذاتِ مِن ذاتِها، هروبًا لفسحةِ حُلمٍ أو حتّى ظِلِّ حُلم، معَ كؤوسٍ مِن الكونياك، وآلافِ عُلبِ السّجائرِ التي تشتعلُ وتحترقُ وتُداسُ تحت الأقدام.
في رمزيّةٍ مُشتهاةٍ تضعُنا في رؤى البطلِ التي هي بالمُحصّلة رؤى آلافِ الأفارقة، الذين يُعايشونَ كوابيسَ الفقرِ والجوعِ والحاجة، فاختاروا الهجرةَ غيرَ الشرعيّة في رحلة عبورٍ مَجهولٍ مِن وطنٍ لا يُعايشُ أوجاعَهم، ولا يَتماهى مع أصغر حُلم يُدغدغُ مَشاعرَهم، وعبْرَ زوارق التّهريبِ بمجموعاتٍ وفرادى يفرّون، ونقفُ أمامَ حفنةٍ مِن مُخاطبةِ الوجع بمباشرة مُحبّبة؛ (سأرحل ولن يلحظ رحيلي أحدٌ. أهلُ القرية سيقولون كلب وفطس)! إنّها قسوةُ واقعٍ مَعيشٍ تُتقنُ القاصّةُ تصويرَهُ البلاغيّ، حيث نجدُ البطلَ مُدرِكًا لكينونتِهِ حتّى داخل أسرتِهِ بين أمٍّ وأب، والكلُّ مشغولٌ بهمومِهِ، والغائبُ غيرُ مفقودٍ حتّى مِن أقرب الناس رحمًا الأم وألأب؟ تجرحُنا بلاغةُ وكثافةُ التعبير، فنشعرُ بسكّينِ النّصِّ مغروزًا حتّى نصْلِهِ، بل إلى عُمقِ أعماقِ الكبد. (الأمُّ تعودُ ليلًا بعدَ يوم عملٍ شاقٍّ مُنهكةً خائرةَ القوى، والأبُ مشغولٌ بمَرضِهِ المُزمن، فهو أيضًا لن ينتبهَ لرحيلِهِ). وفوقَ هذا وذاك، وفي استرجاعٍ لذاكرةِ البطلِ تُصوّرُ العلاقةَ الفاترةَ بين البطل ووالدِهِ، وعلاقة الكرهِ لحدّ القتل. (كنتُ أريدُ قتلَهُ، لتصبحَ أمّي أرملةً وأمَّ أيتام يُشفقُ الناسُ لحالها، وتحلُّ لها الصّدقات). هكذا بأسطرٍ قليلة نعيش كما عاش البطل حالةً مِن حالاتِ الجوع والفقر والحاجة والتيه والضياع والقهر والذلّ، وكلّ ما في جعبة اللّغةِ ألأبجديّةِ مِن هموم، لكن هناك في حلكة الظلمةِ المُستبدّةِ بعضَ بصيصِ فرجٍ، ممثّلة بصديق واحد قد يفتقدُهُ ويذرفُ دموعًا غزيرةً لفقده، ومنصور ذاك الّذي حاولَ أن يُعلّمَهُ حروفَ أبجديّتِهِ على رمال الشاطئ، وكأنّي بالكاتبة تومئُ إلى مُشاغلةِ الحُلم باللّعب بأمواجٍ رعناءَ تمحو أبجديّتَهُ، لتتركَهُ كما الرّمال تذروها الرّياحُ ممزّقًا مِن غير ذاتِهِ. لا شيءَ يُذكّرُهُ بإنسانيّتِهِ ووجودِهِ إلّا تلكَ الزّوجة المُتمدّنةُ التي جلبَها منصور، ليضَعَها في أوحالِ بلدتِهِ، ويتركَها بحثًا عن لقمةِ عيش، لا يُعاودُها إلّا مرّة في العام، فتنقلُنا بقفزةٍ سريعةٍ مِن مشاعرِ السّوادِ والحلكةِ إلى الفحولةِ والاشتهاءِ، مِن خلال نظرة البطل إلى زوجةِ صديقِهِ، في استخدامِ عباراتٍ منتقاة تُماهي الصّورة البلاغيّة؛ (شذى عطرها- دفء صوتها- دلال الإيقاع). كلّ هذا العزفُ على أوتار القلب، لم يُشغلْهُ عن البحثِ واللّهاثِ وراءَ المجهول، يَمخرُهُ غيبًا وحُلمًا لعلّهُ يجدُ ذاتَه! (سأجدُ عالمي الذي طالما حلمتُ بهِ ورسمتُهُ بطريقتي)، ويَمضي كمَن يَمضي وراءَ سرابٍ في صحراءَ قاحلةٍ، وفي داخلِهِ إصرارٌ على الهجرة، حتّى لو كلّفَهُ الأمرُ أن يَعملَ بتنظيفِ المَراحيض؟!
العريفة عدلة خشيبون: كنّا نُلقّبُهُ في موقع ورقستان شاعرَ المقاومةِ والرّومانسيّة، شاعرَ الأُمِّ والأرضِ والجَمال. أستاذُ لغةٍ عربيّةٍ يغارُ عليها ويَعشقُها حدَّ الجنون، داعبَتْ أناملُهُ المَجنونَ، وبشغفٍ سارَ معَهُ مُتمنّيًا أن يُمسكَهُ بيدِهِ ليُعرّجا على حيفا، أدعو الشّاعر الكرمليّ مجيد حسيسي.
مداخلة مجيد حسيسي: يجيءُ السّردُ موزونًا، ترافقُهُ حروفٌ مِن سواقي نبعِ مـَن وهبا/ وجاءَ الوصْفُ منها كي يُذكّرَنا/ بمحمودٍ لتيمورٍ بما كتبا/ فمجنونٌ بحيفا ملَّ غربتَهُ/ ومسـؤولٌ بكـرشٍ دسَّ ما نهبا/ تنوءُ بِحمْـلِها، عبلَهْ، بعاصفةٍ/ ظلامٌ أحلكَ الأيامَ ما رغِبا/ لقارئةِ العيونِ لها مكانتُها/ وزائرُ ليلِها يشكو بما كربا/ ينادي الطّيفَ ألوانًا ليسمعَهُ/ يجوبُ الأرضَ منهوكًا كمن نصبا/ فأهلًا بالطبيبةِ في مَعاقلِها/ أنرْتِ الدارَ تمهيدًا لِمَنْ سُــلِبا!
العريفة عدلة خشيبون: فتحي فوراني ركنٌ مِن أركانِ الأدب والثقافةِ والفكر والوعي والتنوير، ومِن الأسماء البارزة في المشهد الثقافيّ الأدبيّ في هذه الدّيار، وهو أحدُ أساتذةِ ومعلمي اللغةِ العربيّةِ الأفذاذ، معرفةً وثقافةً وتراثاً وإلمامًا، وهو مُثقّفٌ وقارئٌ نهِمٌ مُتعطّشٌ دائمًا للمعرفةِ والاستزادة، وعاشقٌ ثمِلٌ للّغةِ العربيّةِ وآدابها وصَرفِها ونحوِها وبلاغتِها.
مداخلة الأديب فتحي فوراني: مجنون حيفا كسْرٌ للقوالب الكلاسيكيّةِ ونهاياتٌ ضبابيّةٌ. أيُّها الأصدقاءُ والأحبّةُ، في الآونةِ الأخيرة أنعم الله عليّ بتهديديْن من صديقتيْن عزيزتيْن. الأوّلُ من صديقتي المبدعة آمال عوّاد رضوان، فقد هاتفتني بصوتٍ أنثويٍّ ناعمٍ لا يَخلو مِن لهجةٍ عسكريّةٍ وقالت: لا تستطيعُ أن تهربَ منّي. نظِّف الطاولةَ مِن التزاماتِكَ الكثيرةَ وتفرّغْ للقاءِ “مجنون حيفا”، مع صاحبتِهِ الطبيبة المُبدعة عبلة الفاري. فقلت: لي الله.. ولا مَفرّ.
أُرحّبُ بالكاتبةِ الضّيفةِ الدكتورة عبلة الفاري في مدينتها وبين أهلها، وسأحاولُ أن أحشرَ العاصفةَ في قنّينةٍ صغيرةٍ، وهي مُهمّةٌ لا يَخفى عليكم أنّها مُهمّةٌ صعبةٌ، فنحن أمامَ كاتبةٍ طبيبةٍ عرفتْ كيف تنطلقُ مِن عِشقِها لخيرِ جليسٍ في الزمان، وعرفتْ كيفَ تُحوّلُ أدواتِها الطبّيّةَ في التّشريح، لتدخُلَ مُسلّحةً بهذه الأدواتِ إلى العوالم الدّاخليّةِ لشخوصِ قِصصِها، لتشريحِها وسبْرِ أغوارِها والانفعالاتِ التي تعتملُ في صُدورِها، وفي هذه المجموعةِ تُثبت الطبيبة الكاتبة أنّها غوّاصةٌ ماهرةٌ هادئةٌ حزينة، وأحيانًا مُتمرّدةٌ ثائرةٌ وساخرة. فالكاتبةُ ليستْ حياديّةً في تصوير دواخلِ شخوصِ قِصصِها، تعالوا فتقولُ الكاتبة في إهدائِها: إلى كل الذين ظلموني، إلى كل الذين زرعوا الشوك والألم والمرار، في مسالك طفولتي، ودروب غرفتي الموحشة المظلمة الطويلة، أشكركم جميعًا، لأنه لا شيء يجعلنا عظماء سوى الألم العظيم. كلماتٌ تُشكّلُ مَفاتيحَ لفهْمِ الأحداثِ والأجواءِ الّتي تُخيّمُ على قِصصِ هذه المجموعة، فهنالكَ صِلةُ رحمٍ بينَ المُقدّمةِ الّتي تنزفُ أسًى وسخريةً ومرارةً، وبينَ الأجواءِ الغائمةِ والنّاقمةِ التي تسودُ بعضَ قصصِ الكاتبة.
*التّماهي بين الكاتبة وأبطالِها: تعتمدُ الكاتبة على السّردِ التّحليليّ، فتقتحمُ عالمَ الشّخصيّةِ لتُصوّرَها مِنَ الدّاخل، ولا تكترثُ بالوصفِ الخارجيِّ إلّا قليلًا، فهي تندمجُ بالشّخصيّةِ وتلتحمُ فيها وتتمثّلها، فنجدُ أنفسَنا نقولُ: هذه أنت يا عبلة، أنتِ لستِ مُشرفةً حياديّة! ونكتشفُ أنّ الشّخصيّةَ في القصّةِ ليستْ سوى الكاتبة نفسها، وقد تقنّعتْ بقناعِ الشّخصيّةِ القصصيّة، وفي جميعِ القصصِ تقريبًا كنتُ ألتقي شخصيّةً قصصيّةً، فألمحُ قسَماتِ وجه الكاتبة، تحتَ قناعٍ تضعُهُ الكاتبةُ على وجهِها للتّمويهِ، ولا يَخفى على القارئ اللّبيبِ وغيرِ اللبيب أن يقرأ هذهِ الملامحَ ويَلمَسَها، مِن خلالِ الحالاتِ النفسيّةِ لدى الشّخصيّات.
تعتمدُ الكاتبةُ أسلوبَ الكشفِ عن الحالةِ النفسيّةِ للشّخصيّاتِ، فتُشهِرُ أسلوبَ التّحليلِ النّفسيِّ، وتتوغّلُ في أعماقِ بَطلاتِها، وهناك نتجوّلُ معها في العوالم الدّاخليّةِ، لتتّضحَ أمامَنا الشّخصيّةَ بمَدِّها وجزْرِها وسهولِها ووديانِها وشِعابِها وجبالِها وبحارِها، ونادرًا ما نلتقي أسلوبَ الحوار، وهو ما نجدُهُ على خجلٍ في قصّةِ “مجنون حيفا”، وتحصيلُ الحاصلِ في هذا الأسلوب أنْ يُسيطرَ المونولوج، أي الحوار الذاتي على مساحاتٍ واسعةٍ في أرجاءِ هذه القصص.
المرارة والتّحدّي: نشعرُ بالمرارةِ الّتي تعتملُ في نفوسِ الشّخصيّاتِ التي لا تستسلمُ للمرارةِ، ولا ترفعُ الرّايةَ البيضاءَ أمامَ عادياتِ الدّهر، بل تتحدّى وتتسلّحُ بالسّخريةِ المُرّةِ، وتُطاعِنُ خيلًا مِن فوارسِها الدّهر، فالكاتبةُ مشحونةٌ بالغضبِ والمرارةِ والسّخريةِ والحنينِ إلى الوطن، الذي يتجسّدُ بشكلٍ واضحٍ في قصّة “مجنون حيفا”. عرفتْ كيفَ تتمرّدُ على مبادئ القصّةِ القصيرةِ التي أرسى قواعدَها الفرنسيُّ موباسان والرّوسيُّ تشيخوف، وعرفتْ كيفَ تتخلّصُ مِن الشّكلِ الكلاسيكيّ وفي البناءِ الهرَميّ، الذي يَلتزمُ مُعادلةَ البدايةِ والعرضِ ثمّ الحدَثِ المُتصاعِد، ثمّ التوتّر وصولًا إلى الذّروة، ثمّ الحلّ والنّهاية السّعيدة أو المأساويّة، وأحيانًا لحظة التنوير، فوضعتْ هذه المعادلاتِ التقليديّةَ جانبًا، وأطلقتْ مِن ورشتِها الإبداعيّةِ العنانَ لنمَطٍ يعتمدُ وصفَ الحالةِ النفسيّةِ، والصّراعَ الذي يَعتملُ داخلَ الشّخصيّةِ، طموحًا لإرساءِ قواعد الخيرِ والحقّ والعدل.
نهاياتُ القصص: نهاياتُ القصصِ يَلفُّها الضّبابُ الّذي لا نعرفُ ما يُخفي وراءَهُ، ويطيبُ لي أن أضيفَ اصطلاحًا نقديًّا ينضمُّ إلى قافلةِ الاصطلاحاتِ النقديّةِ في القصّةِ القصيرة. إنّها النهاية الضّبابية التي يكتنفها الغموض، وتتركُ للقارئ حرّيّةَ التوغُّلِ خلفَ الضّبابِ والبحثِ عن نهاية، والكاتبة في هذا تهدفُ إلى إشراك القارئ المتلقي في تأليفِ القصّة، واختيارِ نهاية إبداعية لم تخطر ببال الكاتبة.
قبل عشرين عامًا تقريبًا، عادَ صديقي الشاعر أحمد دحبور إلى مسقط رأسهِ في مدينة حيفا، بعدَ غياب حوالي خمسين عامًا، وعندما وطئت قدماهُ عتبةَ وادي النسناس انحنى وركعَ على الأرض، وقبّلَ ترابَها والدموعُ السّخيّةُ تنهمرُ مِن عينيهِ مِدرارًا، وتحرقُ اللونَ الأسمرَ في أرض الوادي. ويومَها ألقيتُ كلمةً في استقبالِهِ كان عنوانُها “مجنون حيفا”، تناقلتها الصّحافةُ والمواقعُ الإلكترونيّة، وكدتُ أنسى صديقي أحمد دحبور “مجنون حيفا” الذي لا يُنتسى، إلى أن التقيتُ بمجنون حيفا العمّ منصور الخارج من الورشة الإبداعية لصاحبتها صديقتنا الكاتبة عبلة الفاري العائدة إلى حيفا، في حِزامِهِ يَحتفظ بمفتاح بيتِهِ في حيفا الذي احتلّهُ غزاةٌ قدِموا مِن وراء البحار، يَهيم على وجهِهِ في شوارع نابلس، وكلُّ باصٍ يَلتقيهِ في جبلِ النّار يَسأله: هل أنتَ مُسافرٌ إلى حيفا؟
لقد راحَ الفلسطينيُّ يَهيمُ على وجهِهِ حالِمًا بالعودة إلى حيفاهُ وتحقيق الحُلمِ المُشتهى، ويَسقطُ العمُّ منصور شهيدَ هذا الحُلم في أحدِ شوارع حيفا، وأيا كان الأمرُ، فمجنونُ حيفا يُشكّلُ لبنةً هامّةً ذاتَ مَذاقٍ خاصٍّ في المشهدِ الأدبيِّ الفلسطينيّ، ومَدخلًا إلى عالم القصّةِ القصيرة الفلسطينيّةِ الذي نكتشفُ كلَّ يومٍ، كم نحن بحاجةٍ إلى ركوب البحرِ واكتشافِ جُزرِهِ الخضراء، وضيفتُنا واحدةٌ مِن هذه الجزر التي تستحقُّ أن نرتادَ غاباتِها ومَناجمَها الإبداعيّة.
مُداخلةُ سلمى جبران: “الرّوح لا تسمو إلّا إذا اغتسلتْ بالألم والنّور”، إهداؤكِ هذا غسلني بالنّورِ وجعلَني أتماهى معكِ، ففي عاصفةِ الظّلامِ عشتُ رحلةَ البحثِ عن الذّاتِ، معَ امرأةٍ تعيش تبصُّرًا ذاتيًّا روحيًّا وجسديًّا، فوقعَ ذهني على صُورٍ جميلةٍ مُبدعةٍ لتجاعيدَ، ” تفنَّنَ الزّمن في زجِّها على جبينها”، لكي تتسلّلَ إلى ما وراء جدران الرّوح، وتصلَ إلى خزائنِها المُقفلة، حيثُ يُعشِّشُ الصّمتُ الأبديُّ المُتراكمُ على مرِّ السّنين”، وعلى جدران الطّريق “رسمت الرّطوبة لوحةً فنّيّةً طبيعيّةً يَعجزُ عن رسْمِها أمهرُ الفنّانين”. وماذا يَدورُ بينَ هذا الطريقِ والطّريق إلى حيفا التي تضمُّكِ إلى صدرِها اليوم وتبتسمُ لكِ!
أمامَ صوَرِكِ يا عبلة، “ينطقُ الصّمتُ وتنخرسُ الكلمات” و”يضيءُ قنديلُ الزّيت المحتضَر”، ويُحوِّلُ الفقرُ هذهِ الإنسانةَ إلى شبحٍ أسطوريٍّ مقدّس على نمطٍ بوذيٍّ إلهيّ، مردِّدًا “موّالًا شرقيًّا حزينًا حين ينامُ النّاس”. وفي كابوس الامتحان الأوّل يتضافرُ اهتزازُ القيَمِ وسقوط المُسلَّماتِ، معَ “عدم قابليّة الكلمات على الاحتراق، فتعيشُ على الورق الرّماد”! فنرى صورةً إبداعيّةً ذاتَ دلالةٍ روحانيّةٍ عميقة!
ابنُ الشّاطئ يُؤدّي بهِ الفقرُ إلى تحطيم قيَم وهدمِ ذاتٍ، وعندما تعمّدَتْ نفسُهُ بخطيئةِ مُضاجعةِ أمِّ صديقِهِ، أحبَّها وتمنّى لو تكونُ هذه حالةَ حبٍّ يَعيشُها، فوصَفَها بصورةٍ رائعةٍ تعلو إلى مصافِ “نشيد الإنشاد”. وهنا يلتقي مسعود مع عبثيّةِ الحياةِ ومهازلِ القَدَر، ويتدفّقُ طوفانًا باردًا مِن الفقرِ يبرِّدُ قلوبَ المُعذَّبين، فطوبى لهُ.
قارئةُ العيونِ تقولُ: “كبرتُ وبداخلي حمارٌ يكبرُ ويزدادُ رفْسًا، ونهيقُهُ يعلو يومًا بعدَ يوم، إلى أنْ زلزلني وأُصيبتْ أُذُناي بالصّمم”! الحُلمُ والاستغراقُ في الخيالِ يُعانقانِ الحقيقةَ، والأسئلةُ تمرُّ في الرّوح فتبقى شاردةً.
هذه لوحة امرأةٍ أنثى تتقاذفُها شواطئُ الحضارة الشّرقيّةِ منذ الأندلسِ حتّى الآن وتضيعُ بينها، حتّى يوقظَها “صوتٌ غريبٌ، خُيِّل إليها أَنّهُ نهيقُ حمارٍ قادمٌ من أعماقِها”، والصّورةُ فيها سخريةٌ مُرّةٌ عميقةٌ ونبوءةٌ قاتمةٌ تكادُ أن تُحقِّقَ ذاتَها. ضميرُ المؤنّثِ الغائبُ يَغلبُ على قصصِ المرأةِ الضّحيّةِ باللاوعي ربَّما، ويُكْملُ اللّمساتِ الأخيرةَ في لوحةِ المرأةِ في قصص “مجنون حيفا”.
*زائـرُ اللّيل يُلبّي مؤقّتًا الانتظارَ الأبديّ الأنثويَّ لِـ “الطّارق الدّاعي”، ولكنَّ رفيقَ الدّراسة النِّدِّيّ الذي التقتهُ في محراب العلم، والذي جعلها تشعُر قائلةً: “قدِمَ الرّبيع ليحلَّ ضَيْفًا في دياري، لأجدَهُ كتبني رسالةَ شوْقٍ أفلاطونيّةَ القافية مجدَليّةَ الكلمات، حبرُها نورُ الشّمس وأوراقُها غاباتُ الكرمل”.. ما أجملَ صُوَرَكِ السّاحرة يا عبلة، ولكنَّ هذا الصّديقَ رفيقَ الدّراسةِ رفَضَها، وتزوّجَ غيرَها دون إعلانٍ مُسْبَق، لتقولَ إنّهُ طَعَنَها في المقْتَل، ومقتلُ المرأةِ الشّرقيّةِ هنا ليس إلّا رفضَ وخيانةَ رجُل أحلامِها، وعندما يَضعُفُ وتموتُ زوجتُه يأتي إليها وتستقبِلُهُ مع ابنِهِ، ويَتركُهُ لها لتُربّيهِ، ويَرحلُ مُعلّقًا آمالَهُ التي لم تَخِبْ على أُمومتِها المدفونةِ في داخِلِها، فتقبَلُ الطّفل كقِدّيسةٍ تهجعُ في أيقونةِ الأُمومة.
نسائمُ الذّكريات تهبُّ على ابنةٍ دون اسمٍ أيضًا، فقدتْ أُمَّها وظلمَتْها العائلةُ فاتّخذتِ الشّجرةَ مأوىً لها، لتسمَعَها رغمَ صمتِها، وحينَ فقدَتِ الشّجرةَ، تيتَّمَتْ مرّةً أُخرى لتدورَ في مَحاورِ الفقْر والظّلمِ والحُزن والفقدان.
المقابلة رقم عشرين تفضحُ المفضوحَ مِن محسوبيّاتٍ ومَعاييرَ مُشوَّهةٍ في التّعامُل مع تعيين الموظّفين، فيَبرزُ الفسادُ ليزيدَ الفقيرَ فقرًا، وتنعدمُ مكانةُ المهنيّةِ والثقافةِ، ويسودُ كاريكاتير “مُحترِفي فنِّ الخِطابة”.
الطّيفُ صورةٌ جميلةٌ جدًّا لابنةٍ أسعدَتْ عائلتَها وربَّتْها، ولم يبقَ لها غيرُ ذلك! وعندما طرقَ الحُبُّ بابَها قالت لهُ: “كلُّهُم ينتظرونَ موتي ورحيلي، وأوّلُهُم إخوتي الذينَ كبَّرْتُهُم”. لكنّ الرّوايةَ تتأسطَرُ ويتداخلُ الخيالُ والواقعُ فيها بجاذبيّةٍ أخّاذةٍ، فيرسمُ الحبُّ لها بدايةً رائعة وحكايةً أروع، يَنسجُها خيالُ القارئِ بمُتعةٍ دونَ تدخُّلِ الكاتبة.
مجنون حيفا تتجلّى فيها روحٌ تُعدِمُ الشِّعارَ وتقدِّسُ الشُّعورَ، وتتركُ لمَن يَقرؤُها ما لا نهايةً مِن أسئلةٍ تُثيرُ متعةً فكريّةً وحِسّيّةً في آنٍ معًا، لوحةُ عذابٍ إنسانيٍّ مروِّع، لا تحترقُ ألوانُها ولا حروفُها حين يحترقُ ورقُها!
وأخيرًا، قصّتا ابن الشّاطئ ومجنون حيفا، بَطلاهُما مسعود ومنصور، عكس متعوس ومهزوم، وقد لَحِقَت السّخريةُ والمفارقةُ حتى الاسمَ! قصّتانِ كلٌّ منهما بطلتُها هي الرّاوية، وبطبيعةِ الحال بلا اسم. خمسٌ مِن تسع قصص بطلاتُها نساءٌ بلا اسمٍ، يعِشنَ في ضمير الغائب، وكلُّها راقتْ لي وتداخَلَتْ أجواؤُها في روحي، واستفزّتْني أن أُهديكِ هذه القصيدة التي قد تكون لسانَ حال إحدى شخصيّاتِكِ النّسائيّة:
تمثالٌ في ثوب ضحيّة/ أن أشعُرَ صِفرًا دونَكَ/ أَن أفنى كي تفرَحَ/ أَن تتجمَّدَ روحي حينَ تغيبْ/ هل هذا حُبٌّ أم كُفرٌ أم قُدسيَّهْ؟!/ تتراكَضُ في عمري الأيّامُ/ وتمضي، فأرى نفسي تتهادى/ بينَ غناءٍ ونحـــــيبْ/ هل يُعقَلُ أن أتواصَلَ في حُبّي/ معَ كُلِّ ملائكةِ الأرضِ/ لأُرضيَ أهوائي الذّاتيّهْ؟!/ هلّا تتعَمَّرُ مملكتي / وتُعّمِّرُ نفسي دونَ حبيبْ؟!/ هل كنتُ أُغامِرُ/ في عمري وكياني/ وأنا أَتَخَيَّلُني أعدو نحوَ الحُرّيّهْ؟!/ أم أنَّ امرأةً، دونَ قيودِ الماضي/ والحاضِرِ، في وطني/ تمثالٌ حُرٌّ في ثوْبِ ضحيّــــهْ؟!
آمال عوّاد رضوان تحاور القاصّة عبلة الفاري بإضاءاتٍ وامضة:
*1 كيف تعرّفينَ عبلة الفاري للحضور؟
أنا فلسطينيّةٌ بكلّ ما تعني الكلمة، وكلِّ ما تحملُ مِن قيَمٍ وأبعادٍ، من مواليد جنين مِن أسرةٍ لاجئةٍ مِن حيفا، طبيبةٌ مُتخرّجةٌ مِن تونس، وأوّل فلسطينيّة تتخرّج من جامعة تونس، كاتبةُ قصّةٍ قصيرة، ناشطةٌ ثقافيًّا على مستوى الوطن والعالم، وصدرَت لي مجموعةُ مجنون حيفا عن المركز الفلسطنيّ للثقافة والإعلام عام2010، وتحت الطبع المجموعة القصصيّة الثانية قنديل جدّتي، وعضو اللجنة الاستشاريّة بوزارة الثقافة. لا أودُّ السِّيَرِ الذاتيّةِ، وإنّما أتركُ النّصَّ يُعَرِّفُ بصاحبِهِ.
*2 لماذا اخترتِ العنوانَ “مجنونُ حيفا”؟
ذاتَ مرّةٍ وعلى مسافةِ عقدٍ، عبرتُ في مدينةِ الحمّاماتِ التونسيّة، حيث جلستُ بنفسِ مقعدِ معين بسيسو في إحدى الأمسيات، لتُبادرَني العريفةُ قائلة: يقولُ معين بسيسو إنّ الحمّاماتِ شديدةُ الشّبهِ بحيفا، فقلتُ: أنا هنا لأُكمِلَ ما توقّفَ عندَهُ قلمُ معين، والحمّاماتُ ساحرةُ الجّمال، لكنّي للأسفِ، لا أعرفُ كيفَ ترتشفُ الشّمسُ حبّاتِ النّدى عن جبينِ حيفا كلَّ صباحٍ، ولا كيف يُهدهدُها البحرُ حين تغفو كلَّ مساءٍ، وما خضّبتُ كفّي بترابِها، وما اكتحلتْ عينايَ بزرقةِ سمائِها، ولا تعطّرتُ بأريج بيّاراتِها. مَجنون حيفا هو الحبُّ القاتلُ، والعشقُ حدّ الجنون لحيفا، فأنا لاجئةٌ من هنا، وفي عروقي تجري دماءٌ حيفاويّة!
*3 ما سرُّ انحيازِكِ لكتابةِ القصّةِ القصيرةِ دونَ سائرِ الصُّنوفِ الأدبيّة؟
هو انحيازٌ للقصّةِ القصيرةِ التحليليّة، لأنّ القصّةَ باعتقادي هي الأقدرُ على إيصالِ الفِكرةِ بصورةٍ مُكثّفةٍ مُختصَرةٍ، فالكتبُ السّماويّةُ وسِيَرُ الأنبياءِ والسّلَفِ كلُّها اعتمدتِ القصّةَ القصيرة، مِن السّارد إلى المُتلقّي، لقدرتِها بالإيحاءِ للعقلِ والقلبِ والرّوح، حيثُ تستقرُّ الفكرةُ، لتبقى نموذجًا لقصّةٍ مِن المجموعةِ القصصيّةِ “مجنون حيفا”، وقصّةُ مجنون حيفا هو نموذجٌ شرقيٌّ في القصّة، أُبرِزُ من خلالِهِ الفرقَ بينَ النّصِّ والقصّة، باعتمادِ عناصرِ التّكثيفِ السّرديِّ والزّماني!
*4 ماذا أضافت عبلة الفاري للقصّة؟
أعتبرُها إضافةً للأدب العربيّ، فقد اعتمدتُ القصّةَ التّحليليّة، والاسترجاعَ الزّمنيَّ، ووظّفتُ الزّمنَ كبطلٍ في القصص، واعتمدتُ الحبكةَ المُفكّكةَ أحيانًا، وسِرتُ عكسَ الأدباءِ ولم أذهبْ للرواية، بل جلبتُ الرّوايةَ، والموسيقا، والشعر، والمسرح، والفن التّشكيليَّ والفوتوغرافيّ، وطوّعتُ هذه الفنونَ، ووظّفتُها لخدمةِ السّردِ القصصيّ.
*5 الغربةُ احتلّتْ حيّزًا وافرًا من عمر وروحِ عبلة الفاري، فماذا أضافت الغربةُ لكتاباتِكِ؟
يقولُ ج بول سارتر إنّ أعظمَ كتابٍ يقرؤُهُ الإنسانُ هو كتابُ السّفر، والغربةُ أثرَتْ وأغنتْ نصوصي بثقافةِ المَغاربةِ، والبرابرةِ، والأفارقة، والأندلسيّة، ودراستي باللّغةِ الفرنسيّةِ، وهي لغةُ الشّعرِ والمسرح، والموسيقا والفنّ، أي لغة الرومانسيّة أتاحتْ لي الوصولَ إلى جوي دي موباسان، وموليير، وبلزاك، وفكتور هيجو وغيرهم كثر.
*6 الليلةَ مجنون حيفا يطأ أرضَ حيفا، فماذا يحدّثنا عن مشاعرِهِ بهذهِ الأمسية؟
كان يومُهُ كإشراقةِ الشّمس على جبين حيفا، ليرتسمَ في ذاكرةِ الزّمن بحُروفٍ من نورٍ وماسٍ في منتدى حيفا الثقافي-حيفا، وبينَ نجومِ الثّقافةِ مِن كاملِ ترابِ الوطن، والليلة مجنون حيفا يستنشقُ ياسمينَ حيفاهُ، وكأنّهُ يقرأ سِفرَ حُرّيّتِهِ الآتي قريبًا. شكرًا بحجم الكونِ لمَن أعطوني أغلى ما لديهم من الوقت والجهد والمكان، ولمن تشرّفتُ بأن أكونَ معهم وبينهم !شكرًا للمتميّزة الإعلاميّة والشاعرة آمال عوّاد رضوان، الأديب الفاضل فتحي فوراني، الرّوائيّة فاطمة يوسف ذياب، الشّاعر المبدع مجيد حسيسي، والشاعرة الرقيقة كنسمات حيفا سلمى جبران، وعريفة الندوة الكاتبة الجميلة عدلة شدّاد خشيبون، والمحامي فؤاد نقارة رئيس منتدى حيفا الثقافيّ- حيفا وزوجته الرائعة، وشكرا للمجلس الملي الأرثوذكسي الوطني- حيفا، ولكلّ من ساهم في تنظيمِ وإنجاح الندوة، وشكرًا لكلّ من حضر، وكلُّ التقديرِ وآياتِ الإجلال والاحترام لكلّ مَن أرسلَ اعتذارًا راقيًا، بكُم نسمو وبكم يرتقي الأدب.
*مِن قراءات عبلة الفاري مقطعٌ يعتمدُ على توظيفِ المَسرح والتّصويرِ الفوتغرافي في فنّ القصّة القصيرة: ساعة غضب يتنادمان، يفيضان، يفرغان، ما بين مد الوصل المتقطع، وجزر الحكايات المتشابكة، ينجرفان غارقين في قتامة البؤس وخيبة الخذلان، تارةً يجهشان بالنحيب، ويعلو هزيمُ الضحكات تارةً أخرى، فيرتشفان الذكرى ويقرضان الرحيل. المخذول: الأشياء الجميلة تذوبُ كندى الصّباح، ويطيرُ شذورها مُخلّفًا الجفافَ، فيزدادُ انهلالُ الشّوقِ لطلِّ رحيقِها أكثر. البائس: الأشياء القبيحة تغورُ أخاديدُها في جبين الزمن، لتصبحَ أشدَّ يَباسًا ووعورة. المخذول: هو الحُبُّ الذي يَكسرُنا، فنتيهُ في شِعاب البدايات! البائس: هي الخيانةُ التي تقصمُنا، فنضيعُ في شتاتِ النّهايات! يُزمجران، يَتهادنان، يَغرورقان فيعتصران الذاكرة الشائكة، ليَثملا بالهواجس والتأويلات، والليلُ يَترنّحُ حولَهما كصعلوكٍ أرهقَهُ دوْسُ الأعقاب وزحْفُ الأرداف، وحين امتلأتْ صدوعُ روحيْهما بفتات الحكايات، فاضَ السّوادُ لتنطفئَ مراجلُ الدّموع، فغشتهما ساعةُ الغضب، ليرتفعَ موّالُ الوجعِ مُتناغِمًا معَ إيقاع الصفعات.
*قصّة مجنون حيفا: تبكينَ كدموعِ بقايا الشّمعةِ المُحتضرةِ في حوْضِها الصّغير،ِ السّابحة فوق سطح البحرِ الساكن فوق سكون السفن الغارقة في جوف العباب، أشعلها أحدُ الحالمين بأمنيةٍ قد تتحقق، وترفلين بأذيالك البرتقالية، كثوب الشمس الغسقيّ الآفلة عند نُشوبِ حمرة الغروب وراء الصنوبر البعيد، ثمّ تُحاكينَ الليلَ وتساهرين النجوم، تتحدّثين عن ماضٍ لا أدري أهو قريب أم بعيد، تهذين وتهذين، وأنا أستمعُ كالأبله بكلّ تركيزٍ، أخافُ أن تفوتني كلمةٌ أو عبارةٌ، أو لمحةٌ أو انفعالٌ يبدو على وجهِك الملائكيّ الأبيض كالبدر، يا لروعةِ هذا البياض يا جدّتي! كلُّ شيءٍ فيكِ أبيضٌ كأجنحةِ النوارس، والموج الغاضب المتكسر على شاطىء مدينتك الخضراء المُعلقة، شعرك، وجنتيك، أسنانك، أناملك، كلّ شيءٍ فيكِ بلون الثلج وغيم بلادنا، إلاّ هذه (العصبة) السوداء، وهذا الثوب البرتقالي المُعرّق بعيدان الياسمين الأخضر.
حين سألتكِ: لماذا هذا اللون، غلبتكِ ابتسامةٌ صفراءُ، وكانت الإجابة آهةً حزينةً على أيّام زمان، وتفجّرت الذكريات عن تراثنا وأرضنا وربيع بلادنا، ولم أفهمْ يومَها سوى أنّ البرتقالي يرمز للبيارات، والأخضر للأرض، وهذا شيء يهتم له الفلاحون. هكذا أنتِ يا جدّتي، لم تتغيّري، هززتُ رأسي بمرارة، لا أدري لِمَ اقتحمَتْني ذكرياتُها في هذه اللّحظات، وطوالَ الطريق حيث يسبح النظر في الأفق البعيد، تصدحُ فيروز بصوْتِها الملائكيّ الرائع الّذي أمتعَنا بهِ سائقُ الباص المُتّجه صوبَ نابلس، وهو يشقُّ مشاقَّ الطريق بين القرى المتناثرة فوق السفوح والتلال.
تكتظُّ جميعُ مقاعد الباص بالموظفين والفلاحين وطلبة الجامعات وغيرهم، وأنا كعادتي أجلسُ في المقعد الأوّل، أراقبُ حركة الناس في كلّ مكان، ابتداءً مِن كراج باصات جنين وانتهاءً بوسط نابلس، كلُّ شيء عشـوائيٌّ ومُبعثرٌ، وكلُّ يوم أرى أشـياءَ تبدو لي وكأنّني أراها لأوّل مرّة على جانب الرّصيف، إلّا ذلك المجنون، هو الشيء الوحيد الثابت والمتمسمر في نفس المكان والموعد.
أنزلُ من سيّارةِ النقلِ العامّ القادمةِ من قريتي حوالي الساعة السادسة صباحًا، لألتحقَ بباصِ نابلس، لينقلني إلى جامعة النجاح حيث أدرس العلوم، وبمُجرّدِ نزولي في ساحة (الكراج)، ألتقي بزقزقةِ فناجين بائعي القهوة، حيث تمتزجُ رائحة قهوة الصّباح الزكيّة برَوائح الفلافلِ والحُمّص والمَشاوي، وغيرِ ذلك مِن المأكولاتِ الخاصّةِ بالمُسافرين، إلى جانب ضوضاءِ المُحرّكاتِ وصياح السّائقين: نابلس، رام الله، القدس، عمان. أشتري رغيفَ فلافل وأضعُهُ في كيس، ثمّ كأسيْن مِن القهوة وأتّجهُ صوْبَهُ، لأجدَهُ مُنطوِيًا على نفسِهِ في المكان المعهودِ.. ينتظرُني! أجلسُ إلى جانبِهِ على حافّةِ الرّصيفِ، أُعطيهِ إفطارَهُ والقهوةَ، ونبدأ الحديثَ الأشبهَ بالمُسلسل. البدايةُ واضحةٌ، والمكان والأشخاصُ كذلك، لكنّ الرّواةَ عدّةٌ، والهُواةُ كثيرون، وكلٌّ يُغنّي على ليلاه، ويرسمُ نهايةً حسبَ ما يجوبُ مُخيّلته.
كان أوّل يوم أستقل به الباص حين رأيته لأول مرة، كان يرتدي مِعطفًا شتويًّا رثّا، وكوفية مُهترئةً مُتّسخة، مُلتحيًا وشبهَ حافٍ. صعدَ إلى الباص وحاولَ الجلوسَ، فصرخ بهِ السائقُ وسط امتعاضِ الرّكّاب مِن مَظهرِهِ، ورائحةِ سيجارتِهِ الكريهة. – اِنزلْ يا حاج! – أنا ذاهبٌ الى حيفا! أليس هذا باص حيفا؟ – لا يا حاجّ، هذا باص نابلس. – إذًا؛ خذ كلَّ نقودي وأوصلني الى حيفا.
دَسَّ يدَهُ في جيبهِ ليُخرِجَ حفنةً صغيرةً مِن نقودٍ تصدّقَ بها فاعلو الخير، نهره السائق: ألم أقُلْ لكَ إنّهُ ليسَ باص حيفا، هيا انزلْ! نزلَ يُولولُ ويَهذي ويَلعنُ: لماذا الناس أشرار؟ لماذا لا يَقبلُ أحدٌ أن يوصلَني الى حيفا؟
اشتغلَ مُحرّكُ الباص وانطلقتِ الرّحلةُ، وانطلقَ السّائقُ يُحدّثُ ركّابَ المَقاعدِ الأولى عن المجنون الّذي كلّما شاهدَ باصًا قفزَ إلى داخلِهِ، يُريدُ العودةَ إلى مدينتِهِ التي جُنَّ بحُبِّها. أحدُهُم أخبَرَهُ أن يَذهبَ إلى شارع حيفا، ويَسيرَ شمالًا. مشى إلى أن وصَلَ إلى منطقةٍ كلُّها أسلاكٌ وأشواكٌ، فنهرَهُ الحُرّاسُ المُدجّجونَ، وعادَ خائبًا غاضبًا. وأخبرَهُ ثانٍ أن يَنتظرَ في كراج حيفا وفعلَ، وظلَّ أسبوعًا كاملًا دونَ أن يأتي الباصُ لنقْلِهِ وعادَ مَقهورًا، أمّا الثالثُ فأخبرَهُ أن ينتظرَ قطارَ النّقلِ العثمانيّ، وظلَّ أيّامًا مُتوقّفًا في المَحطّةِ الّتي اندثرَتْ وتشتّتَ رُكّابُها، ومعَها غابَ القطارُ وتلاشتْ سـكّةُ الحديد..
تعرّفتُ إليه أيّامًا قليلة، كانت كافيةً لمعرفتِهِ الدّهرَ كلَّهُ. إنّهُ العمُّ منصور، يعرفُهُ كلُّ سكّانِ المدينة، منذ أن هاجرَ ابنُهُ إلى أمريكا، أصابتْهُ حالةُ جنون حيفا، فهو مِن هناكَ عاشَ طفولتَهُ يَرعى الإوزَّ، ويصطادُ الأسماكَ ويَلهو في غدير المنسي، وبعد ذلك حدثَ الّذي كان.. ليجدَ نفسَهُ يُعشّشُ في خيمةٍ، يُربّي فراخَهُ، ويَنسجُ الشّوكَ ليَفترشَهُ، ويحفرُ الصّخرَ ليَقتاتَ، ويُقاسي قسوةَ الحياةِ ليَعيش..
شديدُ الشّبهِ بجدّتي، عذبُ الحديثِ مثلها، رقيقُ القلب، واسعُ الثقافةِ رغمَ شرودِهِ وجُنونِهِ، وكانت جدّتي تُخفي مفتاحَها الحديديَّ القديمَ الثقيلَ في عُبِّها، أمّا هو فيحفظُهُ في حِزامِهِ، وكانت دائمةَ البكاءِ والهذيان، إلى أن انحبسَتْ دموعُها بصمتٍ للأبد، وكنتُ صغيرًا عن إدراك معاني كلماتِها وفهْمِ وجعِها، أمّا الآن، فإنّي كبيرٌ لحدِّ إدراكِ وجعِهِ واستيعاب مأساة جدّتي وكلِّ الجدّات.
كلُّ البيوتِ منزلُه، وكلُّ الأرضِ مُلكٌ لهُ يَنامُ حيثُما شاء، لكنّهُ كالطّيرِ المَفجوعِ بعُشِّهِ، لا غصنَ يستقرُّ عليهِ ولا وَكرَ فيهِ يَنامُ، دائمَ التّنقُّلِ والتّجوالِ، يَبحثُ عن شيءٍ فقدَهُ لا يُدركُ أين هو أو ما هو؟ لم يأتِ بالأمس ولم ينتظرْني كعادتِهِ، واليومَ كذلكَ عدتُ خائبًا، بعدَ أن علّقتُ لهُ طعامُهُ، ووضعتُ فنجانَ القهوةِ في نفسِ المكان، هل ذهب إلى حيفاه؟ لكن! بينه وبينها طريقٌ طويلٌ مرصوفٌ بالأشواكِ والأسلاك والحكايات، وقد وعدتُهُ أن آخذهُ إليها حينَ يُكملُ لي الحكاية، لأتعرّفَ إلى مدينتِهِ السّاحرةِ التي فتنَتْ روعتُها كلَّ المُدنِ والموانئِ والبلدان، وفاقَ عبقُ برتقالِها وياسمينِها كلَّ الورود، فقد أحببتُها مِن كثرة ما وصفَتْها جدّتي والحاج منصور بأدقِّ التفاصيل.
أراقبُ السهولَ والجبالَ وهي تستقبلُ الصّباحَ على جانب الشارع الجَبليِّ الملتوي، مُحاوِلًا أن أتناسى ذكرى جدّتي التي داهمَتْني بلا سابق إنذار، وبداخلي أتوجّسُ سوءًا حلَّ بصديقي، لم يُغيّبْهُ عنّي سوى صعب الصعاب.
بالأمسِ ذهبتُ إلى المستشفى الحكوميّ وعيادةِ الوكالة حيث يَتعالجُ الفقراء، ولم أجدْ لهُ اسمًا بين المَرضى، كذلك قصدتُ مقرَّ البلديّةِ حيث عمّال التنظيف، لا سمحَ الله إنْ حلَّ بهِ مكروهٌ، يَجدونَ الجثّة باكرًا في أحد الشـوارع، لكن أجمعَ الجميعُ على اختفاءِ أثرِهِ منذ يومين.
حاولتُ أن أُشغِلَ نفسي مِن جديدٍ بإعادةِ ترتيب كتبي الجامعيّةِ، لكنّي انتبهت أنّي اقتنيتُ جريدةَ الصباح، وبالرّغم مِن روتين الأخبار المُملّ فتحتُ الجريدةَ، وفي أسفلِ الصفحةِ الأولى هزّني الخبرُ، انتزعَ قلبي خبرُ دهسِ سائقٍ مخمورٍ لعجوزٍ مُختلٍّ عقليًّا مَجهولِ الهُويّة، يَحملُ في حزامِهِ مفتاحًا كبيرًا قديمًا في أحدِ شوارع حيفا.. إنّه هو، كيف وصلَ إلى هناك؟ هل امتطى الغيومَ؟ أم صنع جناحيْن وطار؟ أم حفرَ الصّخرَ بأظافرِهِ، وشقَّ طريقَهُ إلى مدينتِهِ؟
نومًا هنيئًا يا جدّاه، لتخلدْ بسلامٍ في راحتِكَ الأبديّةِ بين ثراها الطّهور، وروحُكَ تحومُ في سمائِها بين النّجومِ لتُباركَها. لكن، لِمَ رحلتَ عنّي بعد أن وجدتُكَ؟ هل أحببتَ حيفاكَ أكثرَ مِن حُبِّكَ لي يا صديقي؟ كم تسربلتُ دموعي فهي قليلة، وكم حزنت فلن أوفيك.. كثيرون هم المجانين، ولكنّي لم أرَ على شاكلتِكَ أحدًا، عشتَ فقيرًا وحيدًا، ومتَّ شهيدًا لحُلمِكَ الّذي أوْصلَكَ إلى حيفاك، بأيّةِ وسيلةٍ لا أدري، ليتني أستطيعُ الوصولَ إليك يا جدّي الرائع، كي أدفنَكَ كما يَليقُ، وأزرعُ فوقَ قبرِكَ شجرةَ نخيلٍ وغرسةَ زيتون، لتكبرا ربيعًا تلوَ ربيع، وتزورهما أسرابُ السنونو واليمام.
—