كان الفن ولا يزال أداة تصوير صِدامية للمجتمعات بتحولاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من خلال صراع الأيدلوجيات الغائبة أو ألمغيبه والحاضرة والتي تقوم على الأفكار والعواطف والتحولات السياسية في ظل مواقف مختلفة بين الأفراد حول العالم والمجتمع والإنسان، تبّنت هذه الأداة (الفن) منهج فكري طالب بتحرير الإنسان, وتخليصه والمجتمع من المظاهر التي تسربلت إلى مفاهيمه الفكرية والثقافية متنكرة بعباءة التقاليد أو عمامة الدين – بلا تحديد -, فكانت مشنقة نُصبت (لخنقه لا قتله) وضبطه
بوضعيّة (التلوي) تارة و(متنفس الصعداء) تارة أخرى للحيلولة دون تحقيق حريته والسعي نحو تقدم الإنسان أولا ثم المجتمع. لهذا كانت وظيفة هذه الأداة (الفن) السعي لتغير الواقع وظروف المجتمع فهي أشبه بشرارة ثورة أيدلوجية جديدة تسعى لتغير الواقع عن طريق مواقف فكرية أو عقيدة سياسية معبره عن قضايا المجتمع, لأن أي عمل فني بمختلف مجالاته ليس نتاجا لولادة عبثيه يسعى لإمتاع المشاهد أو تسليته كما يتهمه البعض – أو كما حرّمه البعض وفقا لهذا المُعتقد;ها قد خُنقنا مرة أخرى بحبال المُعتقد-, فالعمل الفني مبني على أساس خلفية أيديولوجية تشكل نظام فكري وسياسي واجتماعي, وما هو العمل الفني غير نافذة تُحلّق منها أفكار الفنان (صانع العمل) وتحمل مكنوناته, أحلامه, دعواته للتغيير ورغباته بصنع عالم يتنفس بصورة طبيعية؟!
هناك الكثير من الأعمال الفنية والمسرحية خاصة التي كانت حجرا أساس –دون مبالغة – ساهم بإرساء أسس وأيدلوجيات جديدة بمجتمعات عانت مخاضا مريرا على مر عصور, أذكر منها المسرح الملحمي بعد الحرب العالمية الأولى، وهو في جوهر نشأته ألماني يرجع إلى الأديب المخرج (بسكاتور) الذي حاول إلغاء الإشكال القديمة في مسرحه من خلال الفكرة السياسية بالإطار الثوري الأيدلوجي بشعارات زعماء الفكر الاشتراكي (ماركس وأنجلز ولينين) وقتذاك وغيرهم, وأيضا مسرح العبث ومسرح الغضب الذي كان نتيجة المطالب الفكرية الإنسانية بعد الحرب العالمية الثانية, التي صُبت ضمن مفاهيم فلسفية ونفسية ومنهجية دعت فيما بعد للحداثة وما بعد الحداثة في أواخر القرن الماضي وأوائل الحاضر وهذه المفاهيم سيطرت على الفن والأدب وأهدافها التي لم تعد جمالية فحسب – كما ذكرت سابقا – كالمفاهيم الاشتراكية والوجودية اللتين نتج عنهما منهج أو مفهوم نقدي جديد نستطيع أن نسميه بالأيدلوجي حيث يسعى إلى تبين مصادر الأدب والفن من جانب, وأهدافه وظائفه من جانب أخر عند الفنان التي ترتكز على منطق العصر وحاجات البيئة ومطالب الإنسان المعاصر في أطار ما كان يسمى في أواخر القرن الماضي بالفن للفن. حيث إن نشأة أجناس فنية جديدة في مجتمعاتنا تأتي دائماً كاستجابة لضرورات ظرفية اجتماعية محددة.
” إنما الفن خلق كي يعاش لا كي يقال “
الدكتورة نجاح العطار
عند الانتقال لمحور فني آخر ألا وهو الموسيقى كونه أقرب وأكثر تأثيرا بالإنسان نفسيا وسلوكيا, بمختلف شخصياته وسماته والمؤثرات التي تشكلها له تركيباتها العصابية والنفسية والسيكوباتية ونماذج الشخصيات التي تتفرع منها، كالشخصية العاجزة الواهنة، والشخصية العصابية الأنطوائية، والشخصية الدورية، والشخصية غير المتزنة انفعالياً، والشخصية البارانوية، والشخصية السلبية العدوانية، والشخصية النفاسية الفردية والهيستريائية والشخصية السيكوباتية. فهناك مؤكدا أهمية للصوت والغناء والموسيقى في بناء روح الإنسان منذ الطفولة يتأسس بدئا بالحوار المفهوم وغير المفهوم الدائر بين الطفل ووالدته كون الخيط الرفيع الذي يربط الطفل بالأم يتجلى بالموسيقى الموجودة في صوتها .
من الناحية العلمية فقد أحرز العلاج بالموسيقى نجاحاً باهراً، لم يكن في الإمكان تحقيقه باستعمال الأدوية الأخرى التي تستعمل في مثل هذه الحالات.
وكانت أولى النتائج التي حققتها التجارب التي أجراها الباحثون على الإنسان لاكتشاف فعالية الموسيقى وأثرها في تنشيط إفراز مجموعة من المواد الطبيعية التي تتشابه في تركيبيها مع المورفين، وهي ما تسمى بالاندورفينات.
إن الموسيقى بعموميتها تبدأ حيث تنتهي الكلمة، فهي عنصر جوهري في البناء الروحي للإنسان، توقظ فيه الشعور بالمعاني الكبيرة السامية: كالحق، والخير، والجمال والتحرر من مشانق ذاته أولا ومن ثم المجتمع, وتساعده على تحقيق الوئام مع نفسه، والتوافق مع الحياة من حوله، فبالتالي الموسيقى أقدر الفنون على خدمة الإنسان، كما أنها قادرة على خدمة قضايا السلام والديمقراطية والثورة والتقدم.
” يجب أن يتساءل المؤلف الموسيقى دائماً… كيف أخدم بفني قضايا البشرية والسلام والتقدم؟”.
شوستا كوفيتش
الكثير من الأعمال الموسيقية – غنائية أو معزوفة – حملت الإنسان برحلة في ثنايا ذاته المتناقضة والمختنقة بالمشانق المذكورة أعلاه كمقطوعة Journey Of Man لـ Cirque Du Soleil التي جسدت رحلة رجل صغير الحجم سافر حول العالم على ظهر مهرج, مكتشفا اختلافات الشعوب طبيعيا وتاريخيا وثقافيا, هذه المقطوعة الموسيقية كلما اسمعها أشعر إني أشاركه الرحلة بما تحمله من إمكانيات لتحريك الخيال والوجدان والرغبة بالتحليق.
” الموسيقى كفن بين الفنون يمثل كل الفن وهي الفن المزدهر خارج الزمن تبقى هي المنقذ.”
نيتشه
إن أغنية (ما بخاف) للمطربة اللبنانية (كارول سماحة) هي ما قادتني لكتابة المقال أعلاه, أو بالأصح الرسالة التي حملتها الأغنية والتي أثثها كليب المخرج العالمي (ثيري فيرجنز Thierry
Vergnes) بما حملته وتحمله من دعوة للتحرر من مشانق الذات والمجتمع ونبذ تصنيف أو تحصيص الآخر حسب معتقداته أو لون بشرته أو ميوله الاجتماعية والنفسية والسلوكية, فكانت هذه الأغنية الشرارة التي قادتني –على الصعيد الشخصي – لاتخاذ أهم قرارات حياتي ومنحتني الحافز والتشجيع للانطلاق برحلتي الخاصة نحو فضاء يرفض (التلوي) باسم المشانق.
فمن قال إن الفن لا يحّل المشانق؟
——————–
-محمد عبد الزهرة, الزبيدي “بناء الأيدلوجيات في الفكر المسرحي المعاصر”, مجلة بصرياثا, الاثنين, 22 فبراير 2010.
-علام , ياسر,( قراءة اجتماعية للظاهرة الفنية في كتاب “سوسيولوجيا الفن” تحرير ديفيد إنجيلز وجون هينجستون, ترجمة: د. ليلي الموسوي), الأحد. 21 أكتوبر , 2007, إسلام أون لاين نت. http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&pagename=Zone-Arabic-ArtCulture%2FACALayout&cid=1190886544435#***1.